طارق والي's Blog
June 22, 2016
اشكالية حماية التراث .. الاستمرارية المادية والثقافية .. مدينـة طيبة الجنـــــائزية بوابـة الخلود
مقدمـــــة ..
نحن لا نقدم نظريات في المطلق بقدر ما نرصد وجودها في الواقع ..
وبقدر عمق النظرية يكون أمتداد ظلها على الأرض ..
منهجية أرتضيناها ونمارسها .. نؤمن بهـــا ونطبقها ..
وتبقى قناعاتنا أن المواقع التاريخية التراثية والأثرية تقدم صوراً لميلاد إبداعيات تجسد عبقرية التقابل بين الإنسان وعصره ، وتمثل طاقات كامنة يختزنها المكان على طول الزمان ، لتكون إمكانية قراءة متجددة لإبداعات حضارية كانت ومستمرة ، ومن هذه الرؤية تنطلق فلسفة تنمية تلك المواقع وحمايتها من خلال إعادة تقويم العملية الإبداعية نفسها وإعادة إكتشافها في صورتها المطلقة المتمثلة أحياناً في التناقض الظاهر أوالتفاعل الباطن . تتعدى تلك التنمية التجميل الظاهر إلى استحضار القيمة الحضارية بصورة تجعل الموقع ذاته متفاعلاً مع الزمن الحاضر، مع رسم صورة جديدة قديمة تتيح لنا أن نرى ونسمع لحضارة كانت ، وتكتسب عملية التنمية بعداً مغاير عندما تعاني المواقع من تدهور وتكون مهددة بالضياع والاندثار، فتظهر أولوية الحفاظ عليها وحمايتها ، وهي ليست مشكلة حديثه في عمرها الزمني ولا محلية في حدودها المكانية ، وتعددت المناهج والتجارب في الحفاظ على المواقع الأثرية ..
وعلى المستوى المحلى تواترت المحاولات من التجربة الرائدة في نقل المعابد المهددة بالغرق نتيجة بناء السد العالي ، مروراً بالاكتفاء بالصيانة الدورية أو الترميم إلى فرض قواعد على الزائرين داخل حرم تلك المواقع ، وصولاً إلى غلق المواقع المهددة امام الزيارة بصفة مؤقتة أو دائمة .
أما على المستوى الدولى ظهرت الكثير من المنهجيات والتقنيات التي أستهدفت الاستمرارية المادية للمواقع الاثرية في مواجهة خطر الاندثار والضياع ، وتبني منظومات علمية حديثة في الحفاظ على تلك المواقع وحمايتها ومعها تتحقق الاستمرارية المادية والثقافية .
مدينة طيبة الجنائزية ـ المقابر الملكية المصرية ..
تأتي "مدينة طيبــة" في مقدمة المواقع الأثرية المصرية هنا في أعالي النيل ، وعندها شكل المصري القديم مدينة جنائزية على جبال الغرب في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والحادي عشر قبل الميلاد ، تضم مقابر ملوك ونبلاء الدولة الحديثة الممتدة خلال عصور الأسرات الثامنة عشر وحتى الأسرة الواحدة والعشرين ، بالإضافة لمقابر زوجات الملوك والنبلاء وأبنائهم وبعض القبور التي لم يتم تحديد هوية أصحابها ، ومع رمسيس الأول كان وادي الملكات على مقربة من وادي الملوك .. وعموماً أمست تلك المنطقة مركزاً للتنقيبات الكشفية منذ نهاية القرن الثامن عشر وإلى اليوم ، وتم أعتماد مدينة طيبة الجنائزية بالكامل كموقع للتراث العالمي سنة 1979 . وتتميز عموماً المقابر الملكية بجداريات تعبرعن العقائد الدينية والمراسم التأبينية في ذلك العصر، وبالرغم أن غالبية المقابر المكتشفة قد تم فتحها ونهبها في عصور قديمة ، إلا أنها أستمرت دليلاً على حضارة ذلك الزمان ، مما جعل منها مركز جذب للزائرين والدارسين وكذلك لصوص وتجار الآثار على مدى قرون من التعدي والنهب قديماً وحديثاً .
مدينة طيبة الجنائوية
موقع التراث العالمي لمدينة طيبة الجنائزية
الاخطار التي تتعرض لها المقابر الملكية بمدينة طيبة الجنائزية ..
أدت شهرة المقابر الملكية وتفردها إلى تزايد أعداد الزائرين ومعها تفاقمت المشاكل التي لحقت بالنسيج العمراني للمنطقة وكذلك البنية المعمارية للمقابر، فقد ازدادت معدلات الزيارة للمقابر الملكية بصورة مضطردة من بضع عشرات من الزوار يومياً في ستينات القرن العشرين لتصل إلى أكثر من 7000 زائر يومياً سنة 2005 ، ومع نهاية العقد الماضي وصل عدد الزيارات للمنطقة إلى 1.8مليون زائر سنوياً ، مما يشكل احد أهم وأخطر العوامل التي تهدد المنطقة واستمراريتها المادية والثقافية حيث تؤدي هذه الزيارات إلى احداث نوع من التغير المناخي داخل المقابر وتغيرات في درجات الحرارة والرطوبة ، بالإضافة إلى سلوكيات الزائرين ، مما يؤثر بشدة على رسومات الجدرايات وتآكلها أو سقوطها ، وبالطبع هناك متطلبات مستجدة لخدمة تلك الزيارات منها تدخلات في طبيعة المقابر وبنيتها الاساسية حيث تقتضي الحاجة إلى تركيب أعمال اضاءة وتهوية وإنشاء مداخل مجهزة لحركة الزوار وخدمات للمنطقة السياحية مما يغير في كثير من الاحيان من طبيعة المكان وملامحه الأصلية .
بالإضافة إلى التهديدات الطبيعية التي تواجهها المقابر والتي تتمثل في السيول وعدم الاستقرار الجيولوجي واخطار الانهيارات الناتجة عن عدم الاستقرار الهيكلي النسبي للحجر الجيري ، والتغيرات البيئية للوادي حيث يقع الوادي في منطقة تتعرض لسبعة مسارات فيضانية نشطة تصب في قلب الوادي ، وهي المنطقة التي تعرضت تاريخياً للفيضانات في نهاية عهد الأسرة الثامنة عشر الأمر الذي أدى إلى ردم العديد من المقابر تحت ترسيبات الفيضان ، وهو ما أكدته أعمال التنقيب أثناء اكتشاف كل من مقبرة 63 ومقبرة 62 ومقبرة 55 ، والتي تم الكشف عنها في الأرضية الصخرية الفعلية للوادي والتي غطتها الترسيبات الفيضانية والتي تنخفض لأكثر من خمسة أمتار عن مستواها الآن ..
ويرجح المتخصصون ان في ظل تلك العوامل
فإن المقابر الملكية في مدينة طيبة الجنائزية
قد تكون مهددة بالاندثـــــــــــــــــــار خلال الـ 25 سنة القادمة
الحفاظ على المقابر الملكية ..
إن التعامل مع المقابر الملكية المصرية ينبغي ان يكون فائق الحساسية ، فعلى الرغم من ان تلك المنشآت الفريدة قد عاشت آلاف السنوات وتحملت عصوراً طويلة من التعدي والنهب والسرقة ونجت من الكثير من العواصف والسيول الا انها اليوم غير قادرة على الصمود ، ووسائل الحفاظ والترميم التقليدية ليست دائما هي الانسب للحفاظ على الوجود المادي لتلك المواقع الفريدة ، فإذا كانت الاجراءات الخاصة بحماية المقابر الملكية ومحيطها المكاني تؤثر على البقاء المادي لها فان الهيئات المعنية قد تتخذ احيانا اجراءات أكثر حسماً لحماية تلك المقابر فتقوم بغلقها امام الزائرين ، وفي جميع الحالات تفشل الوسائل التقليدية في الحفاظ والتعامل مع المقابر الملكية في تحقيق التوازن المطلوب بين استدامة الوجود المادي للمقابر وفي الوقت نفسه تمكين العامة والدارسين من التفاعل معها والتواصل مع ما تحمله من قيمة ثقافية صمدت آلاف السنوات وتستحق أن تبقى لاجيال قادمة .
وهنـــاك بُعد آخر هام وسابق لكل تلك العوامل .. إن تلك المواقع ونقصد المقابر الملكية فهي في حقيقتها الراسخة في العقيدة المصرية القديمة بوابات الخلود للحياة الابدية ، ولم يصممها المصري القديم لتكون مفتوحة للزيارة أو حتى الدخول ، ولكنها مغلقة على نفسها لضم المومياوات في عالم الابدية انتقالاً من الحياة إلى الخلود حتى البعث .. وهو ما نتعدي عليه اليوم دون وعي لطبيعة المكان وفلسفة وجوده مما يؤثر على ادراكنا وبالتالي استمراريته الثقافية ، كما كانت التعديات والتغييرات تهدد استمراريته المادية.
فكانت الحتمية بالضرورة البحث على منهجية مغايرة
لحماية "المقابر الملكية" بوابات الأبديــــة في مدينة طيبة الجنائزية
التقنية الحديثة في خدمة التراث الانساني في المقابر الملكية المصرية ..
مما تقدم نؤكد على حتمية تبنى مناهج ورؤى مغايرة للتعامل مع تلك المواقع الفريدة لضمان الاستمرارية المادية للموقع وعمارته دون أن يؤثر ذلك على التفاعل معه ثقافياً ، مع الأحذ في الاعتبار معايير الدولية للحفاظ على التراث الثقافي ، ومن هنا تصبح الامكانيات لتحقيق ذلك محدودة في بعض الاحيان وذلك طبقا لطبيعة الموقع الاثري والتفاعل المستهدف معه .
وفي مشروع حماية المقابر الملكية نتعامل مع أحد المنهجيات التي استخدمت حديثاًعلى المستوى الدولي في الحفاظ على المواقع الاثرية ، وهي :
التسجيل الرقمي ثلاثي الابعاد عالي الجودة للمواقع الاثرية (High Resolution 3D Recording ) .
انتاج مستنسخات للمواقع أثرية (Production of Exact facsimiles) .
حيث تتيح تقنية التسجيل الرقمي ثلاثي الأبعاد إمكانية التوثيق الكامل والدقيق والحصول على نسخة رقمية دقيقة عالية الجودة من أي موقع أثري ، مما يجعلها ـ النسخة الرقمية ـ قابلة للنشر والتداول بين الأوساط العلمية والمتخصصين ، وكذلك متاحة للدراسة والفحص الدقيق بكافة التقنيات الممكنة دون المساس بالموقع الاصل ، كما تمنح المستنسخات امكانية تحقيق تجربة زيارة الموقع الأصلي دون الاضرار به ، وجعله متاحاً دون الخوف من تأثره أو ضياعه وحرمان الأجيال القادمة منه ، وقد ثبت دولياً فعالية استخدام تلك التقنيات لتسجيل وكشف تاريخ العديد من المواقع الفريدة ، وأكتسبت هذه المنهجية في الحفاظ على الكنوز الأثرية قبول واسع ليس بوصفها فقط أكثر فعالية في حماية المواقع المهمة والمعرضة للخطر ، وإنما أيضا لأنها تسهم في دراستها كما تساعد على مراقبة حالة هذه الآثار وتآكلها ، وقد قدم التطور في مجال التقنيات الرقمية فهم جديد ومتسارع لمسألة الحفاظ على التراث الثقافي .
ونتيجة لذلك التحول طورت مؤسسات متخصصة تقنيات جديدة مما افرز العديد من مستنسخات لمواقع أثرية سواء في موقعها الأصلي أو في المعارض الجوالة ، مما أدى بالتبعية إلى تحول الاهتمام للعامة إلى قوة مساعدة في حماية المواقع الاثرية وخلق نوع جديد من السياحة الثقافية المُدركة أن كل زيارة مؤثرة سلبا لمواقع التراث تكاد يكون عملا من أعمال التعدي السلبي ، وأن لكل زائر دور فعال ايجابي في الحفاظ على المواقع الأثرية لا يقل في أهميته عن دور القائمين على رعايتها . وتأتي تجربة مؤسسة فاكتوم أرت الأسبانية في تطوير تقنيات جديدة لتسجيل وفحص وأرشفة المواقع التراثية والأثرية والكشف عن تاريخها .واثبتت تلك المنهجية دوليـــاً ان السياحة الثقافية هي المستقبل الفعلى للحفاظ على التراث الانساني ..
في جنوب غرب فرنسا يزورالآلاف من الزوار يومياً مستنسخ Lascaux II الذي تم بناؤه سنة 1983 .
تم بناء مستنسخ كهف NeoCueva في ألتاميرا سنة 2001 في شمال أسبانيا ، ويجذب الآن ثلاثة أضعاف عدد زوار الكهف الأصلي ، الذي تم إغلاقه سنة 1979 .
مقابر أترورسكان في تاركينيا Etruscan tombs in Tarquinia التي تواجه العديد من المشاكل نفسها التي نواجهها عندنا في المقابر الملكية في مدينة طيبة الجنائزية .
كما استخدمت أنظمة التصوير الثلاثي الأبعاد في المتحف البريطاني في لندن وفي البيرجامون ببرلين وفي المتحف الوطني للفنون في دريزدن ، ومتحف الآثار والمكتبة الوطنية ومتحف النقوش الوطني ومتحف ديل برادو في مدريد ، و متحف اللوفر، ومتحف بريرا ميلان ، ومتاحف أخرى عديدة .
ولا تزال هذه المواقع في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وإنجلترا تجذب أعداد هائلة من الزوار. أما على المستوى المحلى فقد كانت كانت أول تجربة لمصر في مجال التصوير الضوئي عالي الدقة وانتاج مستنسخ لمقبرة تحتمس الثالث سنة 2003 ، للمشاركة في معرض في المتحف الوطني للفنون في واشنطن ، الذي قام بجولة في سبعة متاحف في الولايات المتحدة لمدة ثلاث سنوات واستقبل حوالي 3 مليون زائر ، وعرضت نسخة المستنسخ في المتحف القومي اللآثار في مدريد ولاقت نجاحاً كبيراً وجالت في اثني عشر متحفاً آخر .
مشروع التوثيق الرقمي وانشاء متحف موقع
لمستنسخات مقابر نفرتاري ـ سيتي الاول ـ توت عنخ امون ..
كانت الخطوة الثانية والأهم في هذا المجال الجديد سنة 2009 المبادرة التي قدمتها كل من :
جامعة بازل ـ سويسرا
وجمعية أصدقاء المقابر الملكية في مصر ـ زيوريخ
ومؤسسة التقنية الرقمية للحفاظ على التراث Factum Arte ـ مدريد
ومركز طارق والي العمارة والتراث ـ القاهرة
مبادرة للتسجيل الرقمي ثلاثي الابعاد عالي الجودة وانتاج مستنسخات لثلاثة من أشهر المقابر الملكية المصرية وأكثرها تعرضا لعوامل التدهور ، وعرض تلك المستنسخات بشكل دائم في متحف موقع بمدخل وادي الملوك بالاقصر، ليصبح التسجيل الرقمي لتلك المقابر متاحاً للنشر والدراسة في كافة الاوساط العلمية والاثرية بل وايضا الدراسة والفحص ولكن دون المساس بالمقابر الاصلية ، وتوفرالمستنسخات فرصة لمعايشة نفس تجربة الزيارة الاصلية . وقدرت دراسة الجدوى الابتدائية للمشروع حينها ان ما يزيد عن 500,000 زائر سيقومون بزيارة الموقع سنوياً ، هذا بالإضافة إلى امكانية اقامة المعارض الخاصة بدراسة كل مقبرة وانشاء موقع الكتروني يتيح مشاهدة ودراسة النسخة الرقمية من تلك المواقع عن بعد ، وهو ما سيساهم في الاستمرارية الثقافية والمادية للمقابر الملكية في مدينة طيبة الجنائزية على المدى الطويل ، والمقابر الملكية المعنية هي ..
مقبرة نفرتاري ..
اكتشفها سكياباريللي سنة 1904وكانت قد كُسرت وسُلب ما فيها واختفت الكنوز التي كانت بها ، وحُطم تابوتها وسرقت المومياء . وتعتبر الرسوم الجدارية في مقبرة نفرتاري من أجمل رسوم الفن الجنائزي الفرعوني وتعتبرمن أشهرها وأكثرها اكتمالا حيث تمثل ما يوازي حوالي 5200 قدم مربع من اللوحات الجدارية بالاضافة الى سقف حجرة الدفن . ونظرا لاهميتها وتفردها فقد لاقت اهتماما كبيرا منذا اكتشافها فعلى سبيل المثال في العشرينات من القرن الماضي رعى متحف المتروپوليتان في نيويورك عملية كبيرة لتوثيق الرسومات بتصويرها ضوئيا. وقدعانت المقبرة من التدهور المستمر والمتسارع منذ اكتشافها وحتى سنة 1971 حيث فقدت الكثير من رسومات وألوان الجدران بالاضافة إلى حدوث تغييرات جذرية في هيكل المقبرة نفسها نتيجة لتعرضها للغمر بمياه السيول ، وفي النهاية لجأت الحكومة المصرية إلى إغلاق المقبرة أمام الزوار في أواخر ثلاثينات القرن الماضي بسبب المشاكل المختلفة التي تهدد الجداريات ، ومن سنة 1986 حتى سنة 1992 كانت عمليات الترميم ، وعند الانتهاء منها ظلت المقبرة مغلقة لمدة خمس سنوات عندما أعيد فتحها مرة اخرى ولكن مع تقليل عدد الزوار الى 150 زائر في اليوم ، ومع بداية العقد الثاني من هذا القرن قررت الجهات المعنية غلق المقبرة مرة أخرى .
المقبرة حاليا مغلقة لعامة الناس و لكن ما يزال يمكن زيارتها خلال مواعيد خاصة .
مقبرة سيتي الاول ..
اكتشفها جيوفاني بلزوني سنة 1817 وهي من أهم المقابر الملكية من ناحية الحجم والرسومات الجدارية ، يزيد عمقها عن 137 متر وبمساحة إجمالي حوالي 650 متر مربع ، وتمثل قمة التطور في عمارة المقابر الملكية في الدولة الحديثة .. فهي الأطول والأعمق والأكثر اكتمالا بين مقابر وادي الملوك .. كما إن جدرانها مغطاه بالكامل بمساحات مبهرة من الجداريات والكتابات والرسومات . وقد عانت المقبرة كثيراً من أيدي المخربين ، ولعدة أسباب تلاشت الكثير من الالوان الزاهية للجداريات بعضها بسبب الرطوبة والبعض الآخر نتيجة الزمن وسلوكيات الزائرين ، واجزاء اخرى من الجدران قد اسودت النقوش المرسومة عليها نتيجة الدخان من الشموع والمشاعل التي أستخدمها أوائل الزائرين في القرن التاسع عشر ..كما تعرضت خلال تاريخها لكثير من التعديات والتغييرات أهمها كان تعرضها للسيول المتكررة اكثر من مرة خلال تاريخها الحديث ومنذ اكتشافها مما اأدى الى سقوط اجزاء كبيرة من الجداريات ورسومات الاسقف بالاضافة الى اعمال الحفاظ والوقاية المختلفة التى اجريت عليها منذ اكتشافها . وانتاج مستنسخ لمقبرة سيتي الأول هو الجزء الأكثر طموحا في المشروع ، ولا يرجع ذلك فقط إلى الحجم الكبير للمقبرة ، ولكن يعود أيضا إلى صعوبة إعادة تجميع الأجزاء الناقصة من المقبرة والتي فقدت في القرن التاسع عشر، حيث هناك أكثر من 2000 قطعة متواجد في متاحف مختلفة في أوروبا والولايات المتحدة ويمكن عن طريق التسجيل الرقمي ثلاثي الابعاد اعادة انتاجهم ومشاهدة المقبرة مكتملة لاول مرة مع المستنسخ .
المقبرة مغلقة امام الزيارة العامة
مقبرة توت عنخ امون ..
اكتشفها هوارد كارتر سنة 1922، وهي اول مقبرة تم اكتشافها بكامل محتوياتها وكنوزها وبحالتهااا الاصلية تماماً وتتميزبجداريات غرفة الدفن وأبعادها 3.64× 4.11متر وبأقصى عرض 6.35 ، وهي مزينة بالكامل بمشاهد متتالية في اتجاه عقرب الساعة من كتاب الموتى ، وعدة مشاهد تصور توت عنخ آمون يقابل الآلهة ومن ضمنهم أوزوريس ورسوم رائعة تحكي قصة رحلة توت عنخ أمون إلى عالم الأبدية ، وتحوي غرفة الدفن التابوت . وتعرض غالبية محتويات المقبرة 1700 قطعة في المتحف المصري بالقاهرة والقطع الآخرى مخزونة في المتحف ، و بعض منها يعرض في متحف الأقصر . ومنذ اكتشاف المقبرة تمثل محور جذب للمهتمين بالحضارة المصرية القديمة عموماً ، وواحدة من اهم المزارات السياحية في مصر مما جعلها من المواقع الاكثر عرضة لعوامل التدهور المتسارع عبر السنوات ودفع القائمين عليها بحلول سنة 2007 بفرض رسوم إضافية لدخول المقبرة غير تلك المفروضة لدخول وادي الملوك ، كما تم تحديد عدد زوار المقبرة إلى 400 زائر يوميا .ثم اغلاقها امام الزيارة السياحية منذ سنة 2011 .
المقبرة مغلقة ويمكن زيارتها خلال مواعيد خاصة .
عناصر مشروع التوثيق الرقمي وانشاء متحف موقع لمستنسخات المقابر الثلاث ..
التسجيل الرقمي ثلاثي الأبعاد على درجة وضوح عالية ، لكل الأسطح والجداريات داخل المقابر .
انتاج مستنسخات للمقابرالثلاث وبعض محتوياتها .
انشاء متحف موقع بالبر الغربي سيتم فيه تركيب المستنسخات لكل من هذه المقابر .
انشاء أرشيف رقمي عالي الجودة يكون مرجع أساسي لرصد التغيرات على حالة المقابر .
انشاء مركز للتدريب على المسح الضوئي يتم فيه اتمام علمية التدريب لكوادر محلية .
المرحلة الاولى ــ مستنسخ ومتحف موقع مقبرة توت عنخ امون ..
تمثل تلك المرحلة البداية الحقيقية نحو رفع مستوى الحفاظ للمقابر الملكية كما انها تمثل بداية لتبني افكار جديدة من شأنها منح بعداً معرفياً وتثقيفياً للمواقع الاثرية ، وبدأ العمل بمقبرة توت عنخ امون 16 مارس 2009 وأنتهت مرحلة تسجيل البيانات 6 مايو 2009 ، وتم بناء مستنسخ المقبرة وتركيبها في 3 اشهربدأت يناير 2014 وأنتهت في أول ابريل 2014 ، وكان توفير تمويل المشروع بأكمله من دعم ومعونات وتبرعات الجهات الدولية المهتمة بنشر الفكرة والحفاظ على التراث ، وإجمالي تمويل تنفيذ المرحلة الاولى من المشروع حوالي 20 مليون يورو . وتكون المشروع من ثلاثة عناصر رئيسية هي :
أولاً ــ التسجيل الرقمي لغرفة الدفن ..
تمت مرحلة التسجيل الرقمي لمقبرة توت عنخ امون على عدد من المراحل يمكن تلخيصها في :
المسح الضوئي ثلاثي الابعاد للمقبرة
التصوير الفوتوغرافي في مقبرة توت عنخ آمون
مراقبة العمل و تصوير الألوان في المقبرة
تسجيل الألوان ودراسة حالتها
ثانياً ــ انتاج مستنسخ حوائط واسقف غرفة الدفن ..
تم انتاج مستنسخات الحوائط والاسقف ، وكذلك التابوت باستخدام تقنيات عالية الجودة في الحفر ثلاثي الابعاد يضمن الدقة المطلوبة وهو الجزء الأكثر تكلفة وأستغرق الوقت الأطول في عملية انتاج المستنسخ ، وبمساعدة من معهد جريفيث في أكسفورد ، الذي زود فريق العمل بصور فوتوغرافية بالأبيض والأسود لجزء مفقود من الجدار الجنوبي لغربة الدفن ، وتم اعادة الالوان لتلك الصورة باستخدام وثائق عالية الدقة للجدار الجنوبي المسجلة في المقبرة في سنة2009 حيث درست الصورة الفوتوغرافية عن كثب وتمت إزالة الشظايا التي بقيت على سطح الجدار ، وطباعة الرسومات التي كانت موجودة على الجدران باستخدام نفس نماذج الالوان الموجودة بالمقبرة ، وإعادة انتاج الأجزاء المفقودة ..
استنساخ الحوائط
انتاج مستنسخ حوائط واسقف غرفة الدفن
ثالثاً ــ انشاء مستنسخ المقبرة ومتحف الموقع ..
يهدف انشاء متحف موقع مستنسخ مقبرة توت عنخ امون محاكاة تجربة الزيارة الاصلية مع اضافة عناصر مستحدثة للزيارة ، مع رفع الوعي باشكالية حماية الأثر ومساعدة الزائرين على تقبل حلها ، واهمية استخدام افكار مماثلة للحفاظ على المواقع الاثرية مما يعطي لسياحة المواقع الاثرية بعدًا اكثر استدامة ويلفت النظر إلى المخاطر التي تهدد بقاء مثل تلك المواقع والتي يعد اقلها هو حرمان الاجيال الحاضرة من زيارتها والاستفادة بما تمدنا به من معرفه . هذا بالطبع بالاضافة الى مايمنحه التوثيق الالكتروني الدقيق لمثل تلك المواقع من فرصا اوسع للتعمق في دراستها . بالاضافة إلى ايجابية التفاعل مع المجتمع المحلي والاستفاده من خبراته ومراعاة ظروف الموقع الاصلي والموقع المستحدث .
ويمثل هذا المشروع نموذجا للتزاوج الممكن بين الرؤية المعمارية والتقنية العالية ، حيث قام مركز طارق والى بتطبيق جديد لمنهجيته في استقراء المواقع الاثرية وتقديم معمار حديث يلبي احتياجات آنية ومستحدثة وفي الوقت نفسه ينبع من الروح الحضارية للموقع الاثري ، تم اختيارجوار متحف هوارد كارتر- مكتشف المقبرة - في مدخل وادي الملوك موقعا لمتحف الموقع مما يعد تعبيرا عما يمثله هذا المشروع من اعادة اكتشاف للامكانيات الكامنة في مثل تلك المواقع عموما وفي حالة مستنسخ مقبرة توت عنخ امون خاصة .
واتخذت الرؤية المعمارية لهذا المشروع مدخلا يتعدى كونه مستنسخ للمقبرة ، إلى كونه كمتحف موقع يحكي تاريخ المقبرة منذ اكتشافها ويمنح الزائر الكثير من المعرفة حول المقبرة ، ويوفي باحتياجات مستحدثة لا توفرها زيارة المقبرة الاصلية ، فعلى سبيل المثال يستوعب هذا المتحف مستنسخ غرفة الدفن وبالإضافة إلى مساحة معرض محدودة لشرح المخاطر التى تتعرض لها المقابر الملكية من جراء إرتفاع أعداد الزائرين للمقابر الأصلية. الامر الذي لم يكن ممكنا تطبيقه في المقبرة الاصلية ، بالاضافة الى جعله مناسب لذوى الإحتياجات الخاصة ومراعاة ذلك في تصميم مدخل المقبرة ، وغيرها من الاعتبارات التصميمية التي تجعل من الزيارة تجربة ثرية دون ان يخل ذلك بروح تجربة الزيارة للمقبرة الاصلية. حيث تم وضع التصميم المعماري للمتحف بناءا على التصميم الأصلى للمقبرة, مما يجعل من هذه التجربة المعمارية حالة متفردة ورائدة لمعمارى يستوحى من تصميم عمره الاف السنين منشأ جديد لإستعمال جديد.
المرحلة الثانية: مركز التوثيق الاثرى و المسح الضوئى
في مصر فقد عرضت المؤسسة المنفذة لمستنسخ الجدران والاسقف القيام بالتوثيق من خلال ورشة عمل تقوم فيها المؤسسة بتدريب فريق عمل مصري على تقنيات المسح الضوئيلمرحلة التالية من المشروع وهي توثيق واستنساخ مقبرة سيتي الاول .. .. ونظرا لما تمثله اهمية استخدام اتلك التقنيات والتوثيق . على ان تقوم فاكتوم آرت بنقل التكنولوجيا اللازمة ،وتوفيرجميع المعدات اللازمة لتأسيس واحدة من حلقات العمل الأكثر تقدما في العالم معتمدة على التمويل اللازم من الرعاة الرسميين للمشروع ,مما سيمثل نواة لإنشاء مركز دائم للمسح الضوئي والتوثيق في الاقصر ،تكرس مجهوداته للحفاظ على التراث في مصرمع ضمان مستوىعالى من المهارة و المعرفة ،وبالتالى زيادة فرص العمل في المنطقة و تنمية المنطقة.
هذا ويقترح أن العمل لتسجيل المقابرسيتم تنفيذه من قبل فريق العمل المصري في الأقصروالتدريب تحت إشراف فريق من فاكتوم آرت لمسح و توثيق المقابر فى صورة رقمية ، وتحويل البيانات ومن ثم إعادة خلق المعلومات في صورة ثلاثية أبعاد بمقياس 1:1.
الأمل هو أنه مع مثل هذه الثروة من التراث الثقافى بمصر من عصور ماقبل الفرعونية وحتى يومنا هذا ،سوف تقوم ورشة العمل تلك بتطوير منظور التوثيق الاثري وخلق ادوات جديدة للحفاظ على المواقع الاثرية. ونتيجة لذلك فإنه سيتم الحفاظ ليس فقط على ما نعرفه بالفعل ولكن مع تطبيق التكنولوجيا مع المهارات البشرية مما سيؤدي إلى اكتشافات جديدة عن الماضي ، وبذلك تأمين مستقبل واعد لكلا التراث الثقافي و المجتمع المحلي .
بدأت في يناير 2016 المرحلة الثانية للمشروع للتسجيل الرقمي لمقبرة سيتى الأول وبناء متحف موقع لمستنسخ المقبرة ، ، ومن المتوقع تستغرق هذه المرحلة 3 ـ 5 سنوات . وفي مايو2016 بدأ العمل في ترميم واعادة توظيف استراحة ستوبلير كمركز التدريب على المسح الضوئي في البر الغربي للاقصر من المتوقع ان يستغرق العمل على اعداد الاستراحة وتجهيزها فترة زمنية تتراوح من 6 الى 9 شهور.
استراحة ستوبلير
جاءت الحاجة الى اختيار موقع بالقرب من وادي الملوك حيث ستجري اعمال التوثيق داخل المقبرة ليكون مقر لمركز التدريب على المسح الضوئي للمواقع الاثرية .. وقع الاختيار على " استراحة ستوبلير " التي بناها المعماري حسن فتحي عام 1950 لعالم الاثار الكسندر ستوبلير – مدير قسم الترميم في مصلحة الاثار المصرية "
اولا : لما تتمتع به من موقع مركزي علي هضبة عالية و بمحاذاة الطريق الرئيسي إلى وادي الملوك و الملكات .. حيث سيتم العمل في عمليات المسح الضوئي والتوثيق .
وثانيا ..يمثل اختيار الاستراحة التي كانت لعالم الاثار " الكسندر ستوبلير " بعدا رمزيا باستمرارية مسيرة البحث العلمي نحو اكتشاف المزيد من تراثنا العريق ..
واخيرا يقدم المشروع نموذجا فريدا لما يمكن ان تقدمه العمارة الانسانية من جديد وان هذا النوع من المعمار يستطيع ان يتماشى ويتوائم مع ظروف عصره ويساهم في تقديم الجديد الآن باعادة توظيفه كما ساهم عند انشائه . ومن ناحية اخرى فان التعامل مع المبنى من منظور استخدام مبنى قائم لوظيفة مستحدثة تختلف عن وظيفته الاصلية هو تحدي من نوع خاص.....
المبنى مهجور تقريبا منذ عقود مما ادى الى تردي حالته المعمارية والانشائية ، حيث يعاني الجزء الخلفي في الشمال الغربي من هبوط في الارضية مما يهدد سلامة المبنى . كما يحتاج الى اعمال صيانة شاملة للتشطيبات الداخلية والمرافق بالاضافة الى اعمال تنسيق الموقع الخارجية وتمهيد مداخل الاستراحة وكذلك اعمال تأمين المكان واعمال التأثيث والتجهيزات الفنية المطلوبة لاستخدامه كمركز تدريب على المسح الضوئي وتوثيق الاثار . مما يجعل من ترميم استراحة ستوبلير هدفا في حد ذاته حيث يحتاج الى الكثير من الاجراءات الانشائية الضرورية للحفاظ على سلامه المبنى .
ختامـــــــــــــــاً ..
هــــــكذا يأتي مشروع مستنسخات المقابر الملكية تجربة جديدة لحل اشكالية حماية التراث ووضع الحلول المثلى للمعادلة الأصعب في تلبية احتياجات الزيارة لمواقع تراثية وأثرية صممت قديماً لعدم الزيارة ، بوابة مغلقة مع صاحبها إلى الأبدية والخلود حتى البعث .. عقيدة وحضارة عصر .
حلول تضمن الاستمرارية المادية لموقع قديم ..
والاستمرارية الثقافية لحاضر للتواصل مع هذا القديم ..
معنى جديد لفكرة البقاء والخلود أمتداد لثقافة موروثة عن الأجداد ..
اشكالية حماية التراث
الاستمرارية المادية والثقافية
بين
حماية الموروث لأجيال قادمة
وتحقيق المعرفة لأجيال حاضرة
المقابر الملكية في مدينـة طيبة الجنائزية بوابـة الخلود
هذا المقال نشر في يونيو 2016 في جريدة مركز طارق والي العمارة والتراث
عن مشروع التوثيق الرقمي وانشاء متحف موقع
لمستنسخات مقابر نفرتاري ـ سيتي الاول ـ توت عنخ امون ..
لمعرفة المزيد عن المشروع :
http://www.factum-arte.com/pag/21/Wor...
http://www.walycenter.org/en/heritage...
نحن لا نقدم نظريات في المطلق بقدر ما نرصد وجودها في الواقع ..
وبقدر عمق النظرية يكون أمتداد ظلها على الأرض ..
منهجية أرتضيناها ونمارسها .. نؤمن بهـــا ونطبقها ..
وتبقى قناعاتنا أن المواقع التاريخية التراثية والأثرية تقدم صوراً لميلاد إبداعيات تجسد عبقرية التقابل بين الإنسان وعصره ، وتمثل طاقات كامنة يختزنها المكان على طول الزمان ، لتكون إمكانية قراءة متجددة لإبداعات حضارية كانت ومستمرة ، ومن هذه الرؤية تنطلق فلسفة تنمية تلك المواقع وحمايتها من خلال إعادة تقويم العملية الإبداعية نفسها وإعادة إكتشافها في صورتها المطلقة المتمثلة أحياناً في التناقض الظاهر أوالتفاعل الباطن . تتعدى تلك التنمية التجميل الظاهر إلى استحضار القيمة الحضارية بصورة تجعل الموقع ذاته متفاعلاً مع الزمن الحاضر، مع رسم صورة جديدة قديمة تتيح لنا أن نرى ونسمع لحضارة كانت ، وتكتسب عملية التنمية بعداً مغاير عندما تعاني المواقع من تدهور وتكون مهددة بالضياع والاندثار، فتظهر أولوية الحفاظ عليها وحمايتها ، وهي ليست مشكلة حديثه في عمرها الزمني ولا محلية في حدودها المكانية ، وتعددت المناهج والتجارب في الحفاظ على المواقع الأثرية ..
وعلى المستوى المحلى تواترت المحاولات من التجربة الرائدة في نقل المعابد المهددة بالغرق نتيجة بناء السد العالي ، مروراً بالاكتفاء بالصيانة الدورية أو الترميم إلى فرض قواعد على الزائرين داخل حرم تلك المواقع ، وصولاً إلى غلق المواقع المهددة امام الزيارة بصفة مؤقتة أو دائمة .
أما على المستوى الدولى ظهرت الكثير من المنهجيات والتقنيات التي أستهدفت الاستمرارية المادية للمواقع الاثرية في مواجهة خطر الاندثار والضياع ، وتبني منظومات علمية حديثة في الحفاظ على تلك المواقع وحمايتها ومعها تتحقق الاستمرارية المادية والثقافية .
مدينة طيبة الجنائزية ـ المقابر الملكية المصرية ..
تأتي "مدينة طيبــة" في مقدمة المواقع الأثرية المصرية هنا في أعالي النيل ، وعندها شكل المصري القديم مدينة جنائزية على جبال الغرب في الفترة ما بين القرنين السادس عشر والحادي عشر قبل الميلاد ، تضم مقابر ملوك ونبلاء الدولة الحديثة الممتدة خلال عصور الأسرات الثامنة عشر وحتى الأسرة الواحدة والعشرين ، بالإضافة لمقابر زوجات الملوك والنبلاء وأبنائهم وبعض القبور التي لم يتم تحديد هوية أصحابها ، ومع رمسيس الأول كان وادي الملكات على مقربة من وادي الملوك .. وعموماً أمست تلك المنطقة مركزاً للتنقيبات الكشفية منذ نهاية القرن الثامن عشر وإلى اليوم ، وتم أعتماد مدينة طيبة الجنائزية بالكامل كموقع للتراث العالمي سنة 1979 . وتتميز عموماً المقابر الملكية بجداريات تعبرعن العقائد الدينية والمراسم التأبينية في ذلك العصر، وبالرغم أن غالبية المقابر المكتشفة قد تم فتحها ونهبها في عصور قديمة ، إلا أنها أستمرت دليلاً على حضارة ذلك الزمان ، مما جعل منها مركز جذب للزائرين والدارسين وكذلك لصوص وتجار الآثار على مدى قرون من التعدي والنهب قديماً وحديثاً .
مدينة طيبة الجنائوية
موقع التراث العالمي لمدينة طيبة الجنائزية
الاخطار التي تتعرض لها المقابر الملكية بمدينة طيبة الجنائزية ..
أدت شهرة المقابر الملكية وتفردها إلى تزايد أعداد الزائرين ومعها تفاقمت المشاكل التي لحقت بالنسيج العمراني للمنطقة وكذلك البنية المعمارية للمقابر، فقد ازدادت معدلات الزيارة للمقابر الملكية بصورة مضطردة من بضع عشرات من الزوار يومياً في ستينات القرن العشرين لتصل إلى أكثر من 7000 زائر يومياً سنة 2005 ، ومع نهاية العقد الماضي وصل عدد الزيارات للمنطقة إلى 1.8مليون زائر سنوياً ، مما يشكل احد أهم وأخطر العوامل التي تهدد المنطقة واستمراريتها المادية والثقافية حيث تؤدي هذه الزيارات إلى احداث نوع من التغير المناخي داخل المقابر وتغيرات في درجات الحرارة والرطوبة ، بالإضافة إلى سلوكيات الزائرين ، مما يؤثر بشدة على رسومات الجدرايات وتآكلها أو سقوطها ، وبالطبع هناك متطلبات مستجدة لخدمة تلك الزيارات منها تدخلات في طبيعة المقابر وبنيتها الاساسية حيث تقتضي الحاجة إلى تركيب أعمال اضاءة وتهوية وإنشاء مداخل مجهزة لحركة الزوار وخدمات للمنطقة السياحية مما يغير في كثير من الاحيان من طبيعة المكان وملامحه الأصلية .
بالإضافة إلى التهديدات الطبيعية التي تواجهها المقابر والتي تتمثل في السيول وعدم الاستقرار الجيولوجي واخطار الانهيارات الناتجة عن عدم الاستقرار الهيكلي النسبي للحجر الجيري ، والتغيرات البيئية للوادي حيث يقع الوادي في منطقة تتعرض لسبعة مسارات فيضانية نشطة تصب في قلب الوادي ، وهي المنطقة التي تعرضت تاريخياً للفيضانات في نهاية عهد الأسرة الثامنة عشر الأمر الذي أدى إلى ردم العديد من المقابر تحت ترسيبات الفيضان ، وهو ما أكدته أعمال التنقيب أثناء اكتشاف كل من مقبرة 63 ومقبرة 62 ومقبرة 55 ، والتي تم الكشف عنها في الأرضية الصخرية الفعلية للوادي والتي غطتها الترسيبات الفيضانية والتي تنخفض لأكثر من خمسة أمتار عن مستواها الآن ..
ويرجح المتخصصون ان في ظل تلك العوامل
فإن المقابر الملكية في مدينة طيبة الجنائزية
قد تكون مهددة بالاندثـــــــــــــــــــار خلال الـ 25 سنة القادمة
الحفاظ على المقابر الملكية ..
إن التعامل مع المقابر الملكية المصرية ينبغي ان يكون فائق الحساسية ، فعلى الرغم من ان تلك المنشآت الفريدة قد عاشت آلاف السنوات وتحملت عصوراً طويلة من التعدي والنهب والسرقة ونجت من الكثير من العواصف والسيول الا انها اليوم غير قادرة على الصمود ، ووسائل الحفاظ والترميم التقليدية ليست دائما هي الانسب للحفاظ على الوجود المادي لتلك المواقع الفريدة ، فإذا كانت الاجراءات الخاصة بحماية المقابر الملكية ومحيطها المكاني تؤثر على البقاء المادي لها فان الهيئات المعنية قد تتخذ احيانا اجراءات أكثر حسماً لحماية تلك المقابر فتقوم بغلقها امام الزائرين ، وفي جميع الحالات تفشل الوسائل التقليدية في الحفاظ والتعامل مع المقابر الملكية في تحقيق التوازن المطلوب بين استدامة الوجود المادي للمقابر وفي الوقت نفسه تمكين العامة والدارسين من التفاعل معها والتواصل مع ما تحمله من قيمة ثقافية صمدت آلاف السنوات وتستحق أن تبقى لاجيال قادمة .
وهنـــاك بُعد آخر هام وسابق لكل تلك العوامل .. إن تلك المواقع ونقصد المقابر الملكية فهي في حقيقتها الراسخة في العقيدة المصرية القديمة بوابات الخلود للحياة الابدية ، ولم يصممها المصري القديم لتكون مفتوحة للزيارة أو حتى الدخول ، ولكنها مغلقة على نفسها لضم المومياوات في عالم الابدية انتقالاً من الحياة إلى الخلود حتى البعث .. وهو ما نتعدي عليه اليوم دون وعي لطبيعة المكان وفلسفة وجوده مما يؤثر على ادراكنا وبالتالي استمراريته الثقافية ، كما كانت التعديات والتغييرات تهدد استمراريته المادية.
فكانت الحتمية بالضرورة البحث على منهجية مغايرة
لحماية "المقابر الملكية" بوابات الأبديــــة في مدينة طيبة الجنائزية
التقنية الحديثة في خدمة التراث الانساني في المقابر الملكية المصرية ..
مما تقدم نؤكد على حتمية تبنى مناهج ورؤى مغايرة للتعامل مع تلك المواقع الفريدة لضمان الاستمرارية المادية للموقع وعمارته دون أن يؤثر ذلك على التفاعل معه ثقافياً ، مع الأحذ في الاعتبار معايير الدولية للحفاظ على التراث الثقافي ، ومن هنا تصبح الامكانيات لتحقيق ذلك محدودة في بعض الاحيان وذلك طبقا لطبيعة الموقع الاثري والتفاعل المستهدف معه .
وفي مشروع حماية المقابر الملكية نتعامل مع أحد المنهجيات التي استخدمت حديثاًعلى المستوى الدولي في الحفاظ على المواقع الاثرية ، وهي :
التسجيل الرقمي ثلاثي الابعاد عالي الجودة للمواقع الاثرية (High Resolution 3D Recording ) .
انتاج مستنسخات للمواقع أثرية (Production of Exact facsimiles) .
حيث تتيح تقنية التسجيل الرقمي ثلاثي الأبعاد إمكانية التوثيق الكامل والدقيق والحصول على نسخة رقمية دقيقة عالية الجودة من أي موقع أثري ، مما يجعلها ـ النسخة الرقمية ـ قابلة للنشر والتداول بين الأوساط العلمية والمتخصصين ، وكذلك متاحة للدراسة والفحص الدقيق بكافة التقنيات الممكنة دون المساس بالموقع الاصل ، كما تمنح المستنسخات امكانية تحقيق تجربة زيارة الموقع الأصلي دون الاضرار به ، وجعله متاحاً دون الخوف من تأثره أو ضياعه وحرمان الأجيال القادمة منه ، وقد ثبت دولياً فعالية استخدام تلك التقنيات لتسجيل وكشف تاريخ العديد من المواقع الفريدة ، وأكتسبت هذه المنهجية في الحفاظ على الكنوز الأثرية قبول واسع ليس بوصفها فقط أكثر فعالية في حماية المواقع المهمة والمعرضة للخطر ، وإنما أيضا لأنها تسهم في دراستها كما تساعد على مراقبة حالة هذه الآثار وتآكلها ، وقد قدم التطور في مجال التقنيات الرقمية فهم جديد ومتسارع لمسألة الحفاظ على التراث الثقافي .
ونتيجة لذلك التحول طورت مؤسسات متخصصة تقنيات جديدة مما افرز العديد من مستنسخات لمواقع أثرية سواء في موقعها الأصلي أو في المعارض الجوالة ، مما أدى بالتبعية إلى تحول الاهتمام للعامة إلى قوة مساعدة في حماية المواقع الاثرية وخلق نوع جديد من السياحة الثقافية المُدركة أن كل زيارة مؤثرة سلبا لمواقع التراث تكاد يكون عملا من أعمال التعدي السلبي ، وأن لكل زائر دور فعال ايجابي في الحفاظ على المواقع الأثرية لا يقل في أهميته عن دور القائمين على رعايتها . وتأتي تجربة مؤسسة فاكتوم أرت الأسبانية في تطوير تقنيات جديدة لتسجيل وفحص وأرشفة المواقع التراثية والأثرية والكشف عن تاريخها .واثبتت تلك المنهجية دوليـــاً ان السياحة الثقافية هي المستقبل الفعلى للحفاظ على التراث الانساني ..
في جنوب غرب فرنسا يزورالآلاف من الزوار يومياً مستنسخ Lascaux II الذي تم بناؤه سنة 1983 .
تم بناء مستنسخ كهف NeoCueva في ألتاميرا سنة 2001 في شمال أسبانيا ، ويجذب الآن ثلاثة أضعاف عدد زوار الكهف الأصلي ، الذي تم إغلاقه سنة 1979 .
مقابر أترورسكان في تاركينيا Etruscan tombs in Tarquinia التي تواجه العديد من المشاكل نفسها التي نواجهها عندنا في المقابر الملكية في مدينة طيبة الجنائزية .
كما استخدمت أنظمة التصوير الثلاثي الأبعاد في المتحف البريطاني في لندن وفي البيرجامون ببرلين وفي المتحف الوطني للفنون في دريزدن ، ومتحف الآثار والمكتبة الوطنية ومتحف النقوش الوطني ومتحف ديل برادو في مدريد ، و متحف اللوفر، ومتحف بريرا ميلان ، ومتاحف أخرى عديدة .
ولا تزال هذه المواقع في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وإنجلترا تجذب أعداد هائلة من الزوار. أما على المستوى المحلى فقد كانت كانت أول تجربة لمصر في مجال التصوير الضوئي عالي الدقة وانتاج مستنسخ لمقبرة تحتمس الثالث سنة 2003 ، للمشاركة في معرض في المتحف الوطني للفنون في واشنطن ، الذي قام بجولة في سبعة متاحف في الولايات المتحدة لمدة ثلاث سنوات واستقبل حوالي 3 مليون زائر ، وعرضت نسخة المستنسخ في المتحف القومي اللآثار في مدريد ولاقت نجاحاً كبيراً وجالت في اثني عشر متحفاً آخر .
مشروع التوثيق الرقمي وانشاء متحف موقع
لمستنسخات مقابر نفرتاري ـ سيتي الاول ـ توت عنخ امون ..
كانت الخطوة الثانية والأهم في هذا المجال الجديد سنة 2009 المبادرة التي قدمتها كل من :
جامعة بازل ـ سويسرا
وجمعية أصدقاء المقابر الملكية في مصر ـ زيوريخ
ومؤسسة التقنية الرقمية للحفاظ على التراث Factum Arte ـ مدريد
ومركز طارق والي العمارة والتراث ـ القاهرة
مبادرة للتسجيل الرقمي ثلاثي الابعاد عالي الجودة وانتاج مستنسخات لثلاثة من أشهر المقابر الملكية المصرية وأكثرها تعرضا لعوامل التدهور ، وعرض تلك المستنسخات بشكل دائم في متحف موقع بمدخل وادي الملوك بالاقصر، ليصبح التسجيل الرقمي لتلك المقابر متاحاً للنشر والدراسة في كافة الاوساط العلمية والاثرية بل وايضا الدراسة والفحص ولكن دون المساس بالمقابر الاصلية ، وتوفرالمستنسخات فرصة لمعايشة نفس تجربة الزيارة الاصلية . وقدرت دراسة الجدوى الابتدائية للمشروع حينها ان ما يزيد عن 500,000 زائر سيقومون بزيارة الموقع سنوياً ، هذا بالإضافة إلى امكانية اقامة المعارض الخاصة بدراسة كل مقبرة وانشاء موقع الكتروني يتيح مشاهدة ودراسة النسخة الرقمية من تلك المواقع عن بعد ، وهو ما سيساهم في الاستمرارية الثقافية والمادية للمقابر الملكية في مدينة طيبة الجنائزية على المدى الطويل ، والمقابر الملكية المعنية هي ..
مقبرة نفرتاري ..
اكتشفها سكياباريللي سنة 1904وكانت قد كُسرت وسُلب ما فيها واختفت الكنوز التي كانت بها ، وحُطم تابوتها وسرقت المومياء . وتعتبر الرسوم الجدارية في مقبرة نفرتاري من أجمل رسوم الفن الجنائزي الفرعوني وتعتبرمن أشهرها وأكثرها اكتمالا حيث تمثل ما يوازي حوالي 5200 قدم مربع من اللوحات الجدارية بالاضافة الى سقف حجرة الدفن . ونظرا لاهميتها وتفردها فقد لاقت اهتماما كبيرا منذا اكتشافها فعلى سبيل المثال في العشرينات من القرن الماضي رعى متحف المتروپوليتان في نيويورك عملية كبيرة لتوثيق الرسومات بتصويرها ضوئيا. وقدعانت المقبرة من التدهور المستمر والمتسارع منذ اكتشافها وحتى سنة 1971 حيث فقدت الكثير من رسومات وألوان الجدران بالاضافة إلى حدوث تغييرات جذرية في هيكل المقبرة نفسها نتيجة لتعرضها للغمر بمياه السيول ، وفي النهاية لجأت الحكومة المصرية إلى إغلاق المقبرة أمام الزوار في أواخر ثلاثينات القرن الماضي بسبب المشاكل المختلفة التي تهدد الجداريات ، ومن سنة 1986 حتى سنة 1992 كانت عمليات الترميم ، وعند الانتهاء منها ظلت المقبرة مغلقة لمدة خمس سنوات عندما أعيد فتحها مرة اخرى ولكن مع تقليل عدد الزوار الى 150 زائر في اليوم ، ومع بداية العقد الثاني من هذا القرن قررت الجهات المعنية غلق المقبرة مرة أخرى .
المقبرة حاليا مغلقة لعامة الناس و لكن ما يزال يمكن زيارتها خلال مواعيد خاصة .
مقبرة سيتي الاول ..
اكتشفها جيوفاني بلزوني سنة 1817 وهي من أهم المقابر الملكية من ناحية الحجم والرسومات الجدارية ، يزيد عمقها عن 137 متر وبمساحة إجمالي حوالي 650 متر مربع ، وتمثل قمة التطور في عمارة المقابر الملكية في الدولة الحديثة .. فهي الأطول والأعمق والأكثر اكتمالا بين مقابر وادي الملوك .. كما إن جدرانها مغطاه بالكامل بمساحات مبهرة من الجداريات والكتابات والرسومات . وقد عانت المقبرة كثيراً من أيدي المخربين ، ولعدة أسباب تلاشت الكثير من الالوان الزاهية للجداريات بعضها بسبب الرطوبة والبعض الآخر نتيجة الزمن وسلوكيات الزائرين ، واجزاء اخرى من الجدران قد اسودت النقوش المرسومة عليها نتيجة الدخان من الشموع والمشاعل التي أستخدمها أوائل الزائرين في القرن التاسع عشر ..كما تعرضت خلال تاريخها لكثير من التعديات والتغييرات أهمها كان تعرضها للسيول المتكررة اكثر من مرة خلال تاريخها الحديث ومنذ اكتشافها مما اأدى الى سقوط اجزاء كبيرة من الجداريات ورسومات الاسقف بالاضافة الى اعمال الحفاظ والوقاية المختلفة التى اجريت عليها منذ اكتشافها . وانتاج مستنسخ لمقبرة سيتي الأول هو الجزء الأكثر طموحا في المشروع ، ولا يرجع ذلك فقط إلى الحجم الكبير للمقبرة ، ولكن يعود أيضا إلى صعوبة إعادة تجميع الأجزاء الناقصة من المقبرة والتي فقدت في القرن التاسع عشر، حيث هناك أكثر من 2000 قطعة متواجد في متاحف مختلفة في أوروبا والولايات المتحدة ويمكن عن طريق التسجيل الرقمي ثلاثي الابعاد اعادة انتاجهم ومشاهدة المقبرة مكتملة لاول مرة مع المستنسخ .
المقبرة مغلقة امام الزيارة العامة
مقبرة توت عنخ امون ..
اكتشفها هوارد كارتر سنة 1922، وهي اول مقبرة تم اكتشافها بكامل محتوياتها وكنوزها وبحالتهااا الاصلية تماماً وتتميزبجداريات غرفة الدفن وأبعادها 3.64× 4.11متر وبأقصى عرض 6.35 ، وهي مزينة بالكامل بمشاهد متتالية في اتجاه عقرب الساعة من كتاب الموتى ، وعدة مشاهد تصور توت عنخ آمون يقابل الآلهة ومن ضمنهم أوزوريس ورسوم رائعة تحكي قصة رحلة توت عنخ أمون إلى عالم الأبدية ، وتحوي غرفة الدفن التابوت . وتعرض غالبية محتويات المقبرة 1700 قطعة في المتحف المصري بالقاهرة والقطع الآخرى مخزونة في المتحف ، و بعض منها يعرض في متحف الأقصر . ومنذ اكتشاف المقبرة تمثل محور جذب للمهتمين بالحضارة المصرية القديمة عموماً ، وواحدة من اهم المزارات السياحية في مصر مما جعلها من المواقع الاكثر عرضة لعوامل التدهور المتسارع عبر السنوات ودفع القائمين عليها بحلول سنة 2007 بفرض رسوم إضافية لدخول المقبرة غير تلك المفروضة لدخول وادي الملوك ، كما تم تحديد عدد زوار المقبرة إلى 400 زائر يوميا .ثم اغلاقها امام الزيارة السياحية منذ سنة 2011 .
المقبرة مغلقة ويمكن زيارتها خلال مواعيد خاصة .
عناصر مشروع التوثيق الرقمي وانشاء متحف موقع لمستنسخات المقابر الثلاث ..
التسجيل الرقمي ثلاثي الأبعاد على درجة وضوح عالية ، لكل الأسطح والجداريات داخل المقابر .
انتاج مستنسخات للمقابرالثلاث وبعض محتوياتها .
انشاء متحف موقع بالبر الغربي سيتم فيه تركيب المستنسخات لكل من هذه المقابر .
انشاء أرشيف رقمي عالي الجودة يكون مرجع أساسي لرصد التغيرات على حالة المقابر .
انشاء مركز للتدريب على المسح الضوئي يتم فيه اتمام علمية التدريب لكوادر محلية .
المرحلة الاولى ــ مستنسخ ومتحف موقع مقبرة توت عنخ امون ..
تمثل تلك المرحلة البداية الحقيقية نحو رفع مستوى الحفاظ للمقابر الملكية كما انها تمثل بداية لتبني افكار جديدة من شأنها منح بعداً معرفياً وتثقيفياً للمواقع الاثرية ، وبدأ العمل بمقبرة توت عنخ امون 16 مارس 2009 وأنتهت مرحلة تسجيل البيانات 6 مايو 2009 ، وتم بناء مستنسخ المقبرة وتركيبها في 3 اشهربدأت يناير 2014 وأنتهت في أول ابريل 2014 ، وكان توفير تمويل المشروع بأكمله من دعم ومعونات وتبرعات الجهات الدولية المهتمة بنشر الفكرة والحفاظ على التراث ، وإجمالي تمويل تنفيذ المرحلة الاولى من المشروع حوالي 20 مليون يورو . وتكون المشروع من ثلاثة عناصر رئيسية هي :
أولاً ــ التسجيل الرقمي لغرفة الدفن ..
تمت مرحلة التسجيل الرقمي لمقبرة توت عنخ امون على عدد من المراحل يمكن تلخيصها في :
المسح الضوئي ثلاثي الابعاد للمقبرة
التصوير الفوتوغرافي في مقبرة توت عنخ آمون
مراقبة العمل و تصوير الألوان في المقبرة
تسجيل الألوان ودراسة حالتها
ثانياً ــ انتاج مستنسخ حوائط واسقف غرفة الدفن ..
تم انتاج مستنسخات الحوائط والاسقف ، وكذلك التابوت باستخدام تقنيات عالية الجودة في الحفر ثلاثي الابعاد يضمن الدقة المطلوبة وهو الجزء الأكثر تكلفة وأستغرق الوقت الأطول في عملية انتاج المستنسخ ، وبمساعدة من معهد جريفيث في أكسفورد ، الذي زود فريق العمل بصور فوتوغرافية بالأبيض والأسود لجزء مفقود من الجدار الجنوبي لغربة الدفن ، وتم اعادة الالوان لتلك الصورة باستخدام وثائق عالية الدقة للجدار الجنوبي المسجلة في المقبرة في سنة2009 حيث درست الصورة الفوتوغرافية عن كثب وتمت إزالة الشظايا التي بقيت على سطح الجدار ، وطباعة الرسومات التي كانت موجودة على الجدران باستخدام نفس نماذج الالوان الموجودة بالمقبرة ، وإعادة انتاج الأجزاء المفقودة ..
استنساخ الحوائط
انتاج مستنسخ حوائط واسقف غرفة الدفن
ثالثاً ــ انشاء مستنسخ المقبرة ومتحف الموقع ..
يهدف انشاء متحف موقع مستنسخ مقبرة توت عنخ امون محاكاة تجربة الزيارة الاصلية مع اضافة عناصر مستحدثة للزيارة ، مع رفع الوعي باشكالية حماية الأثر ومساعدة الزائرين على تقبل حلها ، واهمية استخدام افكار مماثلة للحفاظ على المواقع الاثرية مما يعطي لسياحة المواقع الاثرية بعدًا اكثر استدامة ويلفت النظر إلى المخاطر التي تهدد بقاء مثل تلك المواقع والتي يعد اقلها هو حرمان الاجيال الحاضرة من زيارتها والاستفادة بما تمدنا به من معرفه . هذا بالطبع بالاضافة الى مايمنحه التوثيق الالكتروني الدقيق لمثل تلك المواقع من فرصا اوسع للتعمق في دراستها . بالاضافة إلى ايجابية التفاعل مع المجتمع المحلي والاستفاده من خبراته ومراعاة ظروف الموقع الاصلي والموقع المستحدث .
ويمثل هذا المشروع نموذجا للتزاوج الممكن بين الرؤية المعمارية والتقنية العالية ، حيث قام مركز طارق والى بتطبيق جديد لمنهجيته في استقراء المواقع الاثرية وتقديم معمار حديث يلبي احتياجات آنية ومستحدثة وفي الوقت نفسه ينبع من الروح الحضارية للموقع الاثري ، تم اختيارجوار متحف هوارد كارتر- مكتشف المقبرة - في مدخل وادي الملوك موقعا لمتحف الموقع مما يعد تعبيرا عما يمثله هذا المشروع من اعادة اكتشاف للامكانيات الكامنة في مثل تلك المواقع عموما وفي حالة مستنسخ مقبرة توت عنخ امون خاصة .
واتخذت الرؤية المعمارية لهذا المشروع مدخلا يتعدى كونه مستنسخ للمقبرة ، إلى كونه كمتحف موقع يحكي تاريخ المقبرة منذ اكتشافها ويمنح الزائر الكثير من المعرفة حول المقبرة ، ويوفي باحتياجات مستحدثة لا توفرها زيارة المقبرة الاصلية ، فعلى سبيل المثال يستوعب هذا المتحف مستنسخ غرفة الدفن وبالإضافة إلى مساحة معرض محدودة لشرح المخاطر التى تتعرض لها المقابر الملكية من جراء إرتفاع أعداد الزائرين للمقابر الأصلية. الامر الذي لم يكن ممكنا تطبيقه في المقبرة الاصلية ، بالاضافة الى جعله مناسب لذوى الإحتياجات الخاصة ومراعاة ذلك في تصميم مدخل المقبرة ، وغيرها من الاعتبارات التصميمية التي تجعل من الزيارة تجربة ثرية دون ان يخل ذلك بروح تجربة الزيارة للمقبرة الاصلية. حيث تم وضع التصميم المعماري للمتحف بناءا على التصميم الأصلى للمقبرة, مما يجعل من هذه التجربة المعمارية حالة متفردة ورائدة لمعمارى يستوحى من تصميم عمره الاف السنين منشأ جديد لإستعمال جديد.
المرحلة الثانية: مركز التوثيق الاثرى و المسح الضوئى
في مصر فقد عرضت المؤسسة المنفذة لمستنسخ الجدران والاسقف القيام بالتوثيق من خلال ورشة عمل تقوم فيها المؤسسة بتدريب فريق عمل مصري على تقنيات المسح الضوئيلمرحلة التالية من المشروع وهي توثيق واستنساخ مقبرة سيتي الاول .. .. ونظرا لما تمثله اهمية استخدام اتلك التقنيات والتوثيق . على ان تقوم فاكتوم آرت بنقل التكنولوجيا اللازمة ،وتوفيرجميع المعدات اللازمة لتأسيس واحدة من حلقات العمل الأكثر تقدما في العالم معتمدة على التمويل اللازم من الرعاة الرسميين للمشروع ,مما سيمثل نواة لإنشاء مركز دائم للمسح الضوئي والتوثيق في الاقصر ،تكرس مجهوداته للحفاظ على التراث في مصرمع ضمان مستوىعالى من المهارة و المعرفة ،وبالتالى زيادة فرص العمل في المنطقة و تنمية المنطقة.
هذا ويقترح أن العمل لتسجيل المقابرسيتم تنفيذه من قبل فريق العمل المصري في الأقصروالتدريب تحت إشراف فريق من فاكتوم آرت لمسح و توثيق المقابر فى صورة رقمية ، وتحويل البيانات ومن ثم إعادة خلق المعلومات في صورة ثلاثية أبعاد بمقياس 1:1.
الأمل هو أنه مع مثل هذه الثروة من التراث الثقافى بمصر من عصور ماقبل الفرعونية وحتى يومنا هذا ،سوف تقوم ورشة العمل تلك بتطوير منظور التوثيق الاثري وخلق ادوات جديدة للحفاظ على المواقع الاثرية. ونتيجة لذلك فإنه سيتم الحفاظ ليس فقط على ما نعرفه بالفعل ولكن مع تطبيق التكنولوجيا مع المهارات البشرية مما سيؤدي إلى اكتشافات جديدة عن الماضي ، وبذلك تأمين مستقبل واعد لكلا التراث الثقافي و المجتمع المحلي .
بدأت في يناير 2016 المرحلة الثانية للمشروع للتسجيل الرقمي لمقبرة سيتى الأول وبناء متحف موقع لمستنسخ المقبرة ، ، ومن المتوقع تستغرق هذه المرحلة 3 ـ 5 سنوات . وفي مايو2016 بدأ العمل في ترميم واعادة توظيف استراحة ستوبلير كمركز التدريب على المسح الضوئي في البر الغربي للاقصر من المتوقع ان يستغرق العمل على اعداد الاستراحة وتجهيزها فترة زمنية تتراوح من 6 الى 9 شهور.
استراحة ستوبلير
جاءت الحاجة الى اختيار موقع بالقرب من وادي الملوك حيث ستجري اعمال التوثيق داخل المقبرة ليكون مقر لمركز التدريب على المسح الضوئي للمواقع الاثرية .. وقع الاختيار على " استراحة ستوبلير " التي بناها المعماري حسن فتحي عام 1950 لعالم الاثار الكسندر ستوبلير – مدير قسم الترميم في مصلحة الاثار المصرية "
اولا : لما تتمتع به من موقع مركزي علي هضبة عالية و بمحاذاة الطريق الرئيسي إلى وادي الملوك و الملكات .. حيث سيتم العمل في عمليات المسح الضوئي والتوثيق .
وثانيا ..يمثل اختيار الاستراحة التي كانت لعالم الاثار " الكسندر ستوبلير " بعدا رمزيا باستمرارية مسيرة البحث العلمي نحو اكتشاف المزيد من تراثنا العريق ..
واخيرا يقدم المشروع نموذجا فريدا لما يمكن ان تقدمه العمارة الانسانية من جديد وان هذا النوع من المعمار يستطيع ان يتماشى ويتوائم مع ظروف عصره ويساهم في تقديم الجديد الآن باعادة توظيفه كما ساهم عند انشائه . ومن ناحية اخرى فان التعامل مع المبنى من منظور استخدام مبنى قائم لوظيفة مستحدثة تختلف عن وظيفته الاصلية هو تحدي من نوع خاص.....
المبنى مهجور تقريبا منذ عقود مما ادى الى تردي حالته المعمارية والانشائية ، حيث يعاني الجزء الخلفي في الشمال الغربي من هبوط في الارضية مما يهدد سلامة المبنى . كما يحتاج الى اعمال صيانة شاملة للتشطيبات الداخلية والمرافق بالاضافة الى اعمال تنسيق الموقع الخارجية وتمهيد مداخل الاستراحة وكذلك اعمال تأمين المكان واعمال التأثيث والتجهيزات الفنية المطلوبة لاستخدامه كمركز تدريب على المسح الضوئي وتوثيق الاثار . مما يجعل من ترميم استراحة ستوبلير هدفا في حد ذاته حيث يحتاج الى الكثير من الاجراءات الانشائية الضرورية للحفاظ على سلامه المبنى .
ختامـــــــــــــــاً ..
هــــــكذا يأتي مشروع مستنسخات المقابر الملكية تجربة جديدة لحل اشكالية حماية التراث ووضع الحلول المثلى للمعادلة الأصعب في تلبية احتياجات الزيارة لمواقع تراثية وأثرية صممت قديماً لعدم الزيارة ، بوابة مغلقة مع صاحبها إلى الأبدية والخلود حتى البعث .. عقيدة وحضارة عصر .
حلول تضمن الاستمرارية المادية لموقع قديم ..
والاستمرارية الثقافية لحاضر للتواصل مع هذا القديم ..
معنى جديد لفكرة البقاء والخلود أمتداد لثقافة موروثة عن الأجداد ..
اشكالية حماية التراث
الاستمرارية المادية والثقافية
بين
حماية الموروث لأجيال قادمة
وتحقيق المعرفة لأجيال حاضرة
المقابر الملكية في مدينـة طيبة الجنائزية بوابـة الخلود
هذا المقال نشر في يونيو 2016 في جريدة مركز طارق والي العمارة والتراث
عن مشروع التوثيق الرقمي وانشاء متحف موقع
لمستنسخات مقابر نفرتاري ـ سيتي الاول ـ توت عنخ امون ..
لمعرفة المزيد عن المشروع :
http://www.factum-arte.com/pag/21/Wor...
http://www.walycenter.org/en/heritage...
Published on June 22, 2016 00:07
•
Tags:
التراث, توت-عنخ-امون
February 11, 2016
قصة ضياع قريتين
القرنـــــــــــــة 2016
مسئولية معمارية وطنية
قضية حماية التراث أمن قومي
بقلم طارق والي ...
مقدمـــــة ..
إن تقدم الأمم والمجتمعات يتوقف على أحترامها لتراثها وهويتها دون الجمود عند الماضي على حساب الحاضر ، أو أسقاط وهدم الموروث لحساب المستقبل .. ولكن تبقى القضية في التوازن المحسوب في ميزان الحاضر بين احترام الموروث والتطلع إلى المستقبل . وتأتي التحولات الحادثة في العمران إما تأكيداً لهذا النهج أو الخروج غير الآمن عنه للمجتمع والدولة ، ومن التجارب التي تفرض نفسها على المتخصص والمهتم بل وعلى العامة هي تجربة "القرنــــــة" تلك القرية المستقرة عند الجبل الغربي من مدينة الأقصر حيث الجذور التاريخية لحضارة مصر القديمة في مدينة طيبة الجنائزية ، تلك التجربة التى تمتد في وضعيتها المعاصرة على مدى القرن العشرين ومن قبله القرن التاسع عشر .. حين كانت نجوع وتجمعات ما يسمى بالقرنة القديمة مستقرات للمجتمع المحلى المستوطن للمنطقة ، وتتواتر حلقات مسلسل التجربة في محاولات التعامل الرسمي والمجتمعي مع المنطقة والسكان ، فكانت في أربعينات القرن الماضي القرنة الجديدة في الوادي القريب ومحاولة إعادة توطين سكان من القرنة القديمة ، وصولاً إلى التهجير القصري إلى الطارف في مطلع القرن الواحد والعشرين ، وبين القديم والجديد والتهجير القصري كانت الإشكالية ، ومعها ضاعت القرنة القديمة وفشلت القرنة الجديدة وخسر المجتمع عند تهجيره وجوده العمراني وهويته التي توارثها عبر أجيال منذ القرن الثامن عشر حتى الأمس القريب ، وفقدنا معه تراث يمثل موروث في ذاكرة المجتمع وخسارة امكانية ايجابية لتطوير طاقات ممكنة في كيان المجتمع المحلي بسبب غياب الرؤية في عشوائية الدولة والمجتمع في حماية التراث وتجديده ...
القرنـــة القديمة ..
القرنـــــة .. اسم لقرية التي تقع في حضن الجبل أو على القمة الهرمية التي تعلو وادي الملوك في مدينة طيبة الجنائزية القديمة غرب وادي النيل ، وأرتبط أهلها بوادي الملوك ومقابرها الملكية وبأعمال الحفائر والاكتشافات والمغامرين وتجار الآثار.. وأرتبط تاريخ قرية القرنة بكل هذه المغامرات والاكتشافات حتى اصبح هذا التاريخ للانسان والمكان جزء من تراث المنطقة ويجب أن نعمل للحفاظ عليه ..
وقد كتب العديد من العلماء عن هذه القرية أهمهم Caroline Simpson ، وجاء ذكر قرية القرنة في حوليات ومذكرات الرحالة الأوروبيين بداية من أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر ، ففي سنة 1820 قام العديد من الأوروبيين والذين كانوا يعملون هناك بشكل دائم ببناء مساكن لهم ولعائلاتهم وأصدقائهم وزوارهم ، حيث قام القنصل البريطاني هنري سولت Salt Henry ببناء مسكن لواحد من أهم رجاله وهو جيوفاني أثاناس Giovanni Athanasi المعروف بـ يني Yanni والذي يعتبر أول مسكن حديث بتلال المنطقة من القرن التاسع عشر , وقد بني مسكن يني علي شكل قلعة صغيرة محاطة بمجموعة من الأبنية وأسفل المسكن يوجد ضريح الشيخ عثمان والمبني من الطوب اللبن .
وكذك مسكن لتاجر الآثار الايطالي بيثينني Piccinini بمنطقة دراع أبوالنجا ويعتبر أول مسكن بني في هذه المنطقة ، أما أهم تجار الآثار الذين نهبوا الوادي فهو Robert Hay الذي جاء سنة 1820 وعاش مع أهالي القرنة وتقرب للكثير منهم وبدأ العمل في مقبرة الملك رمسيس الرابع رقم 2 ، ورمسيس السادس رقم 9 ، وقد اشترك معه في العمل العديد من العلماء والعمال من القرنة ومنهم ادوارد وليام لان في سنة 1826، وهناك أسماء العديد من سكان القرنة الذين ارتبطت اسماؤهم بالاكتشافات وأهم هذه العائلات هي عائلة عبدالرسول وبعض منهم كانوا عتالين يعرفون طرق نقل التماثيل الضخمة مثل المصريين القدماء تماما ، ومنهم تجار الآثار الذين تعاونوا مع قناصل أوروبا في نقل العديد من الآثار ، وقد عمل بعضهم مع مصطفي أغا والذي استطاع أن يبيع آلاف القطع الأثرية الي الخارج ، ومنها المومياء والتي يعتقد أنها خاصة بالملك رمسيس الأول واستطاع أن يخرج بعض القطع الأثرية بالتعاون مع عائلة عبدالرسول من خبيئة المومياوات والتي قد يكونون دخلوها لأول مرة سنة 1871 أو 1875 . وهناك لوحة بالمكتبة الوطنية بباريس لـ John Gardner Wilkinson ترجع لسنة 1827 تمثل مجموعة من المساكن لعائلة واحدة ، وهذا واضح أيضاَ من خلال صورة فوتوغرافية ترجع لسنة 1850، وفي أواخر القرن الـتاسع عشر تمت اعادة بناء هذه المساكن مرة أخري ومن بينها مسكن تادرس أيوب الذي كشف عنه المغامر باريز Baraize في أوائل القرن العشرين .
أما عن أهم من عملوا بمنطقة البر الغربي فكان برناردينو دروفيتي Bernardino Drovetti وكان قنصل فرنسا العام بمصر بداية القرن الـتاسع عشر والذي كان له ولع شديد بالآثار والبحث عنها والسرقة بما فيها فتح المقابر بالديناميت حيث يسهل له فتحها ، وجاء بعد ذلك سولت لينيه والذي عمل في الوادي مع بلزوني وقام بنقل التابوت الضخم من مقبرة رمسيس الثالث ليتم بيعه للملك لويس الثامن عشر ملك فرنسا وتم ايداعه باللوفر . وقام بلزوني بالكشف عن العديد من المقابر المهمة منها مقبرة الملك آي في سنة 1816 وكشف أيضا عن مقبرة الملك رمسيس الأول وابنه الملك سيتي الأول وقد تم عمل العديد من الاكتشافات بمنطقة وادي الملوك .
ومن أهم المساكن المعروفة بتلك المنطقة مسكن عائلة عبدالرسول وهي العائلة التي كانت تعرف أسرار الوادي وكشفوا عن خبيئة المومياوات بالدير البحري وارشدوا العديد من الأثريين عن مقابر جديدة وقد يكون الصبي الذي عثر علي مقبرة توت عنخ آمون واحدا منهم .. وقد بني محمد عبدالرسول مسكن أبيض جديدا فوق مقبرة أحد الملوك من أجل اخفائها . وقد استطاع بعض أهالي القرنة أن يبنوا منازلهم فوق المقابر مباشرة وقاموا باستعمال المقابر كمخزن للآثار المسروقة ، ولاشك أن سكنهم فوق المقابر قد أضر بالآثار ولكن ستبقى تلك المساكن بطبيعتها وثقافة ومغامرات سكانها جزء من ذاكرة المنطقة والمجتمع المحلي .. وسوف يبقي التاريخ لأن الآثار والانسان قيمة مهمة خاصة عندما يعرف الإنسان .. أن هذا التاريخ هو جزء منا ويجب أن نعمل للحفاظ عليه.. انه التاريخ لن يموت أبدا.
ومن جهة أخرى تحتضن قرية القرنة واحدة من أقدم الصناعات التقليدية في جنوب الوادي ، وهي صناعة الألباستر التي تحاكي في دقة صناعتها وطبيعة خاماته ، استمرارية حضارية لمورثاتنا من الحضارة المصرية القديمة . وتحترف صناعة الألباستر في القرنة عشرات من العائلات التي توارثتها أبًا عن جد، حيث يصل عدد الورش التي تعمل في هذا المجال بالقرية إلى ما يزيد على مئتي ورشة ، الأمر الذي يجعل من القرنة أشهر قرية في إنتاج التحف اليدوية المصنعة من هذه الأحجار ونظيرتها من المرمر والجير .ولا يحتاج فنانو الألباستر في عملهم سوى بعض الأدوات البدائية التي استخدمها أجدادهم الأوائل وهي أدوات تراوح بين الأزميل والمبرد والمنشار ، ينهمك بعدها كل في عمله ، لتخرج في النهاية من الحجر تماثيل تنطق بالروعة والجمال . وتعتمد صناعة الألباستر في إنتاجها على الكيف لا الكم ، إذ قد يستغرق نحت قطعة فنية واحدة أسبوعا أو أكثر، قبل أن تخرج مماثلة للقطعة الأصلية الموجودة في معبد الكرنك ، أو المتحف المصري أو على جدران المعابد .ويصل عدد الحرفيين الذين يعملون بمهنة الألباستر في القرنة إلى نحو 3 آلاف شخص يعملون في الورش وباحات المساكن ، إذ لا تحتاج هذه الصناعة سوى أدوات صغيرة لا يخلو مسكن في القرنة منها ، ولكن أمست اليوم تواجه الانقراض نتيجة المنافسة الشرسة مع المنتجات الصينية والباكستانية الأقل سعراً . والأزمة حسبما يقول العديد من أهالي القرنة بدأت قبل سنوات ، عندما تم وضع عشرات العراقيل أمام تراخيص المناجم مما تسبب في ندرة الحجر الخام بعد إغلاق العديد منها لأبوابها ، ما حدا بأصحاب المعارض والمصانع إلى اللجوء للمستورد الجاهز باعتباره أقل تكلفة ..
هذه لمحة سريعة لقرية مصرية تحمل تاريخ وتراث ووضعية مجتمعية كانت متجذرة في المكان بكل ما تحملة من ايجابيات كان يجب الحفاظ عليها وسلبيات كان يتحتم معالجتها ، في اطار تنمية شاملة وواعية لمدينة طيبة الجنائزية واستمراريتها المعاصرة المتمثلة في القرنة ونجوع الجبل .. ولكن شهدت القرنة محاولات متلاحقة لتهجير سكانها بعضها متفاعل مع البنية المجتمعية والثقافية المحلية في المكان وأكثرها متنكر لهذا التراث ، وكان آخرها ما تم مؤخرأ في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وما قامت به الجهات المعنية في محافظة الأقصر في اسوأ عمليه تهجير قصري لمجتمع في مصر وخاصة في جنوب الوادي في غياب رؤية تنموية لتطوير المنطقة .
ضاعت القرنة القديمة وأمست ذكريات ..
القرنة الجديدة ..
قرية القرنة الجديدة الحلم الذي لم يكتمل لآعادة توطين سكان من القرنة القديمة في الوادي ، عرف الحلم النور وكانت بدايته في الأربعينيات من القرن الماضي ؛ نعم كانت بداية هادئة حققت القليل منه ، ولكنها من المفترض أنها كانت بداية ، ولكن للأسف كانت في واقعها النهاية ؛ توقف الفعل ولم يغيب الحلم وعاش مع صاحبه "حسن فتحي" وكل من تحمس له ومعه ومن بعده . والآن بعد ما يقرب من سبعين سنة من ميلاد هذا الحلم هناك من يريد أن يحطم هذا القليل الذي تحققق ، يقوم بالفعل بمحو حتى تلك البداية التي لم تكتمل ؛ ويحرمنا ويحرم الأجيال القادمة من ذاكرتها الوطنية والتاريخية لنعيش حالة من فقدان الوعي وضياع الحلم ..
إن ما يجري في القرنة الجديدة ظاهرة يجب أن نقف عندها كمعماريين ندافع عن حقوقنا في حماية الإبداع من تعدي من لا يملك هذا الحق بحكم قانون حماية الملكية الفكرية للمبدع وهو المعماري هنا ؛ هذا بخلاف المسئولية الوطنية اتجاه تراثنا القكري بالإضافة إلى كونه تراث معماري ، وأسأل بكثير من التعجب : وهو تصور إفتراضي ـ ماذا لو قامت جهة ما أو شخص بعينه وقرر تكسير جزء من تمثال نهضة مصر لمختار ؛ أو تمزيق جزء من لوحة بنات بحري لمحمود سعيد ؛ أو حذف فصل من مسرحية عودة الروح لتوفيق الحكيم ؛ أو تعدي بالتغيير والتشويه على موسيقى سيد درويش أو قصيدة لحافظ ابراهيم .. !!! سؤال مطلق غيرمعقول ، وإن وقع لثارت النخب المثقفة والساسة والمجتمع إنتصاراً لحماية تلك الإبداعات الفكرية المصرية ؛ ولكن للعجب هذا يحدث ويتكرر مع إبداعات المعماريين ولم يحرك أحد ساكناً ، بل لم يتجاوب مع صرخاتنا من هو مسئول أو غير مسئول ، والسؤال الحقيقي لماذا الصمت على هذه التعديات بالهدم والتشويه والتخريب في القرنة ؛ ومن أعطى الحق أو الشرعية لأي جهة أن تقوم بهذا التعدي .
إن ما يحدث في القرنة اليوم ومنذ سنوات هو جزء من ظاهرة وليست حالة متفردة للأسف ، نحن ندافع عن القرنة لنعلن حقنا كمعماريين في حماية تراثنا المعماري من عشوائية المجتمع والسلطة على حد السواء ، وخاصة إنه أصبح جزء من ذاكرة المجتمع وتاريخه وتراثه الثقافي الوطني ، هذا التراث الذي له من التشريعات والقوانين ما يضمن له الحماية وهي مسئولية الدولة والمجتمع على حد سواء ـ الساكت عن الحق شيطان أخرس ـ ؛ للأسف أن التعدي الحادث هنا في القرنة حلم حسن فتحي ـ يقع تحت شعارات جوفاء تخفي وراء مصطلحات التطوير والتنمية ... وأحدد هنا أن حالات التدمير التي تتم هناك هي على مستويين : أولهما من مسئول ، والثاني ممن هو معذور..
المستوى الأول ـ يتم بأيدى جهات حكومية في الدولة نحو المباني العامة بالقرية .. مبنى المدرسة في فترة سابقة ، ومبنى مجلس مدينة القرنة الذي يتم يناؤه الآن فوق المسرح المكشوف للقرية ، ومبنى الخان المهدد بسوء استعماله من الجمعية الزراعية ، ومبنى السوق وما تم من هدم اجزاء منه ويتم تجهيز الموقع لبناء جديد .. وللأسف بل ومن المخزي أن تلك المباني غير إنها تمثل إعتداء فهي بطبيعة تصميمها وإنشاءتها الخرسانية هي تشويه للحلم وتدمير للتجربة المعمارية .
المستوى الثاني ـ يتم بأيدي بعض القاطنين لمساكن القرية أو ما تبقى منها ، والتي فقدت ولاية الدولة والمجتمع والمعماريين ، ما يتم هوتغيير شكل وطبيعة المنتج المعماري الذي يحمل رسالة التجربة للعالم وللمستقبل .
الأول أعطى القدوة ، أو لا قدوة ، أعطى نسق لمفهوم تلك الجهات لمعنى التطوير ؛ وكان الثاني على النهج والطريق مغيب . إن تعديات الأفراد تشويهات يمكن معالجة بعضها أو تصحيحها ؛ أما تعديات الجهات الحكومية فليس هناك بديل إلا إستئصالها لحماية الحلم والواقع من الضياع .
وضاعت القرنة الجديدة مع الحلم وأمست ذكريات ..
ورغم غياب الاهتمام المحلي بقضية القرنة خاصة سواء القديمة أو الجديدة كانت الاهتمام الخارجي لاسيما من منظمة اليونسكو ولجنة التراث العالمي ، وقد أشار تقرير لجنة التراث العالمي في جلستها رقم 31 (في كرايستشيرش ، سنة 2007) إنه مايدعو إلى القلق والإهتمام الذي تشعر به لأول مرة منذ عقد في تقرير حالة الحماية لعام 1998. في ذلك الوقت ، ردا على النية المعلنة لمجلس مدينة الأقصر (المحافظة) لازالة قرى القرنة وسكانها (المتضمنة منذ بداية أعمال التنقيب في الموقع منذ القرن 19) ، طلب مكتب التراث العالمي من الأمانة العامة أن تقوم بالتعاون مع السلطات المصرية بدراسة إمكانية إطلاق برنامج تعاون يشمل دراسات جيولوجية وأثرية وجغرافية وإنسانية ، وذلك من أجل فهم أفضل لأوضاع القرى وسكانها. أوصت لجنة التراث العالمي السلطات المصرية بتأجيل نقل آخر لسكان قرى القرنة حتى الإنتهاء من هذه التحقيقات ، وحثت السلطات على إقامة حملة توعية في أوساط المجتمع المحلي. في ذلك الوقت ، كان من المتصور أنه "يمكن إعداد خطة إدارية شاملة لتتضمن مفهوم عن تحديد المناطق الثقافية المتميزة في قرى القرنة ومحيطها".
وهوما لم تأخذ به السلطات المحلية في الأقصر
وأعربت لجنة التراث العالمي عن أسفها في قرارها رقم 31 COM 7B.55 أن مجلس مدينة الأقصر لم يأخذ في الاعتبار توصياتها السابقة (1998 ، 2007) ولم يقم بإجراء أي دراسات أو تقييم للأثر عن القرنة. كما أعرب القرار عن أسفه لأن مجلس المدينة لم يقم حتى بتنفيذ توصيات بعثة التراث العالمي لعام 2006 ... وبناءاً على طلب لجنة التراث العالمي خلال جلستها الواحدة والثلاثين ، تم ارسال بعثة رصد فاعلية مشتركة بين مركز التراث العالمي و المجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية ICOMOS في الفترة من 18 إلى 24 أبريل 2008 . وذكر تقرير البعثة أنه لم يتم التعامل مع أياً من التهديدات المذكورة في التقارير السابقة بشكل فعال ، إلا أن عمليات الهدم والبناء التي تمت على نطاق واسع قد حولت التهديد إلى واقعاً. فإن الانطباع العام أنه تم التضحية بالممتلكات القيمة ، الموثقة والمتكاملة من أجل استيعاب أعداد أكبر من السياح .
وأخيراً نحن أمام حالة تتطلب عدد من المواقف والاجراءات تتكاتف حولها الجهود :
في إطار الأهتمام الدولي والعالمي بتراث حسن فتحي عامة فإنه قد تم فى أبريل 2009 تسجيل قرية القرنة بالأقصر بمصر من قبل منظمة World Heritage Centre UNESCO ضمن برنامج Earthen Architecture ، وأنه على مصر دور بأن تعمل كمرحلة تمهيدية بأعداد وثيقة تتضمن جميع الانشطة التى يجب تنفيذها ، وجدير بالإشارة أن اتفاقيات التراث العالمي عموماً تنص على :
- دعوة لجنة التراث العالمي كل الدول الموقعة على الاتفاقية الى اخطار سكرتارية اليونسكو في حالة اتخاذ قرارات بشأن ترميمات اساسية أو عمل انشاءات جديدة قد تؤثر في القيم المحددة لهذه الممتلكات بهدف التأكد أن القيمة العالمية للتراث قد تم احترامها بشكل كامل ..
- عدم احداث تغييرات في منطقة الحماية سواء في فضاءه الحضري أو في بيئته الطبيعية ويجب أن يحظى أي تغيير بموافقة لجنة التراث العالمي قبل البدء فيها حيث أن المناطق الفاصلة مقيدة بقيود قانونية تضفي عليها الحماية اللازمة ..
- اية أعمال يجب أن تحافظ على الأصالة حسب النصوص الأساسية المتعلقة باتفاقية التراث العالمي 1972 ومنظمة اليونسكو 2005 ..
- يجب عرض أي عمليات في تغيير الوضع المعماري والعمراني على لجنة التراث العالمي قبل البدء في المشروع طالما الموقع موضوع على لائحة التراث العالمي ..
وفي إطار ذات الأهتمام الدولي والعالمي بتراث حسن فتحي ، أيضا قامت منظمة Fund World Monuments ـ وهي أحدى المؤسسات العاملة مع منظمة اليونسكو ـ وذلك فى 6 أكتوبر 2009 ، بتسجيل قرية القرنة الجديدة لحسن فتحى كأحدى الاماكن المهددة بالاختفاء وضمها لقائمة الاماكن المهددة ويجب العناية بها وترميمها لبرنامج سنة 2010 ، وتضم هذه البرامج تلك المواقع إذا ما كانت فى حالة خطرة وتهديد ، أو مهددة بالاختفاء أو التدمير سواء كانت نتيجة تأثيرات أقتصادية أو بيئية أو اجتماعية ، بالإضاقة إلى أهمية الحفاظ على هذا التراث وحمايته .
ومع هذا الأهتمام الخارجي الدولي فإنه أصبح من ضرورات الأحساس الوطني أن يتم وضع قرية القرنة ومبانيها تحت حماية قانونية محلياً ، وهو ما ندعو إليه من تسجيل القرية بحدودها ومجالها المعماري وبما تضمه من مباني عامة وسكنية كأثر يخضع لحماية قانون الآثار المعمول به لضمان الحفاظ عليها وشرعية إسترجاع ما كان قائماً ، ومن جهة أخرى ضبط التناغم والإنسجام بين ما يستجد من مباني مع القرية وطبيعتها المعمارية في إطار المجال الأثري كما يحدده القانون .
ندعو إلى أنه يتحتم على الجهات المحلية وقف جميع الأعمال الخرسانية الجارية الآن وفوراً لمخالفتها لطبيعة القرية وعمارتها ؛ مع حتمية إيقاف منح أي رخص بناء أو هدم من تلك الجهات المحلية المختصة حالياً للأفراد لحين تحمل الجهات المختصة لذلك بعد تسجيل القرية كأثر طبقاً للضوابط القانونية المنظمة لذلك ، وما يلبي الألتزامات الدولية الناتج عن تسجيل القرية على قوائم التراث العالمي .
يبقى أن نتحمل جميعاً مسئولية حماية هذا ما تبقى من تراث القرنة سواء في القرية القديمة والجديدة ؛ كما إنه من الحتمي محاسبة كل من حاول أو تسبب في ضياع هذا التراث بعيداً عن مجرد المسئولية القانونية الجنائية ، ولكنها محاسبة على المسئولية التاريخية والأدبية والسياسية ؛ وعلينا جميعاً أن نتحمل وزر ما تقدمه أيدينا ، فذاكرة الوطن لا تقبل المهادنة ، ومن تنازل عن ذاكرته وتاريخه لا يستحق الحياة .
ومابين قصور المؤسسات المعنية وغياب الوعي المجتمعي
كانت قصة ضياع القرنة القديمة والجديدة
في
تزامن يشير إلى خطورة موقفنا من اشكالية حماية التراث وما تعانيه من عشوائية وفوضى غير مبررة
اللهم بلغت .. اللهم فأشهد
طارق والي
هذا المقال نشر في فبراير 2016 في جريدة مركز طارق والي العمارة والتراث
للاطلاع على المقال
https://goo.gl/gwN43C
مسئولية معمارية وطنية
قضية حماية التراث أمن قومي
بقلم طارق والي ...
مقدمـــــة ..
إن تقدم الأمم والمجتمعات يتوقف على أحترامها لتراثها وهويتها دون الجمود عند الماضي على حساب الحاضر ، أو أسقاط وهدم الموروث لحساب المستقبل .. ولكن تبقى القضية في التوازن المحسوب في ميزان الحاضر بين احترام الموروث والتطلع إلى المستقبل . وتأتي التحولات الحادثة في العمران إما تأكيداً لهذا النهج أو الخروج غير الآمن عنه للمجتمع والدولة ، ومن التجارب التي تفرض نفسها على المتخصص والمهتم بل وعلى العامة هي تجربة "القرنــــــة" تلك القرية المستقرة عند الجبل الغربي من مدينة الأقصر حيث الجذور التاريخية لحضارة مصر القديمة في مدينة طيبة الجنائزية ، تلك التجربة التى تمتد في وضعيتها المعاصرة على مدى القرن العشرين ومن قبله القرن التاسع عشر .. حين كانت نجوع وتجمعات ما يسمى بالقرنة القديمة مستقرات للمجتمع المحلى المستوطن للمنطقة ، وتتواتر حلقات مسلسل التجربة في محاولات التعامل الرسمي والمجتمعي مع المنطقة والسكان ، فكانت في أربعينات القرن الماضي القرنة الجديدة في الوادي القريب ومحاولة إعادة توطين سكان من القرنة القديمة ، وصولاً إلى التهجير القصري إلى الطارف في مطلع القرن الواحد والعشرين ، وبين القديم والجديد والتهجير القصري كانت الإشكالية ، ومعها ضاعت القرنة القديمة وفشلت القرنة الجديدة وخسر المجتمع عند تهجيره وجوده العمراني وهويته التي توارثها عبر أجيال منذ القرن الثامن عشر حتى الأمس القريب ، وفقدنا معه تراث يمثل موروث في ذاكرة المجتمع وخسارة امكانية ايجابية لتطوير طاقات ممكنة في كيان المجتمع المحلي بسبب غياب الرؤية في عشوائية الدولة والمجتمع في حماية التراث وتجديده ...
القرنـــة القديمة ..
القرنـــــة .. اسم لقرية التي تقع في حضن الجبل أو على القمة الهرمية التي تعلو وادي الملوك في مدينة طيبة الجنائزية القديمة غرب وادي النيل ، وأرتبط أهلها بوادي الملوك ومقابرها الملكية وبأعمال الحفائر والاكتشافات والمغامرين وتجار الآثار.. وأرتبط تاريخ قرية القرنة بكل هذه المغامرات والاكتشافات حتى اصبح هذا التاريخ للانسان والمكان جزء من تراث المنطقة ويجب أن نعمل للحفاظ عليه ..
وقد كتب العديد من العلماء عن هذه القرية أهمهم Caroline Simpson ، وجاء ذكر قرية القرنة في حوليات ومذكرات الرحالة الأوروبيين بداية من أواخر القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر ، ففي سنة 1820 قام العديد من الأوروبيين والذين كانوا يعملون هناك بشكل دائم ببناء مساكن لهم ولعائلاتهم وأصدقائهم وزوارهم ، حيث قام القنصل البريطاني هنري سولت Salt Henry ببناء مسكن لواحد من أهم رجاله وهو جيوفاني أثاناس Giovanni Athanasi المعروف بـ يني Yanni والذي يعتبر أول مسكن حديث بتلال المنطقة من القرن التاسع عشر , وقد بني مسكن يني علي شكل قلعة صغيرة محاطة بمجموعة من الأبنية وأسفل المسكن يوجد ضريح الشيخ عثمان والمبني من الطوب اللبن .
وكذك مسكن لتاجر الآثار الايطالي بيثينني Piccinini بمنطقة دراع أبوالنجا ويعتبر أول مسكن بني في هذه المنطقة ، أما أهم تجار الآثار الذين نهبوا الوادي فهو Robert Hay الذي جاء سنة 1820 وعاش مع أهالي القرنة وتقرب للكثير منهم وبدأ العمل في مقبرة الملك رمسيس الرابع رقم 2 ، ورمسيس السادس رقم 9 ، وقد اشترك معه في العمل العديد من العلماء والعمال من القرنة ومنهم ادوارد وليام لان في سنة 1826، وهناك أسماء العديد من سكان القرنة الذين ارتبطت اسماؤهم بالاكتشافات وأهم هذه العائلات هي عائلة عبدالرسول وبعض منهم كانوا عتالين يعرفون طرق نقل التماثيل الضخمة مثل المصريين القدماء تماما ، ومنهم تجار الآثار الذين تعاونوا مع قناصل أوروبا في نقل العديد من الآثار ، وقد عمل بعضهم مع مصطفي أغا والذي استطاع أن يبيع آلاف القطع الأثرية الي الخارج ، ومنها المومياء والتي يعتقد أنها خاصة بالملك رمسيس الأول واستطاع أن يخرج بعض القطع الأثرية بالتعاون مع عائلة عبدالرسول من خبيئة المومياوات والتي قد يكونون دخلوها لأول مرة سنة 1871 أو 1875 . وهناك لوحة بالمكتبة الوطنية بباريس لـ John Gardner Wilkinson ترجع لسنة 1827 تمثل مجموعة من المساكن لعائلة واحدة ، وهذا واضح أيضاَ من خلال صورة فوتوغرافية ترجع لسنة 1850، وفي أواخر القرن الـتاسع عشر تمت اعادة بناء هذه المساكن مرة أخري ومن بينها مسكن تادرس أيوب الذي كشف عنه المغامر باريز Baraize في أوائل القرن العشرين .
أما عن أهم من عملوا بمنطقة البر الغربي فكان برناردينو دروفيتي Bernardino Drovetti وكان قنصل فرنسا العام بمصر بداية القرن الـتاسع عشر والذي كان له ولع شديد بالآثار والبحث عنها والسرقة بما فيها فتح المقابر بالديناميت حيث يسهل له فتحها ، وجاء بعد ذلك سولت لينيه والذي عمل في الوادي مع بلزوني وقام بنقل التابوت الضخم من مقبرة رمسيس الثالث ليتم بيعه للملك لويس الثامن عشر ملك فرنسا وتم ايداعه باللوفر . وقام بلزوني بالكشف عن العديد من المقابر المهمة منها مقبرة الملك آي في سنة 1816 وكشف أيضا عن مقبرة الملك رمسيس الأول وابنه الملك سيتي الأول وقد تم عمل العديد من الاكتشافات بمنطقة وادي الملوك .
ومن أهم المساكن المعروفة بتلك المنطقة مسكن عائلة عبدالرسول وهي العائلة التي كانت تعرف أسرار الوادي وكشفوا عن خبيئة المومياوات بالدير البحري وارشدوا العديد من الأثريين عن مقابر جديدة وقد يكون الصبي الذي عثر علي مقبرة توت عنخ آمون واحدا منهم .. وقد بني محمد عبدالرسول مسكن أبيض جديدا فوق مقبرة أحد الملوك من أجل اخفائها . وقد استطاع بعض أهالي القرنة أن يبنوا منازلهم فوق المقابر مباشرة وقاموا باستعمال المقابر كمخزن للآثار المسروقة ، ولاشك أن سكنهم فوق المقابر قد أضر بالآثار ولكن ستبقى تلك المساكن بطبيعتها وثقافة ومغامرات سكانها جزء من ذاكرة المنطقة والمجتمع المحلي .. وسوف يبقي التاريخ لأن الآثار والانسان قيمة مهمة خاصة عندما يعرف الإنسان .. أن هذا التاريخ هو جزء منا ويجب أن نعمل للحفاظ عليه.. انه التاريخ لن يموت أبدا.
ومن جهة أخرى تحتضن قرية القرنة واحدة من أقدم الصناعات التقليدية في جنوب الوادي ، وهي صناعة الألباستر التي تحاكي في دقة صناعتها وطبيعة خاماته ، استمرارية حضارية لمورثاتنا من الحضارة المصرية القديمة . وتحترف صناعة الألباستر في القرنة عشرات من العائلات التي توارثتها أبًا عن جد، حيث يصل عدد الورش التي تعمل في هذا المجال بالقرية إلى ما يزيد على مئتي ورشة ، الأمر الذي يجعل من القرنة أشهر قرية في إنتاج التحف اليدوية المصنعة من هذه الأحجار ونظيرتها من المرمر والجير .ولا يحتاج فنانو الألباستر في عملهم سوى بعض الأدوات البدائية التي استخدمها أجدادهم الأوائل وهي أدوات تراوح بين الأزميل والمبرد والمنشار ، ينهمك بعدها كل في عمله ، لتخرج في النهاية من الحجر تماثيل تنطق بالروعة والجمال . وتعتمد صناعة الألباستر في إنتاجها على الكيف لا الكم ، إذ قد يستغرق نحت قطعة فنية واحدة أسبوعا أو أكثر، قبل أن تخرج مماثلة للقطعة الأصلية الموجودة في معبد الكرنك ، أو المتحف المصري أو على جدران المعابد .ويصل عدد الحرفيين الذين يعملون بمهنة الألباستر في القرنة إلى نحو 3 آلاف شخص يعملون في الورش وباحات المساكن ، إذ لا تحتاج هذه الصناعة سوى أدوات صغيرة لا يخلو مسكن في القرنة منها ، ولكن أمست اليوم تواجه الانقراض نتيجة المنافسة الشرسة مع المنتجات الصينية والباكستانية الأقل سعراً . والأزمة حسبما يقول العديد من أهالي القرنة بدأت قبل سنوات ، عندما تم وضع عشرات العراقيل أمام تراخيص المناجم مما تسبب في ندرة الحجر الخام بعد إغلاق العديد منها لأبوابها ، ما حدا بأصحاب المعارض والمصانع إلى اللجوء للمستورد الجاهز باعتباره أقل تكلفة ..
هذه لمحة سريعة لقرية مصرية تحمل تاريخ وتراث ووضعية مجتمعية كانت متجذرة في المكان بكل ما تحملة من ايجابيات كان يجب الحفاظ عليها وسلبيات كان يتحتم معالجتها ، في اطار تنمية شاملة وواعية لمدينة طيبة الجنائزية واستمراريتها المعاصرة المتمثلة في القرنة ونجوع الجبل .. ولكن شهدت القرنة محاولات متلاحقة لتهجير سكانها بعضها متفاعل مع البنية المجتمعية والثقافية المحلية في المكان وأكثرها متنكر لهذا التراث ، وكان آخرها ما تم مؤخرأ في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وما قامت به الجهات المعنية في محافظة الأقصر في اسوأ عمليه تهجير قصري لمجتمع في مصر وخاصة في جنوب الوادي في غياب رؤية تنموية لتطوير المنطقة .
ضاعت القرنة القديمة وأمست ذكريات ..
القرنة الجديدة ..
قرية القرنة الجديدة الحلم الذي لم يكتمل لآعادة توطين سكان من القرنة القديمة في الوادي ، عرف الحلم النور وكانت بدايته في الأربعينيات من القرن الماضي ؛ نعم كانت بداية هادئة حققت القليل منه ، ولكنها من المفترض أنها كانت بداية ، ولكن للأسف كانت في واقعها النهاية ؛ توقف الفعل ولم يغيب الحلم وعاش مع صاحبه "حسن فتحي" وكل من تحمس له ومعه ومن بعده . والآن بعد ما يقرب من سبعين سنة من ميلاد هذا الحلم هناك من يريد أن يحطم هذا القليل الذي تحققق ، يقوم بالفعل بمحو حتى تلك البداية التي لم تكتمل ؛ ويحرمنا ويحرم الأجيال القادمة من ذاكرتها الوطنية والتاريخية لنعيش حالة من فقدان الوعي وضياع الحلم ..
إن ما يجري في القرنة الجديدة ظاهرة يجب أن نقف عندها كمعماريين ندافع عن حقوقنا في حماية الإبداع من تعدي من لا يملك هذا الحق بحكم قانون حماية الملكية الفكرية للمبدع وهو المعماري هنا ؛ هذا بخلاف المسئولية الوطنية اتجاه تراثنا القكري بالإضافة إلى كونه تراث معماري ، وأسأل بكثير من التعجب : وهو تصور إفتراضي ـ ماذا لو قامت جهة ما أو شخص بعينه وقرر تكسير جزء من تمثال نهضة مصر لمختار ؛ أو تمزيق جزء من لوحة بنات بحري لمحمود سعيد ؛ أو حذف فصل من مسرحية عودة الروح لتوفيق الحكيم ؛ أو تعدي بالتغيير والتشويه على موسيقى سيد درويش أو قصيدة لحافظ ابراهيم .. !!! سؤال مطلق غيرمعقول ، وإن وقع لثارت النخب المثقفة والساسة والمجتمع إنتصاراً لحماية تلك الإبداعات الفكرية المصرية ؛ ولكن للعجب هذا يحدث ويتكرر مع إبداعات المعماريين ولم يحرك أحد ساكناً ، بل لم يتجاوب مع صرخاتنا من هو مسئول أو غير مسئول ، والسؤال الحقيقي لماذا الصمت على هذه التعديات بالهدم والتشويه والتخريب في القرنة ؛ ومن أعطى الحق أو الشرعية لأي جهة أن تقوم بهذا التعدي .
إن ما يحدث في القرنة اليوم ومنذ سنوات هو جزء من ظاهرة وليست حالة متفردة للأسف ، نحن ندافع عن القرنة لنعلن حقنا كمعماريين في حماية تراثنا المعماري من عشوائية المجتمع والسلطة على حد السواء ، وخاصة إنه أصبح جزء من ذاكرة المجتمع وتاريخه وتراثه الثقافي الوطني ، هذا التراث الذي له من التشريعات والقوانين ما يضمن له الحماية وهي مسئولية الدولة والمجتمع على حد سواء ـ الساكت عن الحق شيطان أخرس ـ ؛ للأسف أن التعدي الحادث هنا في القرنة حلم حسن فتحي ـ يقع تحت شعارات جوفاء تخفي وراء مصطلحات التطوير والتنمية ... وأحدد هنا أن حالات التدمير التي تتم هناك هي على مستويين : أولهما من مسئول ، والثاني ممن هو معذور..
المستوى الأول ـ يتم بأيدى جهات حكومية في الدولة نحو المباني العامة بالقرية .. مبنى المدرسة في فترة سابقة ، ومبنى مجلس مدينة القرنة الذي يتم يناؤه الآن فوق المسرح المكشوف للقرية ، ومبنى الخان المهدد بسوء استعماله من الجمعية الزراعية ، ومبنى السوق وما تم من هدم اجزاء منه ويتم تجهيز الموقع لبناء جديد .. وللأسف بل ومن المخزي أن تلك المباني غير إنها تمثل إعتداء فهي بطبيعة تصميمها وإنشاءتها الخرسانية هي تشويه للحلم وتدمير للتجربة المعمارية .
المستوى الثاني ـ يتم بأيدي بعض القاطنين لمساكن القرية أو ما تبقى منها ، والتي فقدت ولاية الدولة والمجتمع والمعماريين ، ما يتم هوتغيير شكل وطبيعة المنتج المعماري الذي يحمل رسالة التجربة للعالم وللمستقبل .
الأول أعطى القدوة ، أو لا قدوة ، أعطى نسق لمفهوم تلك الجهات لمعنى التطوير ؛ وكان الثاني على النهج والطريق مغيب . إن تعديات الأفراد تشويهات يمكن معالجة بعضها أو تصحيحها ؛ أما تعديات الجهات الحكومية فليس هناك بديل إلا إستئصالها لحماية الحلم والواقع من الضياع .
وضاعت القرنة الجديدة مع الحلم وأمست ذكريات ..
ورغم غياب الاهتمام المحلي بقضية القرنة خاصة سواء القديمة أو الجديدة كانت الاهتمام الخارجي لاسيما من منظمة اليونسكو ولجنة التراث العالمي ، وقد أشار تقرير لجنة التراث العالمي في جلستها رقم 31 (في كرايستشيرش ، سنة 2007) إنه مايدعو إلى القلق والإهتمام الذي تشعر به لأول مرة منذ عقد في تقرير حالة الحماية لعام 1998. في ذلك الوقت ، ردا على النية المعلنة لمجلس مدينة الأقصر (المحافظة) لازالة قرى القرنة وسكانها (المتضمنة منذ بداية أعمال التنقيب في الموقع منذ القرن 19) ، طلب مكتب التراث العالمي من الأمانة العامة أن تقوم بالتعاون مع السلطات المصرية بدراسة إمكانية إطلاق برنامج تعاون يشمل دراسات جيولوجية وأثرية وجغرافية وإنسانية ، وذلك من أجل فهم أفضل لأوضاع القرى وسكانها. أوصت لجنة التراث العالمي السلطات المصرية بتأجيل نقل آخر لسكان قرى القرنة حتى الإنتهاء من هذه التحقيقات ، وحثت السلطات على إقامة حملة توعية في أوساط المجتمع المحلي. في ذلك الوقت ، كان من المتصور أنه "يمكن إعداد خطة إدارية شاملة لتتضمن مفهوم عن تحديد المناطق الثقافية المتميزة في قرى القرنة ومحيطها".
وهوما لم تأخذ به السلطات المحلية في الأقصر
وأعربت لجنة التراث العالمي عن أسفها في قرارها رقم 31 COM 7B.55 أن مجلس مدينة الأقصر لم يأخذ في الاعتبار توصياتها السابقة (1998 ، 2007) ولم يقم بإجراء أي دراسات أو تقييم للأثر عن القرنة. كما أعرب القرار عن أسفه لأن مجلس المدينة لم يقم حتى بتنفيذ توصيات بعثة التراث العالمي لعام 2006 ... وبناءاً على طلب لجنة التراث العالمي خلال جلستها الواحدة والثلاثين ، تم ارسال بعثة رصد فاعلية مشتركة بين مركز التراث العالمي و المجلس الدولي للمعالم والمواقع الأثرية ICOMOS في الفترة من 18 إلى 24 أبريل 2008 . وذكر تقرير البعثة أنه لم يتم التعامل مع أياً من التهديدات المذكورة في التقارير السابقة بشكل فعال ، إلا أن عمليات الهدم والبناء التي تمت على نطاق واسع قد حولت التهديد إلى واقعاً. فإن الانطباع العام أنه تم التضحية بالممتلكات القيمة ، الموثقة والمتكاملة من أجل استيعاب أعداد أكبر من السياح .
وأخيراً نحن أمام حالة تتطلب عدد من المواقف والاجراءات تتكاتف حولها الجهود :
في إطار الأهتمام الدولي والعالمي بتراث حسن فتحي عامة فإنه قد تم فى أبريل 2009 تسجيل قرية القرنة بالأقصر بمصر من قبل منظمة World Heritage Centre UNESCO ضمن برنامج Earthen Architecture ، وأنه على مصر دور بأن تعمل كمرحلة تمهيدية بأعداد وثيقة تتضمن جميع الانشطة التى يجب تنفيذها ، وجدير بالإشارة أن اتفاقيات التراث العالمي عموماً تنص على :
- دعوة لجنة التراث العالمي كل الدول الموقعة على الاتفاقية الى اخطار سكرتارية اليونسكو في حالة اتخاذ قرارات بشأن ترميمات اساسية أو عمل انشاءات جديدة قد تؤثر في القيم المحددة لهذه الممتلكات بهدف التأكد أن القيمة العالمية للتراث قد تم احترامها بشكل كامل ..
- عدم احداث تغييرات في منطقة الحماية سواء في فضاءه الحضري أو في بيئته الطبيعية ويجب أن يحظى أي تغيير بموافقة لجنة التراث العالمي قبل البدء فيها حيث أن المناطق الفاصلة مقيدة بقيود قانونية تضفي عليها الحماية اللازمة ..
- اية أعمال يجب أن تحافظ على الأصالة حسب النصوص الأساسية المتعلقة باتفاقية التراث العالمي 1972 ومنظمة اليونسكو 2005 ..
- يجب عرض أي عمليات في تغيير الوضع المعماري والعمراني على لجنة التراث العالمي قبل البدء في المشروع طالما الموقع موضوع على لائحة التراث العالمي ..
وفي إطار ذات الأهتمام الدولي والعالمي بتراث حسن فتحي ، أيضا قامت منظمة Fund World Monuments ـ وهي أحدى المؤسسات العاملة مع منظمة اليونسكو ـ وذلك فى 6 أكتوبر 2009 ، بتسجيل قرية القرنة الجديدة لحسن فتحى كأحدى الاماكن المهددة بالاختفاء وضمها لقائمة الاماكن المهددة ويجب العناية بها وترميمها لبرنامج سنة 2010 ، وتضم هذه البرامج تلك المواقع إذا ما كانت فى حالة خطرة وتهديد ، أو مهددة بالاختفاء أو التدمير سواء كانت نتيجة تأثيرات أقتصادية أو بيئية أو اجتماعية ، بالإضاقة إلى أهمية الحفاظ على هذا التراث وحمايته .
ومع هذا الأهتمام الخارجي الدولي فإنه أصبح من ضرورات الأحساس الوطني أن يتم وضع قرية القرنة ومبانيها تحت حماية قانونية محلياً ، وهو ما ندعو إليه من تسجيل القرية بحدودها ومجالها المعماري وبما تضمه من مباني عامة وسكنية كأثر يخضع لحماية قانون الآثار المعمول به لضمان الحفاظ عليها وشرعية إسترجاع ما كان قائماً ، ومن جهة أخرى ضبط التناغم والإنسجام بين ما يستجد من مباني مع القرية وطبيعتها المعمارية في إطار المجال الأثري كما يحدده القانون .
ندعو إلى أنه يتحتم على الجهات المحلية وقف جميع الأعمال الخرسانية الجارية الآن وفوراً لمخالفتها لطبيعة القرية وعمارتها ؛ مع حتمية إيقاف منح أي رخص بناء أو هدم من تلك الجهات المحلية المختصة حالياً للأفراد لحين تحمل الجهات المختصة لذلك بعد تسجيل القرية كأثر طبقاً للضوابط القانونية المنظمة لذلك ، وما يلبي الألتزامات الدولية الناتج عن تسجيل القرية على قوائم التراث العالمي .
يبقى أن نتحمل جميعاً مسئولية حماية هذا ما تبقى من تراث القرنة سواء في القرية القديمة والجديدة ؛ كما إنه من الحتمي محاسبة كل من حاول أو تسبب في ضياع هذا التراث بعيداً عن مجرد المسئولية القانونية الجنائية ، ولكنها محاسبة على المسئولية التاريخية والأدبية والسياسية ؛ وعلينا جميعاً أن نتحمل وزر ما تقدمه أيدينا ، فذاكرة الوطن لا تقبل المهادنة ، ومن تنازل عن ذاكرته وتاريخه لا يستحق الحياة .
ومابين قصور المؤسسات المعنية وغياب الوعي المجتمعي
كانت قصة ضياع القرنة القديمة والجديدة
في
تزامن يشير إلى خطورة موقفنا من اشكالية حماية التراث وما تعانيه من عشوائية وفوضى غير مبررة
اللهم بلغت .. اللهم فأشهد
طارق والي
هذا المقال نشر في فبراير 2016 في جريدة مركز طارق والي العمارة والتراث
للاطلاع على المقال
https://goo.gl/gwN43C
September 29, 2015
زمــــــانيات مصريـــة
ابداعــــــات رواد الوطنية المصريــــة
مئة سنة عمـــــارة
افتتاحيــــــــــة ..
إن قراءتنا أو استقراءنا التاريخ لمرحلة ميلاد جديد للوطنية المصرية من تاريخ مصر الحديث في القرن العشرين وجذوره في القرن التاسع عشر ، هي قـراءة شـــاملة في كافة المناحي والمجالات ومنها تاريخ الحركة المعمارية .. بالرغم إنها قد تبدو تعبير عن وجهة نظر ذاتية ، ولكنها في حقيقتها مبنية على بحث موضوعي حاولنا أن يكون حيادياً ، يدقق في المنقول ولا ينقل عن المتداول بدون سند أو السائد الضال والمضلل من محاولات بعضها استشراقية أو غربية والبعض الآخر محلية بغباغوية ، وأغلبها فاقد الدقة ومخالف الحقيقة .. هي وجهة نظر تعتمد قراءة الحقيقة المجردة بقدر الامكان والممكن ، حقيقة تبدأ من منطلق وطني ومهني ، نؤمن عندها كمعماريين أن العمارة في جذورها أحد رواسم حضارة المجتمع بل هي التعبير المادي لثقافة الشعوب والمجتمعات ، المرآة الصادقة لوضعية وحال الانسان والمجتمع والدولة . وإن ما نفخر به في مصر اليوم من معالم وآثار وتراث خلفها لنا التاريخ وحفظها الزمان من اهرامات ومعابد وكنائس ومساجد وقصور وبيوت وعمران قرى أو مدن ، هي جميعها موروثات معمارية وعمرانية ابدعها الأجداد ، وسجلوا لنا من خلالها وسطروا بها تاريخ عصرهم سواء في فترات النهوض أو حتى في فترات الأنتكاسات التي تعرضت لها مصر مجتمعاً ودولة على مدى تاريخها الممتد لآلاف السنين وإلى اليوم والغد ..
تلك افتتاحية لزم التنويه لها ، لنحدد اين نحن من القضية واين نقف لنقرأ قبل أن نسجل ..
هذه رؤيتنا وموقفنا وعليه ترتسم قراءتنا ونظرتنا ..
زمانيات مصرية مشروع شــامل قومي ووطني ..
إن موضوعنا وقضيتنا بعنوان زمــــانيات مصريـــة .. وبالضرورة وحتمية المصداقية أن يكون العنوان مدلول للموضوع ، وهو المرتبط بحركة التراث المعماري في القرن العشرين تاريخنا وموروثاتنا الأكثر حداثة ضمن منظومة تاريخ طويل متواصل الحلقات ، ومن المؤكد إنه لا يمكن فهم هذا التاريخ في اطار جزئي أو مجزأ لأنه يُفقد الموروث شموليته بل ومضمونه .. فالصورة لا تكون واضحة إلا عندما نراها كاملة ، والبحث في تاريخ الحركة المعمارية المصرية لا ينفصل عن تاريخ الأمة .
وهنا كانت زمانيات مصرية موضوعنا وقضيتنا .. ومنها مئة سنة عمارة أو تاريخ الحركة المعمارية المصرية بمراحلها وتتابعها ..
قضية أرتبطت بزمان أو زمانية معينة مع ميلاد جديد للحركة الوطنية المعاصرة أو الحديثة
مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين
قضية أرتبطت بثقافة مجتمع ووطن لهما جذورهما الحضاريـة في المكان
مع الأرتباط الأول .. كانت زمانيات
مع الأرتباط الثاني .. كانت مصرية
فهي زمــانيات مصريـة
ومنها مئة سنة عمــارة … جزء من كل لاينفصل عنــه
دخلت مصر في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر دورة جديدة للحركة الوطنية ـ بجذورها الأقدم ـ في مواجهة مع الغرب المستعمر الغازي الجديد في المرحلة الحديثة من تاريخنا ، بدأت بالانتفاضة على التبعية التي عاشتها مصر كولاية هامشية نسبياً في دولة الخلافة المركزية ، رغم طاقاتها الذاتية والتي تفجرت على فترات . لقد بدأت الحركة الوطنية المجتمعية دورتها تلك كنتيجة لبداية انهيار الخلافة المركزية من جهة ، وميلاد قطب جديد للهيمنة في الغرب يتطلع للسيطرة على الشرق من جهة اخرى .. عاشت مصر هذا التحول التاريخي داخلياً وخارجياً ، وكانت حركة محمد علي السلطوية ومن خلفه من الأسرة العلوية على مدى القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ، هي محاولات وأحلام أو أوهام تزعم التواصل ما بين مصر التاريخ والمكان ، وبين أوروبا الحضارة والتنوير الحداثة ، احلام حملت في ظاهرها التحديث وفي طياتها تبعية جديدة منذ مطلع القرن التاسع عشر على حساب الحراك الوطني المتوالد عند المصريين في مواجهة مستعمر طامع وحاكم متطلع للسلطة المطلقة .. محاولات نجحت أحيانا وأنتكست أخري ، وكانت النهاية المتوقعة أو المنتظرة إعلان سقوط الخلافة وإعادة رسم خريطة الشرق من خلال رؤية استعمارية غربية لأقطاب القوى العالمية حينئذ انجلترا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى .
تراجعت مرحلياً النزعة الوطنية خلال القرن التاسع عشر حتى كان انبعاثها مع انتفاضة وطنية جديدة بدأها أحمد عرابي ورفاقه من الوطنيين المصريين في سبعينات القرن ، واجهتها محاولة المستعمر الخارجي الاجنبي والنخبة الحاكمة لمصر في الداخل ، بهدف القضاء على أرهاصات تلك الصحوة النهضوية ومحاولة تغييب دور القدوة الوطنية والطليعة من المثقفين المصريين خاصة بعد انكسار الحركة العرابية ، وللأسف ضعفت في نفوس بعض المصريين الروح الوطنية لحين ـ أو كادت ـ ، ولكن أحتفظ الوطن والانسان المصري ببعض الآمال ، بدت للظهور في نهاية القرن التاسع عشر من خلال ركام الأخفاقات وراحت تطفو فوق السطح من خلال مجموعة من التنويريين أمثال الكواكبي ومحمد عبده وعبد الله النديم …… وآخرون ، وهو الأمر الذي ساهم بشكل مباشر وجديد في احياء الآمال في نفوس فئات من الشعب المقهور المغلوب على أمره ، فنشأت هنا نزعات الحركات الوطنية في كافة المجالات سياسياً واقتصادياً وفكرياً وعلى كافة المستويات والأصعدة ، ومنها الفنون والعمارة كروافد ثقافية للمجتمع ….
تصاعدت الحركة الوطنية المصرية في مطلع القرن العشرين بذكرياتها وماضيها القريب ، لم يكن يتوقع أن تصير إلى العدم لهزيمة آنية للحركة العرابية ، فالأسباب التي أنبعثتها في الماضي القريب من سيطرة الأجانب على الوطن واستغلالهم له ، كان لابد أن تُبعث من جديد بمجرد التغلب على ما كان من آثار انكسار سنة 1882 ، الذي مكن للسلطات الاجنبية السيطرة الكاملة والمعلنة ، وتصبح هي صاحبة الأمر والنهي في علاقات الحاكم والمحكوم ، وغلف الخنوع حيناً حياة المجتمع المصري ، وساد أحتكار الأجانب لمقاليد الحياة السياسية .. والمقدرات الاقتصادية ، وومحاولة حرمان المجتمع المصري من زعامات وطنية تقاوم أحتكار هذا المستعمر في كافة النواحي ، بل الأدهى من ذلك تسارع توافد الأجانب على مصر من أجل الاستثمارات وسط تركيبة مغرية للكسب ، وعليه تم إحكام السيطرة على موارد الدولة الاقتصادية ، وفرض نوع من التبعية الحضارية والثقافية ، وبالتالي المجتمعية .. كانت محاولة حرمان البلاد من اية امكانية للنهوض وانعاش أي من طبقات المجتمع في ذلك الوقت بشكل أو بآخر ، وهي من الأمور التي أدت إلى أرتفاع معدلات البطالة وأنتشار الفقر وأنخفاض مستوى المعيشة وتردي الأوضاع الاجتماعية بشكل أساسي ، فتنامت بالبلاد البنوك الأجنبية والشركات العقارية الاجنبية وكذلك شركات المال والزراعة والمقاولات والنقل والصناعة والتجارة والفنادق ..
وأمست .. الدولة المصرية والمجتمع خارج إطار الزمن ..
الرفـــــــــــــــــاهية والتقدم في أيدي الأجانب ..
التخلف والفقر والجهل من نصيب المصريين ..
أمست .. كل الكيانات الاقتصادية والادارية أجنبية وأزداد التغلغل في الامور الحياتية وأمسى المصريون فقراء أجراء يعيشون على الهامش من الحياة والتاريخ والجغرافيا ، حالة تعثر غير عادية وعبودية ورق وسنت القوانين لصالح الاجنبي وتحول الاستعمار إلى استبداد سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي واداري ، وحتى مهني وتقني ..
كان انهيار اخلاقي واجتماعي مصاحب أو نتيجة لانكسار الروح الوطنية
ولو مؤقتــــــــــــــاً
حتى مطلع القرن العشرين
هكذا لم تعد الحياة في مصر عندئذ تحكمها سوى صيغة واحدة .. ألا وهي “الاحتـكار الاجنبي” وسيطرته الكاملة في كل الاحوال على مقدرات مصر والمصريين ، وفي المقابل كانت حتمية ظهور ردود أفعال لما يجري على أرض الوطن ، وظهور زعامات وطنية جديدة في كافة مناحي الحياة وتنويعات مجالات نشاطاتها تستهدف اعادة للانسان كرامته ، وتطالب بالقضية الوطنية وحق المصري في وطنه وعلى أرضه ، واستقلال الامة وارادتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وقبل ذلك ثقافيا وفكرياً … لتعيد المنظومة الحضارية الوطنية المصرية في تكاملها وشموليتها ..
وكان من القدريات أن تصدى لزعامة الأمة سياسياً الشاب مصطفي كامل ، ولو كانت الصحوة لا محالة متبلورة وناهضة من كبوتها عاجلاُ أو آجالاً ، ولكن كان الفضل في سرعة تبلورها في مطلع القرن العشرين راجعاً لاريب إلى مصطفى كامل وصحبه …. وما لبثت أن تعاظمت الحركة الوطنية وأنضمت إليها الطبقة المتعلمة والمثقفة الوطنية ، وقد بذلت السلطات كثير من الجهد في ايجاد حركات مناهضة ومناقضة للحركة الوطنية وسموهم “المعتدلون” (الذين كانوا لا يريدون التغيير وترسيخ رؤية مناهضة للهوية الوطنية والانتماء الوطني لحساب شعارات طائفية أو ايدولوجية ) ، وتصاعد الحراك الوطني في العقد الثاني من القرن العشرين وتحديداً بعد اعلان الحماية الانجليزية على مصر سنة 1914 ، وهو ما أعترفت به تركيا لاحقاً في مؤتمر لوزان سنة 1923 ، وسقطت الخلافة وأمست مصر دولة مستقلة أسمياً وتحولت من ولاية في دولة الخلافة العثمانية إلى دولة تحت الاحتلال والتبعية الكاملة والمعلنة لانجلترا والغرب الأوروبي عموماً ، واثناء ذلك كانت مصر الدولة والمجتمع تفور بأحداث متلاحقة بعضها يمهد للمرحلة الجديدة من المواجهة ، وبعضها الآخر كان السبب المباشر في هذه التحولات ، ومنها على سبيل الأستدلال والأسترشاد وليس الحصر :
حادثة دنشواي في 13 يونيو سنة 1906 واتخذت منها الوطنية المصرية نسقاً للتعبير عن الظلم الذي تمارسه السلطة المحتلة ضد الشعب المصري المغلوب على أمره .. وبعدها إقالة اللورد سنة 1907 وهو المعتمد البريطاني الحاكم الفعلي المستبد للبلاد …. وتصاعدت الحركة الوطنية السياسية مع مصطفى كامل واصدار جريدة اللواء لسان حال الوطنيين وتأسيس الحزب الوطني ملتقى الوطنيين ومحاولته نبذ الشقاق والاختلاف وتوحيد كلمة الأمة ..
نشوب الحرب العالمية الاولى (1914 ـ 1918) ، ومعها اعلان الحماية الانجليزية على مصر وتدفق الجيوش الانجليزية وحلفاؤها إلى مصر ، وكذلك التدخل السافر والمتكرر مرة اخري للمحتل في شئون حكم مصر بخلع عباس حلمي الثاني وتولية حسين كامل سنة 1914 حكم مصر .
الأزمة المالية العالمية وهبوط اسعار القطن في البورصات العالمية ، واحتكار الحكومة الانجليزية لمحصول القطن المصري .. وقبل ذلك في سنة 1908 اعلان مد أمتياز قناة السويس لمدة أربعين سنة أخرى تنتهي سنة 1968 ، وغيرها من الممارسات الاحتكارية الاقتصادية والتحكم في ادارة موارد ومؤسسات الدولة .
انتشار وتنامي تأسيس البنوك والمصارف الاجنبية فكانت السيطرة والتحكم على الاوضاع النقدية في السوق المصرية واحكام سلطتها عليها لمصالح الدائنين الاوربيين .
انفردت الشركات العقارية الاجنبية على احتكار التنمية العمرانية في مصر عامة وفي القاهرة وامتدادتها المستحدثة بشكل خاص ، ومنها تنمية مصر الجديدة في شمال العاصمة والمعادي في الجنوب وجاردن سيتي وكذلك الزمالك في الغرب .. وحتى الزيتون وحدائق القبة …. ولم تنجو وسط المدينة من تلك الاحتكارات الاجنبية ..
توافد المهنيون والمتخصصون الاجانب الاوربيون والهيمنة على كافة المجالات المهنية وحتى الحرفية والخدمية ، وفي مقدمتها الممارسات المعمارية التي غاب عنها المصريون تماماً حتى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين .. وتحول غالبية المصريين من الطبقات المتوسطة المتعلمة إلى افنديات موظفين في الدولة ومؤسساتها محدودي المسئولية والدور التنموي والتنويري والثقافي والفكري والابداعي …
تأسست المحاكم المختلطة في مصر وسُنت لها القوانين الجائرة الوضعية والخاصة لحماية الاجنبي على حساب المصريين ، وتوالت التشريعات المقيــدة للحقوق والحريات والفكر والحراك الوطني وكان منها قانون المطبوعات لتكميم الأفواه وتقييد الحراك المتنامي .
كانت تلك الظروف والاحداث والمواقف في العقدين الأولين من القرن العشرين ….. وغيرها الكثير والمتنوع لامجال لحصره هنا ، هي في مجموعها المؤثرة في كيانات المجتمع المصري وحياة الانسان ، حملت بداخلها عوامل حتمية التغيير وفجرت شعلة الحراك لتصحيح تلك الاوضاع التي عانى منها غالبية المصريين بكل طوائفهم وطبقاتهم لاسيما الطبقات المتوسطة والفقيرة والأكثر فقراً، وبدا في الأفق حراك مجتمعي وثوري شعبي قادم لا محالة .. وهو ما حدث في الانتفاضة الشعبية التي بدأت في 9 مارس سنة 1919 التي زكتها الروح الوطنية في كيانات ونفوس الشعب المصري وساندتها القوى الشعبية ، وسرعان ما طارت الشرارة إلى أنحاء الوطن ..
كانت أسبوعاً من البعث الوطني عاشته مصر من أقصاها إلى أقصاها ..
أسبوعاً من الصحوة التي فجرت طاقات الأمة النهضوية والفكرية والابداعية الوطنية ..
ولقد لعب الرواد من المفكريين والمثقفين واهل الرأي والمبدعين من الفنانين دوراً محورياً في تلك الصحوة مع السياسيين ورجال الاقتصاد والعلم ، جمعتهم النزعة الوطنية لشباب المرحلة في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين ..
كـانت انتفاضة شعبية شاملة جامعة وطنية
بكل معاني الكلمة دونما تعصب أو تشرذم أو صراع اجتماعي
رائدها الوحدة الوطنية وهدفها الصحوة الشاملة
واستعادت المصريين لحقهم في وطنهم كل في مجاله ومن منطلق موضعه
واستمرت الطاقة النهضوية ..
تسارعت أحياناً وتباطئت أحياناً أخري مع تصادمها مع أصحاب المصالح المضادة لها من المحتل الاجنبي الخارجي والنخب المتحالفة معه في الداخل ، ولاسيما هذه المواجهة مع النكسة السياسية مع مطلع الثلاثينات من القرن العشرين ، تلك النكسة التي أصابت هذه المرحلة والحراك الناهض ، عطلت طاقات الإبداع والأنطلاق ولكنها لم تنجح في كبح جماحه مع أستبداد الحكم المطلق بعد سنة 1930 ، حين أمست الحرية مغلولة والرأي مُقيد والفكر مُحاصر والابداع مُحارب .. عندها عاد جيل المفكرين والمبدعين ليلتقط الأسلحة التي ألقاها ليرد بها العدوان عن حرياته الأساسية وحقوقه وعن القيم التي ظفر بها في حراكه الوطني خلال عقد العشرينات التي تلت سنة 1919 ، ومن موجة تلك الانتكاسة وليس حصراً لها ، نرصد بعض من الممارسات المناهضة للصحوة الوطنية ..
إلغاء الدستور وتعطيل الحياة النيابية الوليدة .
محاربة التجربة الوطنية التنموية لطلعت حرب وبنك مصر .
اتهام العقاد بالعيب في ذات الملك ومحاربته .
اقصاء طه حسين عن عماده كلية الآداب .
استقالة أحمد لطفي السيد من منصب مدير الجامعة .
استقالة السنهورى من كلية الحقوق .
فصل حافظ إبراهيم من دار الكتب .
تصاعد الأزمة وقضية محمود مختار مع الحكومة لمنعه إقامة تمثالي سعد زغلول رمز الأمة في كل من القاهرة والإسكندرية
………………………………
كانت تلك وغيرها من عشرات بل مئات المواقف والمواجهات على كافة المستويات واختلاف الاتجاهات نكسة لتيار النهضة الذي مضى مدفوعاً بقوى الشعب وتطلعاته الوطنية في العشرينات من القرن ، وأستمر لعقد كامل في حراك وتنامي متصاعد في مواجهة المحتل الأجنبي والنخب المجتمعية المتحالفة معه ، واستمر الحراك الوطني وتصاعد دور رواده في ترسيخ الروح الوطنية والهوية وأتسعت دوائر تأثير المفكرين والمبدعين والمثقفين المصرييين في كافة المجالات ، حتى تمكن المصريون في منتصف القرن العشرين مع ثورة يولية 1952 من بداية تحقيق التغيير والانجاز الوطني المستحق بعد سبعة عقود من تنامي الحراك الوطني منذ الحركة العرابية سنة 1882 وبعدها الانتفاضة الشعبية سنة 1919 مروراً بالانتكاسات الموازية والمتكررة المعطلة لتلك الرحلة الوطنية ..
وإذا كانت طاقات الابداع في الأمة قد تفجرت من جديد مع الصحوة والحراك الوطني في السنوات بين انتفاضة الشعب سنة 1919 ونكسة النخبة سنة 1930 ، فإن ما ظهر في هذه الفترة النهضوية الوليدة من معالم ابداعية جماعيـة كان مسبوقاً بمقدمات فردية لا تجعلها جديدة من عدم ، ولكنه تنامي لحراك بدأ ولم يستكمل مساره حينها ، ومن هذه الارهاصات الابداعية نرصد بعض المعالم في إطرها العامة وروادها على سبيل الاسترشاد وليس الحصر ..
ولكن نجتهد ونتطلع إلى رسم الصورة الجامعة والمتوحدة بين مكوناتها ومع زمانها ومجتمعها ..
رواد الزعامـــــات السياسية .. بدأت بأحمد عرابي ورفاقه ومن بعدهم مصطفى كامل ومحمد فريد …
رواد تنمية الاقتصاد الوطني .. كانت البداية الحقيقية مع طلعت حرب رائد الاقتصاد الوطني في العقد الثاني من القرن العشرين ، فكانت نهضة لها بوادر وبشائر سبقته رغم محدوديتها ، ويحسب لرائد الاقتصاد الوطني هذا الأنطلاق الغير مسبوق بتعددية مجالاته وإنتشاره وبعمق الهوية الوطنية النازعة للاستقلال الاقتصادي على التوازي مع الاستقلال السياسي ..
رواد العــــــــــــلم والتعليم .. تعددت الفروع المعرفية من علوم ورياضيات وطب وعلوم انسانية وطبيعية وفلسفة وتاريخ وقانون وتشريع مع تأسيس الجامعة المصرية في مطلع القرن العشرين ، وتعميق دورها المعرفي والفكري والمجتمعي ، فكان هنا جيل من الرواد في كافة فروع العلم والمعرفة منهم : مصطفى مشرفة ومصطفي عبد الرازق واحمد لطفي السيد وعبد الرزاق السنهوري وعلي ابراهيم …
رواد الفكر والتنويــــــــــــر .. حمل لواء التغيير والتنوير رائد التجديد الفكري محمد عبده قبل نهاية القرن التاسع عشر وتبعه من رواد الفكر أحمد لطفي الزيات وقاسم أمين وأسماعيل مظهر ومعهم نبوية موسى وهدي شعراوي ودرية شفيق وسهير القلماوي وعائشة عبد الرحمن …
رواد الصحــــــافة والنشــر ..عرفت مصر حشداً من رواد الصحافة المصريين من منتصف القرن التاسع عشر ، وتصاعد دور الصحافة مع الحركة الوطنية في نهاية القرن والعقود الأولى من القرن العشرين في مقدمتهم عبد القادر حمزة وقد أصدر أكثر من 16 صحيفة وجريدة وعاصره محمود عزمي وفاطمة يوسف (روزاليوسف) ومحمد التابعي ومن بعدهم جلال الدين الحمامصي وأمينة السعيد ولطيفة الزيات ومصطفى وعلي أمين وأحمد بهاء الدين ومحمود السعدني …
رواد الثقافـــــــــة والفنون .. رفع راية التجديد والابداع مع العقود الأولى من القرن العشرين جيل من الشباب الرواد الوطنيين في شتى فروع ومجالات الثقافة والفن والابداع ..
رواد الشــــــــــــــــــعر .. من أمثال أحمد شوقي وحافظ ابراهيم ومحمود حسن اسماعيل وابراهيم ناجي وملك عبد العزيز وخليل مطران وعلي محمود طه وبديع خيري وبيرم التونسي ، وكانوا قد حلقوا في آفاق عصرين : عصر ما قبل ثورة 1919 والعصر اللاحق له ، وكان هذا الجيل مسبوقاً بأستاذية محمود سامي البارودى وعبد الله النديم .. وكانت الاستمرارية مع نجيب سرورصلاح عبد الصبور وصالح جودت وفؤاد حداد وصلاح جاهين …
رواد الفنون التشكيلية .. تجمع رواد الجيل الأول من الفنانين وكونوا لجنة فيما بينهم لتنظيم أول معرض فني لعامة المصريين وأقاموه بحي الفجالة سنة 1919 ، ومن هؤلاء محمود مختار ، ومحمد حسن ، ويوسف كامل ، وراغب عياد ، وعثمان دسوقى ، ولبيب تادرس … ، وفى سنة 1921 بدأ تصاعد شعور هؤلاء الرواد للحاجة إلى حركة تشكل تيار مجتمعي فأسسوا الجمعية المصرية للفنون ، وأعقب هذه الحركة تأسيس جماعة محبي الفنون الجميلة سنة 1923 ، غير أن هؤلاء المبدعين أسسواحركة أخرى حول فكرة الفن القومي فتكونت ” جماعة الخيال ” ، وربط بين هؤلاء الرواد إحياء الفن المصري بجميع أشكاله ، وكان حراكاً طموحاً لمشروع نهضوى للإبداعات الفنية ودورها في تغيير المجتمع وتطوره ، وعاصر هذا الحراك الفني وشارك في تفعيله محمد ناجي ومحمود سعيد ورمسيس يونان وأحمد صبري …..
رواد الادب والتــــــأليف.. ظهر جيل من الأدباء الرواد الشباب الوطنيين وكان مسبوقاً بأجيال أخرى في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في مصر ، وفي مقدمة هؤلاء ابراهيم عبد القادر المازني ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن شكري وأحمد أمين وأحمد لطفي الزيات ، ومعهم وبعدهم أمينة السعيد وثروت أباظة وتوفيق الحكيم وطه حسين وعباس ومحمود العقاد ، ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف أدريس …
رواد الموســــــــــــيقى .. عرفت الحركة الابداعية الموسيقية المصرية تنويعات بين تحديث الموسيقى الشرقية وتمصير الموسيقى الكلاسيكية ، فكان رواد التأليف الموسيقى الشرقية أمثال عبده الحامولي رائد التجديد ومحمد حسن الشجاعي وسلامة حجازي وسيد درويش والقصبجي وزكريا أحمد … ، ومن جهة أخري كان من رواد تمصير الموسيقى الكلاسكية عزيز الشوان وجمال عبد الرحيم ويوسف جريس وابو بكر خيرت وبهيجة صدقي رشيد ..
رواد الطرب والغنــــــاء .. أرتبط الغناء والطرب بالابداعات الموسيقية وتطورها ، فكان عبد الحامولي رائد التجديد الموسيقي والطرب والغناء ، وكانت سكنة بك وألمظ وبعدهم منيرة المهدية وصالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ومحمد عبد المطلب …
رواد المســــــــــــــــرح .. عرفت مصر والمصريون المسرح العنائي وكان من رواده سلامة حجازي وسيد درويش ، وواكبه عل التوازي ظهر المسرح الدرامي بدأ بحركة تمصير ، تبعتها حركة تعتمد على التأليف المسرحي ، وكان من رواد المسرح حينها يعقوب صنوع وعزيز عيد وجورج أبيض وعزيز أباظة ويوسف وهبي ودولت أبيض وأمينة رزق وفاطمة يوسف ، ومعهم نجيب الريحاني وبديع خيري وعلي الكسار ….
رواد الســـــــــــــــــــينما .. ظهر فن السينما في الاسكندرية نهاية القرن التاسع عشر وتحديداً سنة 1897 ، وكان للرواد المصريين دورهم في تطور هذا الفن في عشرينات القرن العشرين ومنهم محمد بيومي ومحمد كريم وأحمد بدرخان وأحمد جلال وماري كوين وآسيا والأخوين عبد القادر وكامل التلمساني وتوفيق صالح ……..
رواد العمـــــــــــــــــــارة .. مع العقود الثلاث الأولى من القرن العشرين خرج جيل الرواد من المعماريين المصريين بعد أن حصلوا على تعليمهم المعماري في مصر أو خارج مصر ، ليحملوا حق المصريين في عمارة مصرهم مع أختلاف الخلفيات التعليمية والثقافية لهؤلاء الرواد دونما تصارع ، ولكن كان يجمعهم الحق في كسر أحتكار الاجنبي للممارسة المهنية المعمارية في ربوع الوطن ..
العمارة والمعماريون المصريون ضمن زمانيات مصرية ..
هذه هي الصورة الوطنية كما نراها لتراثنا المعاصر والحديث في القرن العشرين التي نتطلع إلى تأسيسها بتكاملها وشموليتها ، ونسعى وندعو لرصدها وتوثيقها لتقديمها للأجيال القادمة بدقة وموضوعية دون تزييف أو تجميل أو تحقير .. دون شوفانية أو نرجسية ، هي بحق وحقيقة حالة وطنية سجلها التاريخ وعاشتها الأمة .. في تلك العقود من النصف الأول من القرن العشرين في كافة المجالات الابداعية والفكرية والنهضوية . هي يحق وحقيقة قضية وطنية ومسئولية قومية تمس هويتنا ووجودنا ، حاضرنا ومستقبلنا ، محاسبون عن غيابها من ذاكرتنا والتباكي الخادع بدموع التماسيح عن ضياعها والادعاء الكاذب أو المغلوط بمعرفتها والحفاظ عليها …
قضية وطنية واشكالية قومية .. ومنها العمارة قضيتنا التفصيلية في ” زمانيــــات مصريـة “ ، قضية نتتبع فيها الحركة المعمارية للمعماريين المصريين على مدى القرن العشرين بدأها روادها في النصف الأول من القرن ، حركة هي جانب لا ينفصل عن تلك الملامح الوطنية التي رسمت في مصر طبيعة بداية أرهاصات المرحلة النهضوية في الربع الأول من القرن العشرين مع ميلاد الحركة الليبرالية المصرية عموماً وصعود النزعة الوطنية التي عاشتها الأمة ..
ونحدد هنا إنه مع ميلاد القرن الجديد نشأ الجدل الثقافي حول الموروث والمنقول في اطار الصراع بين حركة التحرر الوطني وتطلعاتها وبين حركة التحديث و حتميتها ، وفي قلب هذا الحوار ومن خلاله ظهر جيل رواد العمارة المصريين في مطلع القرن العشرين يتحركون في اتجاهين متوازيين لرسم مسار التغيير الاجتماعي والثقافي للمجتمع ومحاولة التصدي لإشكالية التأصيل والتجديد ومن خلال افرازاتهم الابداعية ..
الاتجاه الاول .. كان يتجه نحو الذات وتأصيل العمارة من مفهوم تقليدي نقلي أحيانا ومتطلع إلى تطوير الموروث للوصول إلى المعاصرة أحيانا اخرى ، بدأ ولو مرحليا على أيدي العديد من المعماريين الاجانب المستشرقين ، ولكنه انطلق في اتجاهات وحلقات متواترة في تتابع على ايدي رواد العمارة المصريين امثال مصطفى فهمي ومن قبله محمود فهمي ، و تعمق هذا الاتجاه لاحقاً على ايدي قطبي العمارة التقليدية المصرية رمسيس ويصا واصف وحسن فتحي ، و لم يقف عند هؤلاء بل اخذت تتسع حلقاته بعمق أحياناً ، وسطحية هزلية أحياناً أخرى حتى اليوم .
الاتجاه الثاني .. كان يتجه نحو تحديث الرؤى المعمارية في اطار تجديد الخطاب الحضاري المعاصر حينئذ وتفاعله مع روافد الحضارة الغربية الاوروبية وثقافاتها المتعددة ، و كانت لرحلات التنوير الثقافي وطلب العلم لجيل الرواد من المعماريين إلى اوروبا تأثيره المباشر على العمارة في مصر في الربع الاول من القرن العشرين فعاد الجميع وكل يحمل رؤيته وتطلعاته لتحديث الحركة المعمارية من خلال ما تعلمه وعاصره ومارسه هناك ، وكانت ابداعيات هؤلاء المعماريين هي حجر الزاوية و نقطة تحول للعمارة المعاصرة المصرية بالمفهوم السائد ، فعاد على لبيب جبر ومحمد شريف نعمان ومحمود رياض ومحمد رأفت ومحمود الحكيم من الذين أكملوا دراستهم في انجلترا وحملوا مشاعل التنوير والتغيير من وجهة نظرهم ، وعاصرهم الاخوين حسن ومصطفي شافعي واحمد شرمي واحمد صدقي … وآخرين من الذين أكملوا دراساتهم بمدرسة الفنون الجميلة بباريس وغيرها .
واستنفرت الحركة المعمارية والمعماريون الهمم في دفع مسيرة التطوير وتقليص الفجوة الحضارية مع الحادث ، لمواكبة تسارع حركة الحضارة بوعي ، وعاشت الحركة المعمارية حتى أواسط القرن العشرين زخم ثقافي مصدره التنوع في روافد الفكر ، دونما تصارع بل في تجاور يحمل الحد الادنى من التناغم ، واستمرت في تدافعها مع جيل المعماريين العائدين من روافد جديدة للحداثة حملها هناك امثال لوكوربويزيه و نقلها ومصرها رواد امثال سيد كريم العائد من دراسته في سويسرا ليشكل رافدا جديداً متطوراً مع آخرين بعد الحرب العالمية الثانية في نهاية الاربعينات ..
هكذا شهدت مصر على مدى أربعة عقود في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية طرح جاد لقضية الهوية الثقافية والحضارية للعمارة في مصر ضمن الحركة الوطنية المصرية الشاملة ، وحققت الحركة المعمارية فورات وانتفاضات تقدمية أحياناً و تأصيلية وتقليدية احيانا اخرى ولكنها جميعاً كانت تبحث عن بلورة جديدة لوضع العمارة ضمن رواسم حضارة مجتمع جديد في عالمه الجديد .. وبغض النظر عن التقييم النقدي لتلك المحاولات ، وماحققته من نجاحات أو أصيبت به من فشل فهي تعبر بصدق عن متطلبات العصر والمجتمع ، بازدواجيته الثقافية والفكرية والاجتماعية
بين التقليدية والتحديث .. بين المنقول والمنظور
شكلت في مجموعها ملمحاً أساسياً في تاريخ الحركة المعمارية في القرن العشرين
متزامنة مع الحراك الوطني خلال النصف الأول من القرن
ونحدد حصر أولي للمعماريين المصريين ـ الجيل الأول للرواد ـ في النصف الأول من القرن العشرين والمتضمن لعدد خمسين معمارياً يمثلون هذه المرحلة كبداية لتأسيس أرشيف رقمي لتاريخ الحركة المعمارية خلال هذه المرحلة ، وهي قائمة قابلة للاضافة والزيادة ، وتشمل الرواد ..
علي لبيب جبر
مصطفى فهمي
حسن و مصطفى شافعي
محمود رياض
انطوان نحاس
شارل عيروط
ألبير زنانيري
ماكس أدرعي
محمد رأفت
رفعت شفيق
ميخائيل موسى
أنيس سراج الدين
ألبير خوري
ريموند انطونيوس
محمد شريف نعمان
ابو بكر خيرت
حسن فتحي
رمسيس ويصا واصف
احمد شرمي
السعيد ابراهيم الجندي
عبد السلام درويش
عبد الحميد محمد ابراهيم
محمود الحكيم
احمد صدقي
سيد كريم
فريد شافعي
توفيق عبد الجواد
نجيب استينو
كمال اسماعيل
اسماعيل مرعي
صديق شهاب الدين
ابراهيم فوزي
احمد شاكر
عوض كامل فهمي
مصطفى نيازي
محمد محي الدين
صلاح زيتون
مصطفى شوقي
علي نصار
يوسف شفيق
يحي الزيني
مصطفى رشدي
محمد زكي الطويل
عمرو عزبو
فتحي عبد السلام حسن
موريس عزيز دوس
شاكر جرجس
عبد الفتاح البنرزي
عبد المجيد صالح
علي الحريري
السعيد ابراهيم الجندي
وخلال الأولوية الحالية لمشروعنا المستمر لبناء ارشيف رقمي ، حددنا في مركز طارق والي العمارة والتراث عشرة معماريين كبداية لرصد وتسجيل المتاح والممكن من معلومات ومشروعات ، يتبعها خطوات نستكمل بها المسئولية ، وهم ..
مصطفي فهمي ..
علي لبيب جبر ..
محمد شريف نعمان ..
محمود رياض ..
حسن شافعي ومصطفى شافعي ..
شارل عيروط ..
ألبير زنانيري ..
ابو بكر خيرت ..
رمسيس ويصا واصف ..
هكذا فإن زمانيــــــــــــــات مصريـة .. ومنها مئة سنة عمارة ..
هو مشروع وطني ومعماري نرصد خلاله تراثنا المعماري المصري للمعماريين المصريين ، نسجل من خلاله تجاربهم وابداعاتهم ، دونما الخوض في تقييم المنتج المعماري ذاته أو حتى تصنيفه على انساق استشراقية أو تحليل قائم على أفكار ومواقف بعضها يضع التجربة والتاريخ في تبعية فكرية لمفهوم وثقافة غربية سواء بحسن نية أو بسوء نية …. لذلك نحن نرصد ونسجل ونوثق في هذه المرحلة بحيادية وتجرد وموضوعية دون تقييم أو وضع التجربة المعمارية ـ التي هي جزء من الصورة الوطنية الشاملة ـ في قوالب أو تحجيم دورها وتجزئة الصورة الكاملة للصحوة الوطنية ..
نحافظ على التراث في صورته الجامعة
نفهم هذا التراث في تكامله وتفاعله مع تنويعات الصورة على أختلاف مسارتها ومحافلها الفكرية
والابداعية الثقافية والمهنية والفنية .. السياسية والاقتصادية والاجتماعية
إنها
تجربة مجتمع في زمان معين
هي زمانيات مصرية
ومنها العمارة
نؤمن إنه لا يمكن فهم دور الرواد الوطنيين المصريين في بدايات القرن العشرين في كافة المجالات إلا
من خلال القراءة الصحيحة والجامعة لحال المجتمع وظروف عصر هؤلاء الرواد
نقوم بتصحيح مفاهيم خاطئة أو مغرضة بدعوى ” الزمن الجميل ” أو ” تحديث مصر ” …. وغيرها من
مقولات ظاهرهـــا براق وبــاطنها خداع
إن رواد الوطنية في القرن العشرين
كل في مجاله كان سبباً في خروج المجتمع والانسان المصري من حال إلى حال
لا نقصد هنا تقييم .. فهناك نجاحات وانجازات واخفاقات
المحصلة كانت لصالح التغيير
كانت محاولة تحديث حقيقية بدوافع مخلصة للوطن والمواطن
طارق والي
يونيــو 2015
سبق نشر هذا المقال على الجريدة الاليكترونية لمركز طارق والي العمارة والتراث https://walycenterjournal.wordpress.com/
مئة سنة عمـــــارة
افتتاحيــــــــــة ..
إن قراءتنا أو استقراءنا التاريخ لمرحلة ميلاد جديد للوطنية المصرية من تاريخ مصر الحديث في القرن العشرين وجذوره في القرن التاسع عشر ، هي قـراءة شـــاملة في كافة المناحي والمجالات ومنها تاريخ الحركة المعمارية .. بالرغم إنها قد تبدو تعبير عن وجهة نظر ذاتية ، ولكنها في حقيقتها مبنية على بحث موضوعي حاولنا أن يكون حيادياً ، يدقق في المنقول ولا ينقل عن المتداول بدون سند أو السائد الضال والمضلل من محاولات بعضها استشراقية أو غربية والبعض الآخر محلية بغباغوية ، وأغلبها فاقد الدقة ومخالف الحقيقة .. هي وجهة نظر تعتمد قراءة الحقيقة المجردة بقدر الامكان والممكن ، حقيقة تبدأ من منطلق وطني ومهني ، نؤمن عندها كمعماريين أن العمارة في جذورها أحد رواسم حضارة المجتمع بل هي التعبير المادي لثقافة الشعوب والمجتمعات ، المرآة الصادقة لوضعية وحال الانسان والمجتمع والدولة . وإن ما نفخر به في مصر اليوم من معالم وآثار وتراث خلفها لنا التاريخ وحفظها الزمان من اهرامات ومعابد وكنائس ومساجد وقصور وبيوت وعمران قرى أو مدن ، هي جميعها موروثات معمارية وعمرانية ابدعها الأجداد ، وسجلوا لنا من خلالها وسطروا بها تاريخ عصرهم سواء في فترات النهوض أو حتى في فترات الأنتكاسات التي تعرضت لها مصر مجتمعاً ودولة على مدى تاريخها الممتد لآلاف السنين وإلى اليوم والغد ..
تلك افتتاحية لزم التنويه لها ، لنحدد اين نحن من القضية واين نقف لنقرأ قبل أن نسجل ..
هذه رؤيتنا وموقفنا وعليه ترتسم قراءتنا ونظرتنا ..
زمانيات مصرية مشروع شــامل قومي ووطني ..
إن موضوعنا وقضيتنا بعنوان زمــــانيات مصريـــة .. وبالضرورة وحتمية المصداقية أن يكون العنوان مدلول للموضوع ، وهو المرتبط بحركة التراث المعماري في القرن العشرين تاريخنا وموروثاتنا الأكثر حداثة ضمن منظومة تاريخ طويل متواصل الحلقات ، ومن المؤكد إنه لا يمكن فهم هذا التاريخ في اطار جزئي أو مجزأ لأنه يُفقد الموروث شموليته بل ومضمونه .. فالصورة لا تكون واضحة إلا عندما نراها كاملة ، والبحث في تاريخ الحركة المعمارية المصرية لا ينفصل عن تاريخ الأمة .
وهنا كانت زمانيات مصرية موضوعنا وقضيتنا .. ومنها مئة سنة عمارة أو تاريخ الحركة المعمارية المصرية بمراحلها وتتابعها ..
قضية أرتبطت بزمان أو زمانية معينة مع ميلاد جديد للحركة الوطنية المعاصرة أو الحديثة
مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين
قضية أرتبطت بثقافة مجتمع ووطن لهما جذورهما الحضاريـة في المكان
مع الأرتباط الأول .. كانت زمانيات
مع الأرتباط الثاني .. كانت مصرية
فهي زمــانيات مصريـة
ومنها مئة سنة عمــارة … جزء من كل لاينفصل عنــه
دخلت مصر في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر دورة جديدة للحركة الوطنية ـ بجذورها الأقدم ـ في مواجهة مع الغرب المستعمر الغازي الجديد في المرحلة الحديثة من تاريخنا ، بدأت بالانتفاضة على التبعية التي عاشتها مصر كولاية هامشية نسبياً في دولة الخلافة المركزية ، رغم طاقاتها الذاتية والتي تفجرت على فترات . لقد بدأت الحركة الوطنية المجتمعية دورتها تلك كنتيجة لبداية انهيار الخلافة المركزية من جهة ، وميلاد قطب جديد للهيمنة في الغرب يتطلع للسيطرة على الشرق من جهة اخرى .. عاشت مصر هذا التحول التاريخي داخلياً وخارجياً ، وكانت حركة محمد علي السلطوية ومن خلفه من الأسرة العلوية على مدى القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين ، هي محاولات وأحلام أو أوهام تزعم التواصل ما بين مصر التاريخ والمكان ، وبين أوروبا الحضارة والتنوير الحداثة ، احلام حملت في ظاهرها التحديث وفي طياتها تبعية جديدة منذ مطلع القرن التاسع عشر على حساب الحراك الوطني المتوالد عند المصريين في مواجهة مستعمر طامع وحاكم متطلع للسلطة المطلقة .. محاولات نجحت أحيانا وأنتكست أخري ، وكانت النهاية المتوقعة أو المنتظرة إعلان سقوط الخلافة وإعادة رسم خريطة الشرق من خلال رؤية استعمارية غربية لأقطاب القوى العالمية حينئذ انجلترا وفرنسا بعد الحرب العالمية الأولى .
تراجعت مرحلياً النزعة الوطنية خلال القرن التاسع عشر حتى كان انبعاثها مع انتفاضة وطنية جديدة بدأها أحمد عرابي ورفاقه من الوطنيين المصريين في سبعينات القرن ، واجهتها محاولة المستعمر الخارجي الاجنبي والنخبة الحاكمة لمصر في الداخل ، بهدف القضاء على أرهاصات تلك الصحوة النهضوية ومحاولة تغييب دور القدوة الوطنية والطليعة من المثقفين المصريين خاصة بعد انكسار الحركة العرابية ، وللأسف ضعفت في نفوس بعض المصريين الروح الوطنية لحين ـ أو كادت ـ ، ولكن أحتفظ الوطن والانسان المصري ببعض الآمال ، بدت للظهور في نهاية القرن التاسع عشر من خلال ركام الأخفاقات وراحت تطفو فوق السطح من خلال مجموعة من التنويريين أمثال الكواكبي ومحمد عبده وعبد الله النديم …… وآخرون ، وهو الأمر الذي ساهم بشكل مباشر وجديد في احياء الآمال في نفوس فئات من الشعب المقهور المغلوب على أمره ، فنشأت هنا نزعات الحركات الوطنية في كافة المجالات سياسياً واقتصادياً وفكرياً وعلى كافة المستويات والأصعدة ، ومنها الفنون والعمارة كروافد ثقافية للمجتمع ….
تصاعدت الحركة الوطنية المصرية في مطلع القرن العشرين بذكرياتها وماضيها القريب ، لم يكن يتوقع أن تصير إلى العدم لهزيمة آنية للحركة العرابية ، فالأسباب التي أنبعثتها في الماضي القريب من سيطرة الأجانب على الوطن واستغلالهم له ، كان لابد أن تُبعث من جديد بمجرد التغلب على ما كان من آثار انكسار سنة 1882 ، الذي مكن للسلطات الاجنبية السيطرة الكاملة والمعلنة ، وتصبح هي صاحبة الأمر والنهي في علاقات الحاكم والمحكوم ، وغلف الخنوع حيناً حياة المجتمع المصري ، وساد أحتكار الأجانب لمقاليد الحياة السياسية .. والمقدرات الاقتصادية ، وومحاولة حرمان المجتمع المصري من زعامات وطنية تقاوم أحتكار هذا المستعمر في كافة النواحي ، بل الأدهى من ذلك تسارع توافد الأجانب على مصر من أجل الاستثمارات وسط تركيبة مغرية للكسب ، وعليه تم إحكام السيطرة على موارد الدولة الاقتصادية ، وفرض نوع من التبعية الحضارية والثقافية ، وبالتالي المجتمعية .. كانت محاولة حرمان البلاد من اية امكانية للنهوض وانعاش أي من طبقات المجتمع في ذلك الوقت بشكل أو بآخر ، وهي من الأمور التي أدت إلى أرتفاع معدلات البطالة وأنتشار الفقر وأنخفاض مستوى المعيشة وتردي الأوضاع الاجتماعية بشكل أساسي ، فتنامت بالبلاد البنوك الأجنبية والشركات العقارية الاجنبية وكذلك شركات المال والزراعة والمقاولات والنقل والصناعة والتجارة والفنادق ..
وأمست .. الدولة المصرية والمجتمع خارج إطار الزمن ..
الرفـــــــــــــــــاهية والتقدم في أيدي الأجانب ..
التخلف والفقر والجهل من نصيب المصريين ..
أمست .. كل الكيانات الاقتصادية والادارية أجنبية وأزداد التغلغل في الامور الحياتية وأمسى المصريون فقراء أجراء يعيشون على الهامش من الحياة والتاريخ والجغرافيا ، حالة تعثر غير عادية وعبودية ورق وسنت القوانين لصالح الاجنبي وتحول الاستعمار إلى استبداد سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي واداري ، وحتى مهني وتقني ..
كان انهيار اخلاقي واجتماعي مصاحب أو نتيجة لانكسار الروح الوطنية
ولو مؤقتــــــــــــــاً
حتى مطلع القرن العشرين
هكذا لم تعد الحياة في مصر عندئذ تحكمها سوى صيغة واحدة .. ألا وهي “الاحتـكار الاجنبي” وسيطرته الكاملة في كل الاحوال على مقدرات مصر والمصريين ، وفي المقابل كانت حتمية ظهور ردود أفعال لما يجري على أرض الوطن ، وظهور زعامات وطنية جديدة في كافة مناحي الحياة وتنويعات مجالات نشاطاتها تستهدف اعادة للانسان كرامته ، وتطالب بالقضية الوطنية وحق المصري في وطنه وعلى أرضه ، واستقلال الامة وارادتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وقبل ذلك ثقافيا وفكرياً … لتعيد المنظومة الحضارية الوطنية المصرية في تكاملها وشموليتها ..
وكان من القدريات أن تصدى لزعامة الأمة سياسياً الشاب مصطفي كامل ، ولو كانت الصحوة لا محالة متبلورة وناهضة من كبوتها عاجلاُ أو آجالاً ، ولكن كان الفضل في سرعة تبلورها في مطلع القرن العشرين راجعاً لاريب إلى مصطفى كامل وصحبه …. وما لبثت أن تعاظمت الحركة الوطنية وأنضمت إليها الطبقة المتعلمة والمثقفة الوطنية ، وقد بذلت السلطات كثير من الجهد في ايجاد حركات مناهضة ومناقضة للحركة الوطنية وسموهم “المعتدلون” (الذين كانوا لا يريدون التغيير وترسيخ رؤية مناهضة للهوية الوطنية والانتماء الوطني لحساب شعارات طائفية أو ايدولوجية ) ، وتصاعد الحراك الوطني في العقد الثاني من القرن العشرين وتحديداً بعد اعلان الحماية الانجليزية على مصر سنة 1914 ، وهو ما أعترفت به تركيا لاحقاً في مؤتمر لوزان سنة 1923 ، وسقطت الخلافة وأمست مصر دولة مستقلة أسمياً وتحولت من ولاية في دولة الخلافة العثمانية إلى دولة تحت الاحتلال والتبعية الكاملة والمعلنة لانجلترا والغرب الأوروبي عموماً ، واثناء ذلك كانت مصر الدولة والمجتمع تفور بأحداث متلاحقة بعضها يمهد للمرحلة الجديدة من المواجهة ، وبعضها الآخر كان السبب المباشر في هذه التحولات ، ومنها على سبيل الأستدلال والأسترشاد وليس الحصر :
حادثة دنشواي في 13 يونيو سنة 1906 واتخذت منها الوطنية المصرية نسقاً للتعبير عن الظلم الذي تمارسه السلطة المحتلة ضد الشعب المصري المغلوب على أمره .. وبعدها إقالة اللورد سنة 1907 وهو المعتمد البريطاني الحاكم الفعلي المستبد للبلاد …. وتصاعدت الحركة الوطنية السياسية مع مصطفى كامل واصدار جريدة اللواء لسان حال الوطنيين وتأسيس الحزب الوطني ملتقى الوطنيين ومحاولته نبذ الشقاق والاختلاف وتوحيد كلمة الأمة ..
نشوب الحرب العالمية الاولى (1914 ـ 1918) ، ومعها اعلان الحماية الانجليزية على مصر وتدفق الجيوش الانجليزية وحلفاؤها إلى مصر ، وكذلك التدخل السافر والمتكرر مرة اخري للمحتل في شئون حكم مصر بخلع عباس حلمي الثاني وتولية حسين كامل سنة 1914 حكم مصر .
الأزمة المالية العالمية وهبوط اسعار القطن في البورصات العالمية ، واحتكار الحكومة الانجليزية لمحصول القطن المصري .. وقبل ذلك في سنة 1908 اعلان مد أمتياز قناة السويس لمدة أربعين سنة أخرى تنتهي سنة 1968 ، وغيرها من الممارسات الاحتكارية الاقتصادية والتحكم في ادارة موارد ومؤسسات الدولة .
انتشار وتنامي تأسيس البنوك والمصارف الاجنبية فكانت السيطرة والتحكم على الاوضاع النقدية في السوق المصرية واحكام سلطتها عليها لمصالح الدائنين الاوربيين .
انفردت الشركات العقارية الاجنبية على احتكار التنمية العمرانية في مصر عامة وفي القاهرة وامتدادتها المستحدثة بشكل خاص ، ومنها تنمية مصر الجديدة في شمال العاصمة والمعادي في الجنوب وجاردن سيتي وكذلك الزمالك في الغرب .. وحتى الزيتون وحدائق القبة …. ولم تنجو وسط المدينة من تلك الاحتكارات الاجنبية ..
توافد المهنيون والمتخصصون الاجانب الاوربيون والهيمنة على كافة المجالات المهنية وحتى الحرفية والخدمية ، وفي مقدمتها الممارسات المعمارية التي غاب عنها المصريون تماماً حتى نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين .. وتحول غالبية المصريين من الطبقات المتوسطة المتعلمة إلى افنديات موظفين في الدولة ومؤسساتها محدودي المسئولية والدور التنموي والتنويري والثقافي والفكري والابداعي …
تأسست المحاكم المختلطة في مصر وسُنت لها القوانين الجائرة الوضعية والخاصة لحماية الاجنبي على حساب المصريين ، وتوالت التشريعات المقيــدة للحقوق والحريات والفكر والحراك الوطني وكان منها قانون المطبوعات لتكميم الأفواه وتقييد الحراك المتنامي .
كانت تلك الظروف والاحداث والمواقف في العقدين الأولين من القرن العشرين ….. وغيرها الكثير والمتنوع لامجال لحصره هنا ، هي في مجموعها المؤثرة في كيانات المجتمع المصري وحياة الانسان ، حملت بداخلها عوامل حتمية التغيير وفجرت شعلة الحراك لتصحيح تلك الاوضاع التي عانى منها غالبية المصريين بكل طوائفهم وطبقاتهم لاسيما الطبقات المتوسطة والفقيرة والأكثر فقراً، وبدا في الأفق حراك مجتمعي وثوري شعبي قادم لا محالة .. وهو ما حدث في الانتفاضة الشعبية التي بدأت في 9 مارس سنة 1919 التي زكتها الروح الوطنية في كيانات ونفوس الشعب المصري وساندتها القوى الشعبية ، وسرعان ما طارت الشرارة إلى أنحاء الوطن ..
كانت أسبوعاً من البعث الوطني عاشته مصر من أقصاها إلى أقصاها ..
أسبوعاً من الصحوة التي فجرت طاقات الأمة النهضوية والفكرية والابداعية الوطنية ..
ولقد لعب الرواد من المفكريين والمثقفين واهل الرأي والمبدعين من الفنانين دوراً محورياً في تلك الصحوة مع السياسيين ورجال الاقتصاد والعلم ، جمعتهم النزعة الوطنية لشباب المرحلة في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين ..
كـانت انتفاضة شعبية شاملة جامعة وطنية
بكل معاني الكلمة دونما تعصب أو تشرذم أو صراع اجتماعي
رائدها الوحدة الوطنية وهدفها الصحوة الشاملة
واستعادت المصريين لحقهم في وطنهم كل في مجاله ومن منطلق موضعه
واستمرت الطاقة النهضوية ..
تسارعت أحياناً وتباطئت أحياناً أخري مع تصادمها مع أصحاب المصالح المضادة لها من المحتل الاجنبي الخارجي والنخب المتحالفة معه في الداخل ، ولاسيما هذه المواجهة مع النكسة السياسية مع مطلع الثلاثينات من القرن العشرين ، تلك النكسة التي أصابت هذه المرحلة والحراك الناهض ، عطلت طاقات الإبداع والأنطلاق ولكنها لم تنجح في كبح جماحه مع أستبداد الحكم المطلق بعد سنة 1930 ، حين أمست الحرية مغلولة والرأي مُقيد والفكر مُحاصر والابداع مُحارب .. عندها عاد جيل المفكرين والمبدعين ليلتقط الأسلحة التي ألقاها ليرد بها العدوان عن حرياته الأساسية وحقوقه وعن القيم التي ظفر بها في حراكه الوطني خلال عقد العشرينات التي تلت سنة 1919 ، ومن موجة تلك الانتكاسة وليس حصراً لها ، نرصد بعض من الممارسات المناهضة للصحوة الوطنية ..
إلغاء الدستور وتعطيل الحياة النيابية الوليدة .
محاربة التجربة الوطنية التنموية لطلعت حرب وبنك مصر .
اتهام العقاد بالعيب في ذات الملك ومحاربته .
اقصاء طه حسين عن عماده كلية الآداب .
استقالة أحمد لطفي السيد من منصب مدير الجامعة .
استقالة السنهورى من كلية الحقوق .
فصل حافظ إبراهيم من دار الكتب .
تصاعد الأزمة وقضية محمود مختار مع الحكومة لمنعه إقامة تمثالي سعد زغلول رمز الأمة في كل من القاهرة والإسكندرية
………………………………
كانت تلك وغيرها من عشرات بل مئات المواقف والمواجهات على كافة المستويات واختلاف الاتجاهات نكسة لتيار النهضة الذي مضى مدفوعاً بقوى الشعب وتطلعاته الوطنية في العشرينات من القرن ، وأستمر لعقد كامل في حراك وتنامي متصاعد في مواجهة المحتل الأجنبي والنخب المجتمعية المتحالفة معه ، واستمر الحراك الوطني وتصاعد دور رواده في ترسيخ الروح الوطنية والهوية وأتسعت دوائر تأثير المفكرين والمبدعين والمثقفين المصرييين في كافة المجالات ، حتى تمكن المصريون في منتصف القرن العشرين مع ثورة يولية 1952 من بداية تحقيق التغيير والانجاز الوطني المستحق بعد سبعة عقود من تنامي الحراك الوطني منذ الحركة العرابية سنة 1882 وبعدها الانتفاضة الشعبية سنة 1919 مروراً بالانتكاسات الموازية والمتكررة المعطلة لتلك الرحلة الوطنية ..
وإذا كانت طاقات الابداع في الأمة قد تفجرت من جديد مع الصحوة والحراك الوطني في السنوات بين انتفاضة الشعب سنة 1919 ونكسة النخبة سنة 1930 ، فإن ما ظهر في هذه الفترة النهضوية الوليدة من معالم ابداعية جماعيـة كان مسبوقاً بمقدمات فردية لا تجعلها جديدة من عدم ، ولكنه تنامي لحراك بدأ ولم يستكمل مساره حينها ، ومن هذه الارهاصات الابداعية نرصد بعض المعالم في إطرها العامة وروادها على سبيل الاسترشاد وليس الحصر ..
ولكن نجتهد ونتطلع إلى رسم الصورة الجامعة والمتوحدة بين مكوناتها ومع زمانها ومجتمعها ..
رواد الزعامـــــات السياسية .. بدأت بأحمد عرابي ورفاقه ومن بعدهم مصطفى كامل ومحمد فريد …
رواد تنمية الاقتصاد الوطني .. كانت البداية الحقيقية مع طلعت حرب رائد الاقتصاد الوطني في العقد الثاني من القرن العشرين ، فكانت نهضة لها بوادر وبشائر سبقته رغم محدوديتها ، ويحسب لرائد الاقتصاد الوطني هذا الأنطلاق الغير مسبوق بتعددية مجالاته وإنتشاره وبعمق الهوية الوطنية النازعة للاستقلال الاقتصادي على التوازي مع الاستقلال السياسي ..
رواد العــــــــــــلم والتعليم .. تعددت الفروع المعرفية من علوم ورياضيات وطب وعلوم انسانية وطبيعية وفلسفة وتاريخ وقانون وتشريع مع تأسيس الجامعة المصرية في مطلع القرن العشرين ، وتعميق دورها المعرفي والفكري والمجتمعي ، فكان هنا جيل من الرواد في كافة فروع العلم والمعرفة منهم : مصطفى مشرفة ومصطفي عبد الرازق واحمد لطفي السيد وعبد الرزاق السنهوري وعلي ابراهيم …
رواد الفكر والتنويــــــــــــر .. حمل لواء التغيير والتنوير رائد التجديد الفكري محمد عبده قبل نهاية القرن التاسع عشر وتبعه من رواد الفكر أحمد لطفي الزيات وقاسم أمين وأسماعيل مظهر ومعهم نبوية موسى وهدي شعراوي ودرية شفيق وسهير القلماوي وعائشة عبد الرحمن …
رواد الصحــــــافة والنشــر ..عرفت مصر حشداً من رواد الصحافة المصريين من منتصف القرن التاسع عشر ، وتصاعد دور الصحافة مع الحركة الوطنية في نهاية القرن والعقود الأولى من القرن العشرين في مقدمتهم عبد القادر حمزة وقد أصدر أكثر من 16 صحيفة وجريدة وعاصره محمود عزمي وفاطمة يوسف (روزاليوسف) ومحمد التابعي ومن بعدهم جلال الدين الحمامصي وأمينة السعيد ولطيفة الزيات ومصطفى وعلي أمين وأحمد بهاء الدين ومحمود السعدني …
رواد الثقافـــــــــة والفنون .. رفع راية التجديد والابداع مع العقود الأولى من القرن العشرين جيل من الشباب الرواد الوطنيين في شتى فروع ومجالات الثقافة والفن والابداع ..
رواد الشــــــــــــــــــعر .. من أمثال أحمد شوقي وحافظ ابراهيم ومحمود حسن اسماعيل وابراهيم ناجي وملك عبد العزيز وخليل مطران وعلي محمود طه وبديع خيري وبيرم التونسي ، وكانوا قد حلقوا في آفاق عصرين : عصر ما قبل ثورة 1919 والعصر اللاحق له ، وكان هذا الجيل مسبوقاً بأستاذية محمود سامي البارودى وعبد الله النديم .. وكانت الاستمرارية مع نجيب سرورصلاح عبد الصبور وصالح جودت وفؤاد حداد وصلاح جاهين …
رواد الفنون التشكيلية .. تجمع رواد الجيل الأول من الفنانين وكونوا لجنة فيما بينهم لتنظيم أول معرض فني لعامة المصريين وأقاموه بحي الفجالة سنة 1919 ، ومن هؤلاء محمود مختار ، ومحمد حسن ، ويوسف كامل ، وراغب عياد ، وعثمان دسوقى ، ولبيب تادرس … ، وفى سنة 1921 بدأ تصاعد شعور هؤلاء الرواد للحاجة إلى حركة تشكل تيار مجتمعي فأسسوا الجمعية المصرية للفنون ، وأعقب هذه الحركة تأسيس جماعة محبي الفنون الجميلة سنة 1923 ، غير أن هؤلاء المبدعين أسسواحركة أخرى حول فكرة الفن القومي فتكونت ” جماعة الخيال ” ، وربط بين هؤلاء الرواد إحياء الفن المصري بجميع أشكاله ، وكان حراكاً طموحاً لمشروع نهضوى للإبداعات الفنية ودورها في تغيير المجتمع وتطوره ، وعاصر هذا الحراك الفني وشارك في تفعيله محمد ناجي ومحمود سعيد ورمسيس يونان وأحمد صبري …..
رواد الادب والتــــــأليف.. ظهر جيل من الأدباء الرواد الشباب الوطنيين وكان مسبوقاً بأجيال أخرى في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في مصر ، وفي مقدمة هؤلاء ابراهيم عبد القادر المازني ومحمد حسين هيكل وعبد الرحمن شكري وأحمد أمين وأحمد لطفي الزيات ، ومعهم وبعدهم أمينة السعيد وثروت أباظة وتوفيق الحكيم وطه حسين وعباس ومحمود العقاد ، ونجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف أدريس …
رواد الموســــــــــــيقى .. عرفت الحركة الابداعية الموسيقية المصرية تنويعات بين تحديث الموسيقى الشرقية وتمصير الموسيقى الكلاسيكية ، فكان رواد التأليف الموسيقى الشرقية أمثال عبده الحامولي رائد التجديد ومحمد حسن الشجاعي وسلامة حجازي وسيد درويش والقصبجي وزكريا أحمد … ، ومن جهة أخري كان من رواد تمصير الموسيقى الكلاسكية عزيز الشوان وجمال عبد الرحيم ويوسف جريس وابو بكر خيرت وبهيجة صدقي رشيد ..
رواد الطرب والغنــــــاء .. أرتبط الغناء والطرب بالابداعات الموسيقية وتطورها ، فكان عبد الحامولي رائد التجديد الموسيقي والطرب والغناء ، وكانت سكنة بك وألمظ وبعدهم منيرة المهدية وصالح عبد الحي ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ومحمد عبد المطلب …
رواد المســــــــــــــــرح .. عرفت مصر والمصريون المسرح العنائي وكان من رواده سلامة حجازي وسيد درويش ، وواكبه عل التوازي ظهر المسرح الدرامي بدأ بحركة تمصير ، تبعتها حركة تعتمد على التأليف المسرحي ، وكان من رواد المسرح حينها يعقوب صنوع وعزيز عيد وجورج أبيض وعزيز أباظة ويوسف وهبي ودولت أبيض وأمينة رزق وفاطمة يوسف ، ومعهم نجيب الريحاني وبديع خيري وعلي الكسار ….
رواد الســـــــــــــــــــينما .. ظهر فن السينما في الاسكندرية نهاية القرن التاسع عشر وتحديداً سنة 1897 ، وكان للرواد المصريين دورهم في تطور هذا الفن في عشرينات القرن العشرين ومنهم محمد بيومي ومحمد كريم وأحمد بدرخان وأحمد جلال وماري كوين وآسيا والأخوين عبد القادر وكامل التلمساني وتوفيق صالح ……..
رواد العمـــــــــــــــــــارة .. مع العقود الثلاث الأولى من القرن العشرين خرج جيل الرواد من المعماريين المصريين بعد أن حصلوا على تعليمهم المعماري في مصر أو خارج مصر ، ليحملوا حق المصريين في عمارة مصرهم مع أختلاف الخلفيات التعليمية والثقافية لهؤلاء الرواد دونما تصارع ، ولكن كان يجمعهم الحق في كسر أحتكار الاجنبي للممارسة المهنية المعمارية في ربوع الوطن ..
العمارة والمعماريون المصريون ضمن زمانيات مصرية ..
هذه هي الصورة الوطنية كما نراها لتراثنا المعاصر والحديث في القرن العشرين التي نتطلع إلى تأسيسها بتكاملها وشموليتها ، ونسعى وندعو لرصدها وتوثيقها لتقديمها للأجيال القادمة بدقة وموضوعية دون تزييف أو تجميل أو تحقير .. دون شوفانية أو نرجسية ، هي بحق وحقيقة حالة وطنية سجلها التاريخ وعاشتها الأمة .. في تلك العقود من النصف الأول من القرن العشرين في كافة المجالات الابداعية والفكرية والنهضوية . هي يحق وحقيقة قضية وطنية ومسئولية قومية تمس هويتنا ووجودنا ، حاضرنا ومستقبلنا ، محاسبون عن غيابها من ذاكرتنا والتباكي الخادع بدموع التماسيح عن ضياعها والادعاء الكاذب أو المغلوط بمعرفتها والحفاظ عليها …
قضية وطنية واشكالية قومية .. ومنها العمارة قضيتنا التفصيلية في ” زمانيــــات مصريـة “ ، قضية نتتبع فيها الحركة المعمارية للمعماريين المصريين على مدى القرن العشرين بدأها روادها في النصف الأول من القرن ، حركة هي جانب لا ينفصل عن تلك الملامح الوطنية التي رسمت في مصر طبيعة بداية أرهاصات المرحلة النهضوية في الربع الأول من القرن العشرين مع ميلاد الحركة الليبرالية المصرية عموماً وصعود النزعة الوطنية التي عاشتها الأمة ..
ونحدد هنا إنه مع ميلاد القرن الجديد نشأ الجدل الثقافي حول الموروث والمنقول في اطار الصراع بين حركة التحرر الوطني وتطلعاتها وبين حركة التحديث و حتميتها ، وفي قلب هذا الحوار ومن خلاله ظهر جيل رواد العمارة المصريين في مطلع القرن العشرين يتحركون في اتجاهين متوازيين لرسم مسار التغيير الاجتماعي والثقافي للمجتمع ومحاولة التصدي لإشكالية التأصيل والتجديد ومن خلال افرازاتهم الابداعية ..
الاتجاه الاول .. كان يتجه نحو الذات وتأصيل العمارة من مفهوم تقليدي نقلي أحيانا ومتطلع إلى تطوير الموروث للوصول إلى المعاصرة أحيانا اخرى ، بدأ ولو مرحليا على أيدي العديد من المعماريين الاجانب المستشرقين ، ولكنه انطلق في اتجاهات وحلقات متواترة في تتابع على ايدي رواد العمارة المصريين امثال مصطفى فهمي ومن قبله محمود فهمي ، و تعمق هذا الاتجاه لاحقاً على ايدي قطبي العمارة التقليدية المصرية رمسيس ويصا واصف وحسن فتحي ، و لم يقف عند هؤلاء بل اخذت تتسع حلقاته بعمق أحياناً ، وسطحية هزلية أحياناً أخرى حتى اليوم .
الاتجاه الثاني .. كان يتجه نحو تحديث الرؤى المعمارية في اطار تجديد الخطاب الحضاري المعاصر حينئذ وتفاعله مع روافد الحضارة الغربية الاوروبية وثقافاتها المتعددة ، و كانت لرحلات التنوير الثقافي وطلب العلم لجيل الرواد من المعماريين إلى اوروبا تأثيره المباشر على العمارة في مصر في الربع الاول من القرن العشرين فعاد الجميع وكل يحمل رؤيته وتطلعاته لتحديث الحركة المعمارية من خلال ما تعلمه وعاصره ومارسه هناك ، وكانت ابداعيات هؤلاء المعماريين هي حجر الزاوية و نقطة تحول للعمارة المعاصرة المصرية بالمفهوم السائد ، فعاد على لبيب جبر ومحمد شريف نعمان ومحمود رياض ومحمد رأفت ومحمود الحكيم من الذين أكملوا دراستهم في انجلترا وحملوا مشاعل التنوير والتغيير من وجهة نظرهم ، وعاصرهم الاخوين حسن ومصطفي شافعي واحمد شرمي واحمد صدقي … وآخرين من الذين أكملوا دراساتهم بمدرسة الفنون الجميلة بباريس وغيرها .
واستنفرت الحركة المعمارية والمعماريون الهمم في دفع مسيرة التطوير وتقليص الفجوة الحضارية مع الحادث ، لمواكبة تسارع حركة الحضارة بوعي ، وعاشت الحركة المعمارية حتى أواسط القرن العشرين زخم ثقافي مصدره التنوع في روافد الفكر ، دونما تصارع بل في تجاور يحمل الحد الادنى من التناغم ، واستمرت في تدافعها مع جيل المعماريين العائدين من روافد جديدة للحداثة حملها هناك امثال لوكوربويزيه و نقلها ومصرها رواد امثال سيد كريم العائد من دراسته في سويسرا ليشكل رافدا جديداً متطوراً مع آخرين بعد الحرب العالمية الثانية في نهاية الاربعينات ..
هكذا شهدت مصر على مدى أربعة عقود في الفترة ما بين الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية طرح جاد لقضية الهوية الثقافية والحضارية للعمارة في مصر ضمن الحركة الوطنية المصرية الشاملة ، وحققت الحركة المعمارية فورات وانتفاضات تقدمية أحياناً و تأصيلية وتقليدية احيانا اخرى ولكنها جميعاً كانت تبحث عن بلورة جديدة لوضع العمارة ضمن رواسم حضارة مجتمع جديد في عالمه الجديد .. وبغض النظر عن التقييم النقدي لتلك المحاولات ، وماحققته من نجاحات أو أصيبت به من فشل فهي تعبر بصدق عن متطلبات العصر والمجتمع ، بازدواجيته الثقافية والفكرية والاجتماعية
بين التقليدية والتحديث .. بين المنقول والمنظور
شكلت في مجموعها ملمحاً أساسياً في تاريخ الحركة المعمارية في القرن العشرين
متزامنة مع الحراك الوطني خلال النصف الأول من القرن
ونحدد حصر أولي للمعماريين المصريين ـ الجيل الأول للرواد ـ في النصف الأول من القرن العشرين والمتضمن لعدد خمسين معمارياً يمثلون هذه المرحلة كبداية لتأسيس أرشيف رقمي لتاريخ الحركة المعمارية خلال هذه المرحلة ، وهي قائمة قابلة للاضافة والزيادة ، وتشمل الرواد ..
علي لبيب جبر
مصطفى فهمي
حسن و مصطفى شافعي
محمود رياض
انطوان نحاس
شارل عيروط
ألبير زنانيري
ماكس أدرعي
محمد رأفت
رفعت شفيق
ميخائيل موسى
أنيس سراج الدين
ألبير خوري
ريموند انطونيوس
محمد شريف نعمان
ابو بكر خيرت
حسن فتحي
رمسيس ويصا واصف
احمد شرمي
السعيد ابراهيم الجندي
عبد السلام درويش
عبد الحميد محمد ابراهيم
محمود الحكيم
احمد صدقي
سيد كريم
فريد شافعي
توفيق عبد الجواد
نجيب استينو
كمال اسماعيل
اسماعيل مرعي
صديق شهاب الدين
ابراهيم فوزي
احمد شاكر
عوض كامل فهمي
مصطفى نيازي
محمد محي الدين
صلاح زيتون
مصطفى شوقي
علي نصار
يوسف شفيق
يحي الزيني
مصطفى رشدي
محمد زكي الطويل
عمرو عزبو
فتحي عبد السلام حسن
موريس عزيز دوس
شاكر جرجس
عبد الفتاح البنرزي
عبد المجيد صالح
علي الحريري
السعيد ابراهيم الجندي
وخلال الأولوية الحالية لمشروعنا المستمر لبناء ارشيف رقمي ، حددنا في مركز طارق والي العمارة والتراث عشرة معماريين كبداية لرصد وتسجيل المتاح والممكن من معلومات ومشروعات ، يتبعها خطوات نستكمل بها المسئولية ، وهم ..
مصطفي فهمي ..
علي لبيب جبر ..
محمد شريف نعمان ..
محمود رياض ..
حسن شافعي ومصطفى شافعي ..
شارل عيروط ..
ألبير زنانيري ..
ابو بكر خيرت ..
رمسيس ويصا واصف ..
هكذا فإن زمانيــــــــــــــات مصريـة .. ومنها مئة سنة عمارة ..
هو مشروع وطني ومعماري نرصد خلاله تراثنا المعماري المصري للمعماريين المصريين ، نسجل من خلاله تجاربهم وابداعاتهم ، دونما الخوض في تقييم المنتج المعماري ذاته أو حتى تصنيفه على انساق استشراقية أو تحليل قائم على أفكار ومواقف بعضها يضع التجربة والتاريخ في تبعية فكرية لمفهوم وثقافة غربية سواء بحسن نية أو بسوء نية …. لذلك نحن نرصد ونسجل ونوثق في هذه المرحلة بحيادية وتجرد وموضوعية دون تقييم أو وضع التجربة المعمارية ـ التي هي جزء من الصورة الوطنية الشاملة ـ في قوالب أو تحجيم دورها وتجزئة الصورة الكاملة للصحوة الوطنية ..
نحافظ على التراث في صورته الجامعة
نفهم هذا التراث في تكامله وتفاعله مع تنويعات الصورة على أختلاف مسارتها ومحافلها الفكرية
والابداعية الثقافية والمهنية والفنية .. السياسية والاقتصادية والاجتماعية
إنها
تجربة مجتمع في زمان معين
هي زمانيات مصرية
ومنها العمارة
نؤمن إنه لا يمكن فهم دور الرواد الوطنيين المصريين في بدايات القرن العشرين في كافة المجالات إلا
من خلال القراءة الصحيحة والجامعة لحال المجتمع وظروف عصر هؤلاء الرواد
نقوم بتصحيح مفاهيم خاطئة أو مغرضة بدعوى ” الزمن الجميل ” أو ” تحديث مصر ” …. وغيرها من
مقولات ظاهرهـــا براق وبــاطنها خداع
إن رواد الوطنية في القرن العشرين
كل في مجاله كان سبباً في خروج المجتمع والانسان المصري من حال إلى حال
لا نقصد هنا تقييم .. فهناك نجاحات وانجازات واخفاقات
المحصلة كانت لصالح التغيير
كانت محاولة تحديث حقيقية بدوافع مخلصة للوطن والمواطن
طارق والي
يونيــو 2015
سبق نشر هذا المقال على الجريدة الاليكترونية لمركز طارق والي العمارة والتراث https://walycenterjournal.wordpress.com/
Published on September 29, 2015 00:53
August 23, 2015
عرض وتقديم كتاب " المدينـــة والدولــــة "
للمؤلف .. طـــــــــــارق والي
تاريخ النشر .. يوليو 1996
يعرض الكتاب في فصول ثلاث تلك الومضة الفكرية في تاريخنا الوسيط والذي حمل ريادتها ابن خلدون مرسياً قواعد علمه الجديد ونظريته المعرفية المستحدثة حول العمران وإشكالية تطوره .. والكاتب هنا يوازن بين النظرية العمرانية كما فجرها الرواد في القرن الرابع عشر الميلادي ، وبين إشكالية المعاصرة والحداثة للعمران كما يعيشها الآن .. ويذهب إبتداءاً إلى أن النظريات التقليدية في قضايا العمران والتاريخ خاصة تصب جل أهتمامها حول محور الدولة والسلطة السياسية وفعاليات وأحداث الحقبة السياسية ولا سيما العسكرية منها وتحولاتها المؤسسية ، ولكن نادراً ما تتطرق المناهج التقليدية إلى النواحي الفكرية والجوانب المجتمعية ، وبالتالي تجمدت تلك الرؤى عند جانب منفرد من الإشكالية العمرانية ، ولم تكن لها نظرة شبه شاملة ترصد سائر العوامل المحركة والصانعة للعمران ومجتمعه وأحداثه .. حتى ظهر ذلك العبقري " عبد الرحمن بن خلدون "..
" ان نظريات ابن خلدون وأفكاره وآراءه كانت بلا شك سابقة لعصره وأوانه "
علم العمران الخلدوني ..
إن الفكر هو أداة الإنسان للأهتداء لتحصيل معاشه والتعاون عليه مع أبناء جنسه ، ومع الأجتماع المهئ لذلك التعاون وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والفنون والصنائع . ويحدد ابن خلدون ذلك : " .. ثم لأجل هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع ، وما جبل عليه الإسان من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفه أو إدراك ، أو أخذ ممن تقدمه يبلغونه لمن تلقاه ، فيلقن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه .. " .
إذن فالعلم بمعناه هو إدراك ما ليس بحاصل ، وفي شموليته هو إدراك أولاً ، ثم معرفة ثانياً ، ثم تحصيل وأمتلاك لزمام الأمور وإستخدامه طواعية ويسر ثالثاً .. وعلى أساس هذا التصور للعلم بنى ابن خلدون علمه الجديد " علم العمران " ، ومهمته البحث في العوارض الذاتية التي تلحق بالإجتماع البشري ، ونتعرف على مفهوم العمران في الرؤية الخلدونية إنطلاقا من النص الخلدوني نفسه ، وذلك لأنه مفهوم قاعدي في هذا الفكر يمكن أن نعبر عنه بـ " حياة مجتمعية " كاملة ، أي كل ما يوجد في الوجود المادي والفكري والروحي لنفس البيئة البشرية .. فيذهب ابن خلدون في ذلك إلى أن الإجتماع الإنساني ضروري وهو الذي يعبر عنه بـ " الإنسان مدني بالطبع " .. أي لابد من الإجتماع الذي هو المدنية ، وهو معنى العمران ، وهو مرتبط عنده بمفهوم الحضارة ، فهي نتيجة حتمية للعمران تتفاوت بتفاوته ، ويعتبرها ابن خلدون غاية العمران ونهاية عصره ، بل وإنها مؤذنة بفساده بإعتبارها تعني التفنن في الترف وإستجادة أحواله ..
وهكذا ، فإن ابن خلدون كا ن يهدف إلى معرفة المجتمع ، وأستبدل الإشكالية الأخلاقية الميتافيزيقية بإشكالية المعرفة ، أي إنه وجد توازن محسوب بين المنهج العلمي التجريبي وبين الحتمية القدرية الإيمانية ، فلم يضع علماً ليعطي للمجتمع أتجاهاً جديداً ، بل وضع علماً ليدرس كيف تتطور المجتمعات ذاتياً .. فعلمه يبحث عن الواقع المجتمعي وليس متطلعا لمثل عليا ، ينطلق من دراسة الظواهر في حد ذاتها لا لبيان ما ينبغي أن تكون عليه . ويقسم ابن خلدون العمران إلى نمطين : العمران البدوي والعمران الحضري دونما تعارض ، بل على العكس ، إنهما شكلان متكاملان للحياة .. ويشمل ميدان العمران البشري كل حركة تنتج داخل المجتمع وكل ما له علاقة بالسكن والسلطة والمعاش وتناقص السكان وتزايدهم وانقسامهم ، كما يشمل نشاط العلوم والصنائع والحرف ، ولكل من نمطي العمران حاجيات معينة تستلزمها طبيعة المرحلة التي يعيشها المجتمع .. وليس هناك حد فاصل بين النمطين بل بينهما علاقة جدلية وإن صراعهما يكون اساسا حركة العمران .
طبيعة العمــران ..
يذكر ابن خلدون في مطلع نظريته " أن الإنسان مدني بالطبع " ، ويفسر ذلك بأن الإجتماع الإنساني ضرورة لبقاء الإنسان وأستمراره ، وتلك هي المنظومة الأولية التي قام عليها " علم العمران " .. وما دام هذا العمران قد تحقق بنشأة المجتمع ، فإن أستمرار هذا المجتمع يتطلب وجود وازع – حسب رؤية ابن خلدون – فالإنسان مجبول على طبائع حيوانية وظلم ، وسيعمد بعضهم إلى منازعة بعض حتى يتفكك المجتمع ، فتكون الفوضى ، ومن هنا كانت ضرورة الدولة التي هي الوازع .. " وهي العنصر المالك الضابط والقامع والمنظم .. " ، وهذا المالك يحتاج إلى عصبية من الأعوان تكون آليته لتثبيت قوة الدولة والملك ، وبذلك فإن أشكالية المجتمع وعمرانه في النظرية الخلدونية تقوم على أساسين هما :
أولاً : ضرورة الدولة أو حتمية الملك ، وآليته العصبية .
ثانياً : الحفاظ على النوع كمهمة إجتماعية وضمان عدم تسرب عوامل الأنهيار والتضعضع إلى هذا الإجتماع الإنساني الذي هو العمران ، وغايته الحضارة والتحضر التي هي المدينة .
إن أهمية النظرية الخلدونية للعمران بالنسبة للفكر المعاصر في كونها شهادة على العوامل الفاعلة في التجربة الحضارية في عمران المجتمعات والقوانين المحركة لها ، هذه العوامل والقوانين التي يقوم عليها ، أو يجب أن يقوم عليها كل فهم أو تفسير أو تنظير للعمران ، وهي ثلاثة عوامل أساسية يعتبرها ابن خلدون مجتمعة ذات أثر حاسم في التجربة الحضارية والعمرانية ..
o العامل أو المحور الإيديولوجي : ويعنى به التشريع ـ سواء كان بنبوة أو بدعوة سياسية اصلاحية ـ ، فالسياسة عنده تكون مستوى بنيوياً للعمران لا تختلف عن المستويات البنيوية الأخرى أو تتمايزعنها فهي واقع إجتماعي وضرورة من ضرورات المجتمع ، ومشروطة بعوامل أخرى على رأسها العصبية ؛ ذلك الأطار التنظيمي أو آلية التنظيم الطبيعي لكل حركة سياسية أو إجتماعية للعمران ..
o العامل أو المحور الإجتماعي : ويرتكز أساساً – ويكاد يكون منفرداً – على العصبية التي لعبت دوراً أساسياً في عمران المجتمعات ، ويبقى التناقض بين العصبية والملك هو المحرك الأساسي لصيرورة العمران والحضارة بمعنى إها محرك الديالكتيك المغلق بين البادية والحاضرة والتطور بين نمطي العمران ، ولكنها ليست الوحيدة فهناك الركيزة الثانية وهي " المدينة " ، فحينما تتطور المدينة وتزداد ازدهاراً تنشأ بنية إجتماعية تتميز جذرياً عن بنى العمران البدائية ، وتتوالد فئات مجتمعية جديدة مما يستدعي حياة الطمأنينة وأستمرارها عند أجيال متعاقبة .
o العامل أو المحور الأقتصادي ( شئون المعاش ) : أبرز ابن خلدون أهمية هذا العامل في العمران بمستوياته ونمطيه ، وتشكل تلك نظرية كاملة لو أنها صيغت بشكل بشكل أكثر تجريداً وعمومية .. يرى ابن خلدون في هذا المجال أن السبب في أرتفاع مستوى رفاهية المجتمع وتطوره هو زيادة كمية العمل ثم تلبية لحاجيات الترف والدعة من الفائض في الإنتاج .. وتختلف طرق الإنتاج بأختلاف طبيعة العمران . ويعتمد هذا التطور وأساسه زيادة الإنتاج الناشئ كنتيجة للعمل الجماعي وتقسيم أو تخصيص العمل بينهم ، ومعه ينمو العرض والطلب ويرتفع مستوى العمران إلى الترف والرفاهية العامة .
إن عبقرية ابن خلدون تبرز في معالجتها لأثر هذه العوامل مجتمعة وتفاعلها وديناميتها .. ثم الربط بينها في منظومة واحدة متداخلة العناصر متشابكة الأطراف سماها " طبائع العمـــــران " .
النظرية العمرانيـــة ..
يؤكد ابن خلدون .. " الدولة والعمران بمثابة الصورة للمادة ، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها ، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن أنفكاك أحدهما عن الأخر ، فالدولة دون العمران لا تتصور ، والعمران دون الدولة والملك متعذر ، لما في طباع البشر من العدوان الداعي الى الوازع .. " . فالدولة والعمران إذن أمران متلازمان .. كتلازم الصورة والمادة في كل كائن من الكائنات الطبيعية ؛ ومن جهة أخرى يذهب ابن خلدون إلى أن .. " الإنسان مدني بالطبع أي لابد له من الإجتماع الذي هو المدنية وهو معنى العمران .. " موضحاً عملية التمدين " أن البناء وأختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة وذلك متأخر عن البداوة ومنازعها .. " . وهكذا فإن نظرية ابن خلدون حول العمران يتجاذبها محوران متوازيان لا غنى لأحدهما عن الآخر ، بل لا وجود لأحدهما في غياب الآخر وهما :
المحور الاول : الدولة وتطورها وآليتها الاجتماعية العصبية وغايتها الملك ..
المحور الثاني : التمدين والتطور من البداوة وتعبيره المدينة ..
فالمدينة والدولة صنوان متكاملان يشكلان نموذجا ثالثاً ، يخضعان لنفس القوانين خاصة ترتبط بالحركة التطورية ، وهي ما يسميها ابن خلدون بالعوارض الذاتية .. ويرى صاحب النظرية أن الدولة قوة أعلى من المجتمع وليست قوة مندمجة فيه ، يراها منفصلة عنه وأنها لا يمكن أن توجد إلا في مرحلة معينة من تطور العمران – العمران الحضري ، وكلما مر الزمن عليها أنفصلت عن المجتمع وأصبحت تمثل طبقة أعلى من سائر الطبقات ( النخبة السياسية الحاكمة ) ، فالسلطان وحاشيته بعد أن يستقر لهم الملك يتخذون الجند ليدافعوا عنهم وينفصلوا عن أفراد المجتمع . وقد خلص ابن خلدون من ذلك إلى أن الدولة علة وجود العمران كحالة مجتمعية ، وهي قرار إنساني إجتماعي لها منازع خاصة بها تحدد مسار حركتها سياسياً وإجتماعياً وأقتصادياً ، وبالتالي عمرانياً وحضارياً عموماً .. ومن هذه المنازع : التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس والأنفراد بالمجد والترف والدعة والسكون ، وإذا أستحكمت من الدولة تلك المنازع ، تكاسل أهل الدولة وألفوا المذلة والأستعباد .. وأنحصرت شوكتهم ، وحل بالدولة الوهن والهرم إلى أن يُقضى عليها .
وعلى التوازي يرى ابن خلدون أن ميلاد المدينة يكون مع زيادة الإنتاج والخروج من دوامات الحاجيات الأولية بالإضافة إلى شرط قيام المؤسسة الحاكمة ، فالملك والدولة سابق للمدينة وميلادها وقيامها ، ويؤكد أنه لابد من تمصير الأمصار وأختطاط المدن من الدولة والملك . وتبقى المدينة غاية العمران التي هي نفسها غاية الملك ، ومتى وصل العمران غايته كان ذلك إيذانا بفساده وخرابه ، ففي نهاية وجود الدول فأن شيوع الظلم والفساد يقوض دعائم المجتمع فيبدأ الانحطاط والتدهور الأقتصادي والإجتماعي في المدينة .
ويؤكد ابن خلدون هنا على حتمية العدل وتجنب الظلم الذي يؤدي بالمجتمعات ويخرب العمران .. فالشريعة أو القانون عنده هي ضمان للعدالة بين الناس إذا ما تحققت تحقق بها عز الملك ، وعز الملك لا يتحقق إلا بالعمارة ، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل ، وأن العدل عند ابن خلدون مفروض بحكم آلهي . وهكذا صمم ابن خلدون نظرية العمران للمجتمع على أنه مجتمع الحكومة والرعية ؛ الدولة والمجتمع لبناء الحضارة وتعبيرها المدينة .. والفساد عنده نوعان : فساد العمران من حيث صورته الذي يصيب المدينة والدولة ، وفساده من حيث مادته الذي يصيب الافراد وهم مادة العمران . أما الحضارة فتعني لابن خلدون حضارة الإستهلاك بغير حساب ودون إنتاج .. حضارة أولئك الذين يعجزون عن العمل لإستحكام عوائد الترف فيهم ، إنها حياة جماعية طفيلية طافية على سطح المدينة ، وتعيش وتستهلك على حساب الرعية كلها ، وكل ذلك بفضل الجاه الذي تتمتع به الدولة من سلطة بيدها .
هكذا فالظلم مؤذن بخراب العمران سواء كان الظلم نتيجة سياسة جبائية أو أستبداد وتسلط أو تعسف على السكان ، أو تجاوز الدولة للسياسة الشرعية .. ومن أبرز أنواع العدل في الرؤية الخلدونية العدل الأقتصادي أو هو العدالة الإجتماعية ، فالظلم المؤذن بالخراب يتجاوز كل ذلك ليشمل أحتكار التجارة والرزق من ذوي السلطان وأغتصاب أموال الناس عن طريق سياسة التغريم – حسب الرؤية الخلدونية ونظرياتها .
الاشكالية العمرانيـــة والحداثة ..
إن معاصرة ابن خلدون وآنية الفكر الخلدوني اليوم ، لا تأتي من تكراره بغباء وبلا تبصر ، ولكنها تعني الوصول إلى تفسير : كيف ولماذا .. تكون الاشياء كما هي في العالم الذي نحيا فيه نحن اليوم ضمن محدودية الزمان والمكان ، وبالتالي فإن ذلك يحتم ضرورة عدم إخفاء الصعوبات التي نجابهها في دراسة مجتمعاتنا المعاصرة والحديثة الآنية ، بتقديس ما قدمه السلف وعلى رأسهم ابن خلدون نفسه .. بل بالعكس تماماً فإن ذلك يعني أن تكون لدينا الجرأة ، كما فعل ابن خلدون ، على طرح أفكار جديدة تسمح بالتخلص من زمن الأنحطاط الحضاري ، مستندين في ذلك إلى حالة المعارف الآنية والإشكاليات الحادثة ، دون أن نفقد مع ذلك أو نهدم دعائم وثوابت المجتمع الحضارية ، أو نتجاهل أو نجهل موروثات هذا المجتمع وتراثه .. هي رؤية توافقية تتجه إلى الحاضر وتتطلع إلى المستقبل بنفس المنهجية العلمية والأهتمام التي أتجهت به إلى الماضي أو أكثر حتى يغدو في الإمكان جعلها معاصرة وتحويلها إلى مشروع قابل للتحقيق ، للإنماء والتطوير ، وتبقى رسالة من الماضي إلى المستقبل .. وهذا لن يتم إلا إذا تحررنا من عوائق الفكر الموروث وبالتالي كسر عوائق تطور مجتمعاتنا وتحرير عقولنا من سيطرة اللا معقول والسلاسل والقيود الفكرية والمجتمعية التي جعلت الخلدونية ماضوية وليست مستقبلية مما يهددنا نحن بذات المصير ..
فإذا كان ابن خلدون قد أكتشف أن الحركة الظاهرة للمجتمع هي حركة دورية للدياللكتيك المغلق ، فهو لم يفسر السبب لهذا الشكل الدائري للحركة العمرانية ؛ وإنه من الضروري لنفهم الدورة السياسية لهذا المجتمع أن نعيد هذه الدورة في حركتها الأساسية إلى قاعدة تحليل علاقات الإنتاج والتبادل التي تتطابق مع حالة معينة من تطور القوى داخل المجتمع : القوى الإجتماعية والقوى الأقتصادية ، هذا هو التناقض اللاعدائي بين الأرستقراطية القبلية والأرستقراطية المدينية والذي يحدد الحركة الدائرية للدولة . وبالتالي الحركة الدائرية للمدينة وعمرانها .. إن تناقض هاتين الطبقتين الاجتماعيتين لأنهما حاملتين لعلاقات إجتماعية مختلفة ، والفرق الجوهري أن الإرستقراطية القبلية تقوم على أساس العلاقات البنيوية الإجتماعية الداخلية ، وتقوم أرستقراطية المدينة على العلاقات الأقتصادية الخارجية .. هناك تماسك وترابط في الأولى يضمن لها الأستمرارية ، وهناك صراع وتفسخ يؤدي بالثانية إلى التفتت والأنهيار ..
أما الأساس المادي الذي يقيم عليه هذا المجتمع ( المديني ) حضارته هو الجاه المفيد للمال ، وتكون القوة العسكرية هي آلية تطور المجتمع عمرانيا ، أو هي قيام الدولة وعمران المدينة ، وهكذا كانت المؤسسة العسكرية الإجتماعية تاريخياً هي محور هذه الحركة المجتمعية وأداتها بل احياناً المحرك الأساسي والآلية الرئيسية لهذا التطور والمحور المشترك في تنظيم الدولة وعمران المدينة في مجتمعاتنا العربية .
وتطرح الحقبة الحديثة أمامنا أشكالات من نوع آخر من الناحية التاريخية بدأت من العصر الوسيط مع الدولة العثمانية ، وظهرت نتائجها في وسط القرن التاسع عشر مع تمثل وأستعارة مفاهيم الدولة الأوروبية في المشرق العربي .. ومن ملامح ذلك تدعيم مبدأ الدولة وضرب القيادات الوسيطة ( الطبقات المتوسطة ) بل وإلغاء وتعطيل دورها في المجتمع المديني لصالح الأجهزة المرتبطة مباشرة بالحكم والدولة .. وبأختصار فإن الامر كان يعني في غايته إحلال مبدأ الدولة على حساب المدينة ومجتمعها وأستقلاليتها ، اي تحديداً إلحاق المجتمع بالدولة ، ولدينا في تجربة محمد على باشا في مصر النموذج على ذلك تحت إدعاء تحديث المجتمع من أجل خلق الدولة القوية ، التي ليست كذلك الا بمقياس إضعاف ما تفرضه خصومها أي ممثلي المجتمع المديني ، وتبعاً لهذه الخطة حدث تدمير منهجي للمؤسسات المدينية لصالح مؤسسة الدولة وأجهزتها التي أوكلت إلى نفسها مهمة مراقبة المجتمع وتدبير شئونه بنفسها ، الحالة التي أستمرت إلى يومنا هذا .
والمفارقة هنا تكمن في أن ابناء المجتمع المديني من الأهلين ، حين ما بدأوا ينخرطون في جسد الدولة ، كانوا يقدمون مبدأها ويرفعونه فوق المجتمع الذي أنبثقوا منه . وحين أخذ أفراد من الأهالي يحلون في الإدارة ويلحقون بأعمال الحكومة أسهموا قبل سواهم في تعزيز مبدأ الدولة على حساب المجتمع المدني ، وتندرج ضمن هذا السياق أعمال رفاعة الطهطاوي ومن بعده جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وآخرين فقد عملوا قصدا أو بدون قصد على بلورة مفهوم أن الدولة ترتفع فوق المجتمع وتحكمه ..
واليوم يستيقظ دعاة السلفية أن الدولة أبتعدت عن التشريع والموروث الاسلامي ، بل وإنها كانت كذلك في الماضي القريب وليس في الحاضر الحادث اليوم فقط ، وهكذا فالتاريخ عندهم لم يعد صالحا وحده كإطار مرجعي ، وهنا تخلى السلفي عن " التاريخ " وبالتالي تحرر مما كان يدفع به الرواد من العصر الوسيط وحتى المعاصر إلى الأنفتاح والتجديد وأنتكص إلى الوراء ليصيح صيحة الخوارج الأولى " لا حاكمية إلا لله " ، لم يعد الآن يطلب النهضة ولا التجديد ولا الأصلاح ، فهو يقرأ التاريخ في الشرع ، ولكن ليس التاريخ الماضي ، جاعلاً من الجيل الأول من الصحابة وتابعيهم " النبع الصافي " وهو صورة المستقبل المنشود ، إطاراً مرجعياً وحيداً .
وفي المقابل أنصرف الليبرالي العربي في تزامن مع السلفي إلى الممارسة العملية للسياسة في الحاضر ، بينما كان السلفي يمارسها نظرياً في الماضي ، فقد أخذ الليبرالي يتخلى تدريجيا عن اطاره المرجعي الأصلي الغربي ( الأوروبي ) وأنتزع " التاريخ " من يد السلفي ولكن ليس التاريخ الإسلامي بل التاريخ العربي ( القومي ) .. لقد أصبح يعمل من أجل بناء الحاضر والمستقبل ودولة الحاضر آخذة بنفسها في علمنة مؤسساتها وأسسها ، لعلمنة الحاضر .
ومن هنا غاب المشروع الحضاري عن كل من السلفيين بمرجعهم الشرعي الإسلامي وعن التقدميين الليبراليين بمرجعهم القومي العربي ، وغبنا نحن عن الحضارة نفسها وأصبحنا مستهلكين لما تنتجه حضارات الآخرين من تقنيات وصناعات وثقافة وأيدلوجيات نضيع معها في صراعات لا تصل بنا إلى شيئ لأنها لا تبحث عن شيئ سوى أن تخرجنا من حضارة اليوم حتى لم يصبح لنا فيها دور على مستوى الأفراد أو المؤسسات الرسمية أو المدينية . لقد غاب عنا دورنا الحضاري والدعوة لإحياء هذا الدور تبدأ من فهم المشروع الحضاري لأمتنا مدناً وأمصاراً .. ودولاً .
فإذا كان المثقف " الليبرالي " يريد أن يلحق المجتمع بالدولة ، فإن ما يريده " السلفي " هو إلحاق الدين والمجتمع بالدولة التي ينشدها ، أن ما يجمع الأثنان إيمانهما المشترك بأولوية الدولة وأرتباطها بها كهدف منشود مهما أختلف شكلها أو رسمها .
إن الصراع بين المفهومين أو الأتجاهين صراع حول الوصول إلى الدولة المهيمنة في غياب المشروع الحضاري لها أو دون الأمساك بآليات تطور المجتمع في سلمه التطوري سواء كانت آليات إجتماعية أو أقتصادية ، إنه أختلاف في الرأي حول كيفية هيمنة الدولة على المجتمع المديني وتعبيره المادي المدينة والدولة في ذلك تترفع عن المدينة والمجتمع معاً .. وبالتالي فليس الهدف لأي منهما إيجاد صيغة تعادلية متوازنة ومعاصرة في معالجة الدولة وأرتباطها بالمدينة ، حتى تعود لكل منهما هويتها الحضارية ولكن الهدف هو هيمنة الأولى على الثانية سواء بأسم سيادة القانون أو حتمية الشرع .. وليس الهدف من هذا الفصل بين المؤسسات السياسية الرسمية للدولة والمؤسسات المدينية في المدينة ، لأن التجربة التاريخية قديمها وحديثها أثبتت أن النهاية المحتومة هي هيمنة " الدولة العسكرية " الغالبة على الدولة والمدينة لمصالحها في غياب المشروع الحضاري لهما .. والنتيجة هي إنهيار مؤسسات الأثنين معاً في تتابع محتوم .. وهــــو " خراب العمران ".
تاريخ النشر .. يوليو 1996
يعرض الكتاب في فصول ثلاث تلك الومضة الفكرية في تاريخنا الوسيط والذي حمل ريادتها ابن خلدون مرسياً قواعد علمه الجديد ونظريته المعرفية المستحدثة حول العمران وإشكالية تطوره .. والكاتب هنا يوازن بين النظرية العمرانية كما فجرها الرواد في القرن الرابع عشر الميلادي ، وبين إشكالية المعاصرة والحداثة للعمران كما يعيشها الآن .. ويذهب إبتداءاً إلى أن النظريات التقليدية في قضايا العمران والتاريخ خاصة تصب جل أهتمامها حول محور الدولة والسلطة السياسية وفعاليات وأحداث الحقبة السياسية ولا سيما العسكرية منها وتحولاتها المؤسسية ، ولكن نادراً ما تتطرق المناهج التقليدية إلى النواحي الفكرية والجوانب المجتمعية ، وبالتالي تجمدت تلك الرؤى عند جانب منفرد من الإشكالية العمرانية ، ولم تكن لها نظرة شبه شاملة ترصد سائر العوامل المحركة والصانعة للعمران ومجتمعه وأحداثه .. حتى ظهر ذلك العبقري " عبد الرحمن بن خلدون "..
" ان نظريات ابن خلدون وأفكاره وآراءه كانت بلا شك سابقة لعصره وأوانه "
علم العمران الخلدوني ..
إن الفكر هو أداة الإنسان للأهتداء لتحصيل معاشه والتعاون عليه مع أبناء جنسه ، ومع الأجتماع المهئ لذلك التعاون وعن هذا الفكر تنشأ العلوم والفنون والصنائع . ويحدد ابن خلدون ذلك : " .. ثم لأجل هذا الفكر تنشأ العلوم وما قدمناه من الصنائع ، وما جبل عليه الإسان من الإدراكات فيرجع إلى من سبقه بعلم أو زاد عليه بمعرفه أو إدراك ، أو أخذ ممن تقدمه يبلغونه لمن تلقاه ، فيلقن ذلك عنهم ويحرص على أخذه وعلمه .. " .
إذن فالعلم بمعناه هو إدراك ما ليس بحاصل ، وفي شموليته هو إدراك أولاً ، ثم معرفة ثانياً ، ثم تحصيل وأمتلاك لزمام الأمور وإستخدامه طواعية ويسر ثالثاً .. وعلى أساس هذا التصور للعلم بنى ابن خلدون علمه الجديد " علم العمران " ، ومهمته البحث في العوارض الذاتية التي تلحق بالإجتماع البشري ، ونتعرف على مفهوم العمران في الرؤية الخلدونية إنطلاقا من النص الخلدوني نفسه ، وذلك لأنه مفهوم قاعدي في هذا الفكر يمكن أن نعبر عنه بـ " حياة مجتمعية " كاملة ، أي كل ما يوجد في الوجود المادي والفكري والروحي لنفس البيئة البشرية .. فيذهب ابن خلدون في ذلك إلى أن الإجتماع الإنساني ضروري وهو الذي يعبر عنه بـ " الإنسان مدني بالطبع " .. أي لابد من الإجتماع الذي هو المدنية ، وهو معنى العمران ، وهو مرتبط عنده بمفهوم الحضارة ، فهي نتيجة حتمية للعمران تتفاوت بتفاوته ، ويعتبرها ابن خلدون غاية العمران ونهاية عصره ، بل وإنها مؤذنة بفساده بإعتبارها تعني التفنن في الترف وإستجادة أحواله ..
وهكذا ، فإن ابن خلدون كا ن يهدف إلى معرفة المجتمع ، وأستبدل الإشكالية الأخلاقية الميتافيزيقية بإشكالية المعرفة ، أي إنه وجد توازن محسوب بين المنهج العلمي التجريبي وبين الحتمية القدرية الإيمانية ، فلم يضع علماً ليعطي للمجتمع أتجاهاً جديداً ، بل وضع علماً ليدرس كيف تتطور المجتمعات ذاتياً .. فعلمه يبحث عن الواقع المجتمعي وليس متطلعا لمثل عليا ، ينطلق من دراسة الظواهر في حد ذاتها لا لبيان ما ينبغي أن تكون عليه . ويقسم ابن خلدون العمران إلى نمطين : العمران البدوي والعمران الحضري دونما تعارض ، بل على العكس ، إنهما شكلان متكاملان للحياة .. ويشمل ميدان العمران البشري كل حركة تنتج داخل المجتمع وكل ما له علاقة بالسكن والسلطة والمعاش وتناقص السكان وتزايدهم وانقسامهم ، كما يشمل نشاط العلوم والصنائع والحرف ، ولكل من نمطي العمران حاجيات معينة تستلزمها طبيعة المرحلة التي يعيشها المجتمع .. وليس هناك حد فاصل بين النمطين بل بينهما علاقة جدلية وإن صراعهما يكون اساسا حركة العمران .
طبيعة العمــران ..
يذكر ابن خلدون في مطلع نظريته " أن الإنسان مدني بالطبع " ، ويفسر ذلك بأن الإجتماع الإنساني ضرورة لبقاء الإنسان وأستمراره ، وتلك هي المنظومة الأولية التي قام عليها " علم العمران " .. وما دام هذا العمران قد تحقق بنشأة المجتمع ، فإن أستمرار هذا المجتمع يتطلب وجود وازع – حسب رؤية ابن خلدون – فالإنسان مجبول على طبائع حيوانية وظلم ، وسيعمد بعضهم إلى منازعة بعض حتى يتفكك المجتمع ، فتكون الفوضى ، ومن هنا كانت ضرورة الدولة التي هي الوازع .. " وهي العنصر المالك الضابط والقامع والمنظم .. " ، وهذا المالك يحتاج إلى عصبية من الأعوان تكون آليته لتثبيت قوة الدولة والملك ، وبذلك فإن أشكالية المجتمع وعمرانه في النظرية الخلدونية تقوم على أساسين هما :
أولاً : ضرورة الدولة أو حتمية الملك ، وآليته العصبية .
ثانياً : الحفاظ على النوع كمهمة إجتماعية وضمان عدم تسرب عوامل الأنهيار والتضعضع إلى هذا الإجتماع الإنساني الذي هو العمران ، وغايته الحضارة والتحضر التي هي المدينة .
إن أهمية النظرية الخلدونية للعمران بالنسبة للفكر المعاصر في كونها شهادة على العوامل الفاعلة في التجربة الحضارية في عمران المجتمعات والقوانين المحركة لها ، هذه العوامل والقوانين التي يقوم عليها ، أو يجب أن يقوم عليها كل فهم أو تفسير أو تنظير للعمران ، وهي ثلاثة عوامل أساسية يعتبرها ابن خلدون مجتمعة ذات أثر حاسم في التجربة الحضارية والعمرانية ..
o العامل أو المحور الإيديولوجي : ويعنى به التشريع ـ سواء كان بنبوة أو بدعوة سياسية اصلاحية ـ ، فالسياسة عنده تكون مستوى بنيوياً للعمران لا تختلف عن المستويات البنيوية الأخرى أو تتمايزعنها فهي واقع إجتماعي وضرورة من ضرورات المجتمع ، ومشروطة بعوامل أخرى على رأسها العصبية ؛ ذلك الأطار التنظيمي أو آلية التنظيم الطبيعي لكل حركة سياسية أو إجتماعية للعمران ..
o العامل أو المحور الإجتماعي : ويرتكز أساساً – ويكاد يكون منفرداً – على العصبية التي لعبت دوراً أساسياً في عمران المجتمعات ، ويبقى التناقض بين العصبية والملك هو المحرك الأساسي لصيرورة العمران والحضارة بمعنى إها محرك الديالكتيك المغلق بين البادية والحاضرة والتطور بين نمطي العمران ، ولكنها ليست الوحيدة فهناك الركيزة الثانية وهي " المدينة " ، فحينما تتطور المدينة وتزداد ازدهاراً تنشأ بنية إجتماعية تتميز جذرياً عن بنى العمران البدائية ، وتتوالد فئات مجتمعية جديدة مما يستدعي حياة الطمأنينة وأستمرارها عند أجيال متعاقبة .
o العامل أو المحور الأقتصادي ( شئون المعاش ) : أبرز ابن خلدون أهمية هذا العامل في العمران بمستوياته ونمطيه ، وتشكل تلك نظرية كاملة لو أنها صيغت بشكل بشكل أكثر تجريداً وعمومية .. يرى ابن خلدون في هذا المجال أن السبب في أرتفاع مستوى رفاهية المجتمع وتطوره هو زيادة كمية العمل ثم تلبية لحاجيات الترف والدعة من الفائض في الإنتاج .. وتختلف طرق الإنتاج بأختلاف طبيعة العمران . ويعتمد هذا التطور وأساسه زيادة الإنتاج الناشئ كنتيجة للعمل الجماعي وتقسيم أو تخصيص العمل بينهم ، ومعه ينمو العرض والطلب ويرتفع مستوى العمران إلى الترف والرفاهية العامة .
إن عبقرية ابن خلدون تبرز في معالجتها لأثر هذه العوامل مجتمعة وتفاعلها وديناميتها .. ثم الربط بينها في منظومة واحدة متداخلة العناصر متشابكة الأطراف سماها " طبائع العمـــــران " .
النظرية العمرانيـــة ..
يؤكد ابن خلدون .. " الدولة والعمران بمثابة الصورة للمادة ، وهو الشكل الحافظ بنوعه لوجودها ، وقد تقرر في علوم الحكمة أنه لا يمكن أنفكاك أحدهما عن الأخر ، فالدولة دون العمران لا تتصور ، والعمران دون الدولة والملك متعذر ، لما في طباع البشر من العدوان الداعي الى الوازع .. " . فالدولة والعمران إذن أمران متلازمان .. كتلازم الصورة والمادة في كل كائن من الكائنات الطبيعية ؛ ومن جهة أخرى يذهب ابن خلدون إلى أن .. " الإنسان مدني بالطبع أي لابد له من الإجتماع الذي هو المدنية وهو معنى العمران .. " موضحاً عملية التمدين " أن البناء وأختطاط المنازل إنما هو من منازع الحضارة التي يدعو إليها الترف والدعة وذلك متأخر عن البداوة ومنازعها .. " . وهكذا فإن نظرية ابن خلدون حول العمران يتجاذبها محوران متوازيان لا غنى لأحدهما عن الآخر ، بل لا وجود لأحدهما في غياب الآخر وهما :
المحور الاول : الدولة وتطورها وآليتها الاجتماعية العصبية وغايتها الملك ..
المحور الثاني : التمدين والتطور من البداوة وتعبيره المدينة ..
فالمدينة والدولة صنوان متكاملان يشكلان نموذجا ثالثاً ، يخضعان لنفس القوانين خاصة ترتبط بالحركة التطورية ، وهي ما يسميها ابن خلدون بالعوارض الذاتية .. ويرى صاحب النظرية أن الدولة قوة أعلى من المجتمع وليست قوة مندمجة فيه ، يراها منفصلة عنه وأنها لا يمكن أن توجد إلا في مرحلة معينة من تطور العمران – العمران الحضري ، وكلما مر الزمن عليها أنفصلت عن المجتمع وأصبحت تمثل طبقة أعلى من سائر الطبقات ( النخبة السياسية الحاكمة ) ، فالسلطان وحاشيته بعد أن يستقر لهم الملك يتخذون الجند ليدافعوا عنهم وينفصلوا عن أفراد المجتمع . وقد خلص ابن خلدون من ذلك إلى أن الدولة علة وجود العمران كحالة مجتمعية ، وهي قرار إنساني إجتماعي لها منازع خاصة بها تحدد مسار حركتها سياسياً وإجتماعياً وأقتصادياً ، وبالتالي عمرانياً وحضارياً عموماً .. ومن هذه المنازع : التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس والأنفراد بالمجد والترف والدعة والسكون ، وإذا أستحكمت من الدولة تلك المنازع ، تكاسل أهل الدولة وألفوا المذلة والأستعباد .. وأنحصرت شوكتهم ، وحل بالدولة الوهن والهرم إلى أن يُقضى عليها .
وعلى التوازي يرى ابن خلدون أن ميلاد المدينة يكون مع زيادة الإنتاج والخروج من دوامات الحاجيات الأولية بالإضافة إلى شرط قيام المؤسسة الحاكمة ، فالملك والدولة سابق للمدينة وميلادها وقيامها ، ويؤكد أنه لابد من تمصير الأمصار وأختطاط المدن من الدولة والملك . وتبقى المدينة غاية العمران التي هي نفسها غاية الملك ، ومتى وصل العمران غايته كان ذلك إيذانا بفساده وخرابه ، ففي نهاية وجود الدول فأن شيوع الظلم والفساد يقوض دعائم المجتمع فيبدأ الانحطاط والتدهور الأقتصادي والإجتماعي في المدينة .
ويؤكد ابن خلدون هنا على حتمية العدل وتجنب الظلم الذي يؤدي بالمجتمعات ويخرب العمران .. فالشريعة أو القانون عنده هي ضمان للعدالة بين الناس إذا ما تحققت تحقق بها عز الملك ، وعز الملك لا يتحقق إلا بالعمارة ، ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل ، وأن العدل عند ابن خلدون مفروض بحكم آلهي . وهكذا صمم ابن خلدون نظرية العمران للمجتمع على أنه مجتمع الحكومة والرعية ؛ الدولة والمجتمع لبناء الحضارة وتعبيرها المدينة .. والفساد عنده نوعان : فساد العمران من حيث صورته الذي يصيب المدينة والدولة ، وفساده من حيث مادته الذي يصيب الافراد وهم مادة العمران . أما الحضارة فتعني لابن خلدون حضارة الإستهلاك بغير حساب ودون إنتاج .. حضارة أولئك الذين يعجزون عن العمل لإستحكام عوائد الترف فيهم ، إنها حياة جماعية طفيلية طافية على سطح المدينة ، وتعيش وتستهلك على حساب الرعية كلها ، وكل ذلك بفضل الجاه الذي تتمتع به الدولة من سلطة بيدها .
هكذا فالظلم مؤذن بخراب العمران سواء كان الظلم نتيجة سياسة جبائية أو أستبداد وتسلط أو تعسف على السكان ، أو تجاوز الدولة للسياسة الشرعية .. ومن أبرز أنواع العدل في الرؤية الخلدونية العدل الأقتصادي أو هو العدالة الإجتماعية ، فالظلم المؤذن بالخراب يتجاوز كل ذلك ليشمل أحتكار التجارة والرزق من ذوي السلطان وأغتصاب أموال الناس عن طريق سياسة التغريم – حسب الرؤية الخلدونية ونظرياتها .
الاشكالية العمرانيـــة والحداثة ..
إن معاصرة ابن خلدون وآنية الفكر الخلدوني اليوم ، لا تأتي من تكراره بغباء وبلا تبصر ، ولكنها تعني الوصول إلى تفسير : كيف ولماذا .. تكون الاشياء كما هي في العالم الذي نحيا فيه نحن اليوم ضمن محدودية الزمان والمكان ، وبالتالي فإن ذلك يحتم ضرورة عدم إخفاء الصعوبات التي نجابهها في دراسة مجتمعاتنا المعاصرة والحديثة الآنية ، بتقديس ما قدمه السلف وعلى رأسهم ابن خلدون نفسه .. بل بالعكس تماماً فإن ذلك يعني أن تكون لدينا الجرأة ، كما فعل ابن خلدون ، على طرح أفكار جديدة تسمح بالتخلص من زمن الأنحطاط الحضاري ، مستندين في ذلك إلى حالة المعارف الآنية والإشكاليات الحادثة ، دون أن نفقد مع ذلك أو نهدم دعائم وثوابت المجتمع الحضارية ، أو نتجاهل أو نجهل موروثات هذا المجتمع وتراثه .. هي رؤية توافقية تتجه إلى الحاضر وتتطلع إلى المستقبل بنفس المنهجية العلمية والأهتمام التي أتجهت به إلى الماضي أو أكثر حتى يغدو في الإمكان جعلها معاصرة وتحويلها إلى مشروع قابل للتحقيق ، للإنماء والتطوير ، وتبقى رسالة من الماضي إلى المستقبل .. وهذا لن يتم إلا إذا تحررنا من عوائق الفكر الموروث وبالتالي كسر عوائق تطور مجتمعاتنا وتحرير عقولنا من سيطرة اللا معقول والسلاسل والقيود الفكرية والمجتمعية التي جعلت الخلدونية ماضوية وليست مستقبلية مما يهددنا نحن بذات المصير ..
فإذا كان ابن خلدون قد أكتشف أن الحركة الظاهرة للمجتمع هي حركة دورية للدياللكتيك المغلق ، فهو لم يفسر السبب لهذا الشكل الدائري للحركة العمرانية ؛ وإنه من الضروري لنفهم الدورة السياسية لهذا المجتمع أن نعيد هذه الدورة في حركتها الأساسية إلى قاعدة تحليل علاقات الإنتاج والتبادل التي تتطابق مع حالة معينة من تطور القوى داخل المجتمع : القوى الإجتماعية والقوى الأقتصادية ، هذا هو التناقض اللاعدائي بين الأرستقراطية القبلية والأرستقراطية المدينية والذي يحدد الحركة الدائرية للدولة . وبالتالي الحركة الدائرية للمدينة وعمرانها .. إن تناقض هاتين الطبقتين الاجتماعيتين لأنهما حاملتين لعلاقات إجتماعية مختلفة ، والفرق الجوهري أن الإرستقراطية القبلية تقوم على أساس العلاقات البنيوية الإجتماعية الداخلية ، وتقوم أرستقراطية المدينة على العلاقات الأقتصادية الخارجية .. هناك تماسك وترابط في الأولى يضمن لها الأستمرارية ، وهناك صراع وتفسخ يؤدي بالثانية إلى التفتت والأنهيار ..
أما الأساس المادي الذي يقيم عليه هذا المجتمع ( المديني ) حضارته هو الجاه المفيد للمال ، وتكون القوة العسكرية هي آلية تطور المجتمع عمرانيا ، أو هي قيام الدولة وعمران المدينة ، وهكذا كانت المؤسسة العسكرية الإجتماعية تاريخياً هي محور هذه الحركة المجتمعية وأداتها بل احياناً المحرك الأساسي والآلية الرئيسية لهذا التطور والمحور المشترك في تنظيم الدولة وعمران المدينة في مجتمعاتنا العربية .
وتطرح الحقبة الحديثة أمامنا أشكالات من نوع آخر من الناحية التاريخية بدأت من العصر الوسيط مع الدولة العثمانية ، وظهرت نتائجها في وسط القرن التاسع عشر مع تمثل وأستعارة مفاهيم الدولة الأوروبية في المشرق العربي .. ومن ملامح ذلك تدعيم مبدأ الدولة وضرب القيادات الوسيطة ( الطبقات المتوسطة ) بل وإلغاء وتعطيل دورها في المجتمع المديني لصالح الأجهزة المرتبطة مباشرة بالحكم والدولة .. وبأختصار فإن الامر كان يعني في غايته إحلال مبدأ الدولة على حساب المدينة ومجتمعها وأستقلاليتها ، اي تحديداً إلحاق المجتمع بالدولة ، ولدينا في تجربة محمد على باشا في مصر النموذج على ذلك تحت إدعاء تحديث المجتمع من أجل خلق الدولة القوية ، التي ليست كذلك الا بمقياس إضعاف ما تفرضه خصومها أي ممثلي المجتمع المديني ، وتبعاً لهذه الخطة حدث تدمير منهجي للمؤسسات المدينية لصالح مؤسسة الدولة وأجهزتها التي أوكلت إلى نفسها مهمة مراقبة المجتمع وتدبير شئونه بنفسها ، الحالة التي أستمرت إلى يومنا هذا .
والمفارقة هنا تكمن في أن ابناء المجتمع المديني من الأهلين ، حين ما بدأوا ينخرطون في جسد الدولة ، كانوا يقدمون مبدأها ويرفعونه فوق المجتمع الذي أنبثقوا منه . وحين أخذ أفراد من الأهالي يحلون في الإدارة ويلحقون بأعمال الحكومة أسهموا قبل سواهم في تعزيز مبدأ الدولة على حساب المجتمع المدني ، وتندرج ضمن هذا السياق أعمال رفاعة الطهطاوي ومن بعده جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وآخرين فقد عملوا قصدا أو بدون قصد على بلورة مفهوم أن الدولة ترتفع فوق المجتمع وتحكمه ..
واليوم يستيقظ دعاة السلفية أن الدولة أبتعدت عن التشريع والموروث الاسلامي ، بل وإنها كانت كذلك في الماضي القريب وليس في الحاضر الحادث اليوم فقط ، وهكذا فالتاريخ عندهم لم يعد صالحا وحده كإطار مرجعي ، وهنا تخلى السلفي عن " التاريخ " وبالتالي تحرر مما كان يدفع به الرواد من العصر الوسيط وحتى المعاصر إلى الأنفتاح والتجديد وأنتكص إلى الوراء ليصيح صيحة الخوارج الأولى " لا حاكمية إلا لله " ، لم يعد الآن يطلب النهضة ولا التجديد ولا الأصلاح ، فهو يقرأ التاريخ في الشرع ، ولكن ليس التاريخ الماضي ، جاعلاً من الجيل الأول من الصحابة وتابعيهم " النبع الصافي " وهو صورة المستقبل المنشود ، إطاراً مرجعياً وحيداً .
وفي المقابل أنصرف الليبرالي العربي في تزامن مع السلفي إلى الممارسة العملية للسياسة في الحاضر ، بينما كان السلفي يمارسها نظرياً في الماضي ، فقد أخذ الليبرالي يتخلى تدريجيا عن اطاره المرجعي الأصلي الغربي ( الأوروبي ) وأنتزع " التاريخ " من يد السلفي ولكن ليس التاريخ الإسلامي بل التاريخ العربي ( القومي ) .. لقد أصبح يعمل من أجل بناء الحاضر والمستقبل ودولة الحاضر آخذة بنفسها في علمنة مؤسساتها وأسسها ، لعلمنة الحاضر .
ومن هنا غاب المشروع الحضاري عن كل من السلفيين بمرجعهم الشرعي الإسلامي وعن التقدميين الليبراليين بمرجعهم القومي العربي ، وغبنا نحن عن الحضارة نفسها وأصبحنا مستهلكين لما تنتجه حضارات الآخرين من تقنيات وصناعات وثقافة وأيدلوجيات نضيع معها في صراعات لا تصل بنا إلى شيئ لأنها لا تبحث عن شيئ سوى أن تخرجنا من حضارة اليوم حتى لم يصبح لنا فيها دور على مستوى الأفراد أو المؤسسات الرسمية أو المدينية . لقد غاب عنا دورنا الحضاري والدعوة لإحياء هذا الدور تبدأ من فهم المشروع الحضاري لأمتنا مدناً وأمصاراً .. ودولاً .
فإذا كان المثقف " الليبرالي " يريد أن يلحق المجتمع بالدولة ، فإن ما يريده " السلفي " هو إلحاق الدين والمجتمع بالدولة التي ينشدها ، أن ما يجمع الأثنان إيمانهما المشترك بأولوية الدولة وأرتباطها بها كهدف منشود مهما أختلف شكلها أو رسمها .
إن الصراع بين المفهومين أو الأتجاهين صراع حول الوصول إلى الدولة المهيمنة في غياب المشروع الحضاري لها أو دون الأمساك بآليات تطور المجتمع في سلمه التطوري سواء كانت آليات إجتماعية أو أقتصادية ، إنه أختلاف في الرأي حول كيفية هيمنة الدولة على المجتمع المديني وتعبيره المادي المدينة والدولة في ذلك تترفع عن المدينة والمجتمع معاً .. وبالتالي فليس الهدف لأي منهما إيجاد صيغة تعادلية متوازنة ومعاصرة في معالجة الدولة وأرتباطها بالمدينة ، حتى تعود لكل منهما هويتها الحضارية ولكن الهدف هو هيمنة الأولى على الثانية سواء بأسم سيادة القانون أو حتمية الشرع .. وليس الهدف من هذا الفصل بين المؤسسات السياسية الرسمية للدولة والمؤسسات المدينية في المدينة ، لأن التجربة التاريخية قديمها وحديثها أثبتت أن النهاية المحتومة هي هيمنة " الدولة العسكرية " الغالبة على الدولة والمدينة لمصالحها في غياب المشروع الحضاري لهما .. والنتيجة هي إنهيار مؤسسات الأثنين معاً في تتابع محتوم .. وهــــو " خراب العمران ".
Published on August 23, 2015 01:37
قراءة نحو نظرية " جدليــــــة العمـارة " في كتب رفعة الجادرجي ..
رفعة الجادرجي فيلسوف العمارة ..
معماري وفنان تشكيلي عراقي ولد سنة 1926 في بغداد وحصل على دبلوم الهندسة المعمارية من مدرسة "همرسمث للحرف والفنون" البريطانية سنة 1950 ؛ والمقدس عنده هو حرية الفرد وأنه لا إمام سوى العقل ، وهو معاصر ينظر إلى الماضي في سبيل التطلع للمستقبل ، ومتذوق للموسيقى وللمسرح ومصور فوتوغرافي مبدع .. منهمك في الهم الفلسفي والوجداني ، يدرس العناصر الفلسفية الوجدانية في كتبه ليوثق افكار العمارة وتداعياتها ، مصطدماً بالمعتقد الديني للمجتمع مرة وبالتحرز الأجتماعي وبضيق أفق الفكرة التي تسود المجتمع مرة أخرى ، إنه يرى العمارة محتوى الذات وأفق المجتمع ومنجزاته الحضارية ..
حصل على جائزة أغاخان للعمارة في سنة 1986 ..
وحصد جائزة الشيخ زايد للكتاب عن فئة الفنون عن كتابه ” في سببية وجدلية العمارة ” في سنة 2008 .
الجادرجي عمل منذ تخرجه في مكتب "الاستشاري العراقي" الذي أسسه عام 1952 وتابع نشاطه فيه حتى سنة 1978 ، حين تفرغ للنشاط الأكاديمي ؛ درّس كأستاذ زائر بجامعة هارفارد 1984ـ1992، وأستاذاً زائراً بجامعة لندن1982 ـ 1992. وفي غضون ذلك كان محاضراً في فلسفة الفن والعمارة والأنثروبولجيا وعلم الاجتماع ، سنة 1993 أسس "مركز أبحاث الجادرجي" وتفرّغ للبحث في فلسفة ونظرية العمارة ، سنة 1999 أسس "مؤسسة الجادرجي" بالاشتراك مع نقابة المهندسين في بيروت ورابطة المعماريين .
ألَّف الجادرجي العديد من الكتب حول العمارة ، ومعظم كتاباته تحاول الجمع بين التنظير الفلسفي المعماري وبين الحاجات والشروط البيئية والمحلية التي تحتضن تلك الأطروحات ، فضلاً عن إيلاء التركيبة الاجتماعية العمرانية للعالم العربي أهمية خاصة ؛ منها : “شارع طه وهامرسمث” 1985 ، و"الأخيضر والقصر البلوري" 1991، و“صورة أب” 1991 ، و“حوار في بنيوية الفن والعمارة” 1995 ، و“المسؤولية الاجتماعية لدور المعمار أو المعمار المسؤول” 1999 ، و"مقام الجلوس في بيت عارف آغا" 2001 ، و"في سببية وجدلية العمارة" 2006 ، إضافة إلى "جدار بين ظلمتين" 2008 .
وتتحدد الرؤية الفلسفية للجادرجي من خلال ممارسته المهنية وكتاباته التنظيرية في العمارة فيقول : " كان أهتمامي منصباً على إيجاد أسلوب ملائم لمعمار عربي معاصر ، وكانت نقطة الانطلاق هي اعتماد الحوار المستمر بين المعماريين والرسامين والنحاتين والمفكرين العرب . وكان السؤال عما إذا كان من الضرورة أن يظل الفن المعماري عندنا عرضة للأفكار الغربية الأوروبية أم أن عليه أن يتأثر بالبيئة المحلية والتقاليد الطبيعية والمواد المتوافرة . وبالنسبة لي فقد بدأت أتعلم من المعمار التقليدي وأحاول أن أتوصل إلى المواءمة ما بين الأشكال التقليدية والحضور الحتمي للتكنولوجيا الحديثة . كان هدفي ينحصر في خلق معمار ينسجم مع الواقع المكاني الذي يشيّد فيه ، وأن لا يسمح بالتضحية بشيء جوهري لصالح الإمكانيات التكنولوجية الحديثة . وفي الوقت نفسه كنت مهتماً بفهم وتحليل التفكير القائم في الطرق التقليدية للسيطرة الطبيعية "... ويقول : " إن أهتمامي الحالي ينصب على الرغبة في تطوير أكثر للنزعة التجريدية في الأشكال التقليدية المحلية والقومية وقيمها الجمالية بمعزل عن المفهوم الإنشائي " . ويرى الجادرجي أن هناك علاقة بين التنظير والممارسة ، وعلى المعماري أن يسخر التنظير في التصميم ، لأن رؤيتنا لأي شيء تحصل عن طريق المعرفة السابقة وليس مجرداً منها .. فدون تنظيرلاعلاقة تفاعلية بين المتلقي والمعماري تصبح العمارة رتيبة وسقيمة إذا لم تعتمد على فهم المكان والزمان والإطار البيئي والجغرافي . والممارسة عنده تفاعل بين الفكر والمطلب الاجتماعي منذ بدايته سنة 1952 وتأسيسه نظرية " جدلية العمارة " التي شكلت القاعدة إلى التنظيم في العمارة .
نظريــــــــــة جدلية العمارة ..
أطروحة الجادرجي التي كتبها سنة 1951 ، ونقحها سنة 1958 ، ونشرها في كتابه " شارع طه وهامرسمث " سنة 1985 ، وكانت المانفستو المهني والفلسفي ، التظيري والتطبيقي للمعماري على مدى حياته وممارسته وإنتاجه المعماري وكتبه ..
مقدمة ..
إن تاريخ العمارة في جوهرة هو تاريخ التناقض بين المطلب الأجتماعي والمرحلة التقنية لتلك المرحلة . فالعمارة هي العلم الذي يتناول حاجة إنسانية معينة ، إنه العلم الذي يتناول الأيواء والتحويط بشكل أو بآخر ، لحاجات يكيفها المجتمع ، بعبارة أخرى العمارة كقيمة مادية هي جزء من القاعدة ، جزء من الأنتاج . إضافة إلى ذلك ، فإنها العلم الذي يتناول أفكار البنية الفوقية بصياغتها في شكل مخصوص ؛ وهذا الشكل يعكس ويتخذ دوراً فعالاً في صياغة أفكار القاعدة الاجتماعية ؛ أي أن العمارة كفكرة هي أحد عوامل البنية الفوقية . لهذا فمن الواضح أن للعمارة جانبين : الأول أنها قيمة مادية ولذا فإن أنتاجها ، أي البناء ، يجب أعتباره كجزء من الأنتاج العام ، والآخر أنها فكرة ولذا فإن إنتاجها يجب أعتباره كجزء من البنية الفوقية . فإذا حصل تجاهل لأي من هذين الأتجاهين أو لم نوف قيمتها الأجتماعية كاملاً ، فإن نظرية العمارة تضحى آحادية الجانب ومغالية ، وهذان الجانبان هما وجهان لنفس الظاهرة الأجتماعية ، العمــــــارة .
المطلب الأجتماعي في العمارة ..
قد تكون المطالب الأجتماعية هي أفكار البنية الفوقية التي تحتاج إلى نشر بواسطة العمارة ؛ وأن تكون هي المتطلبات المادية ، أي التحقيق المادي للعلاقات الأجتماعية بصيغة العمارة ، بمعنى العلاقة بين انسان وانسان ؛ إن الملوك ما عاشوا قط في ظل ظروف معمارية مشابهة لظروف عبيدهم ، ولا عاش الفلاح في ظل ظروف معمارية مشابهة لظروف الصانع في المدينة .. كذلك العلاقة بين الأنسان والطبيعة ، فعمارة ساحل البحر ليست متماثلة مع عمارة الريف ، ولا عمارة القرية متماثلة مع عمارة المدينة ، ومناطق الغابات تنتج عمارة مختلفة عما تنتجه المناطق الحجرية أو البركانية .. كل واحدة من هذه تتطلب من الانسان ظرفاً معمارياً مختلفاً ؛ بعبارة أخرى فإن للمطلب الأجتماعي في العمارة جانبين : الجانب العقائدي والجانب المادي ، والأول يتكيف من قبل البنية الفوقية لمرحلتها ، والتي تشتمل على أفكار ومخيلة تلك الحقبة ، والثاني يتكيف بقاعدة المرحلة ومتطلبات الأنتاج فيها .
التقنيــة في العمارة ..
لا يكفي أن نسأل لماذا أنتجت عمارة ما ، بل المهم كيف أنتجت ؟ ، ذلك أنه بالنتيجة لا يتحدد المطلب الأجتماعي في العمارة لوحده بمرحلة تطور الأنتاج عموماً ، بل تتحدد كذلك ، وعلى الأخص ، الوسيلة التي بها أمكن تحقيق المتطلبات للمطلب الأجتماعي ليبلغ أقصى غايته في تلك المرحلة المعينة . فإننا إذا أخذنا بنظر الأعتبار المطلب الأجتماعي ، أي متطلباته العقائدية والمادية معاً ، وتجاهلنا التقنية المطلوبة التي تحققه في البعد والموضع والسرعة ودقة العمل ، فإن دراستنا ستكون أحادية الجانب . إن المطلب الأجتماعي في العمارة هو أحد القطبين ، والقطب المواجه له هو القوى الأنتاجية لتلك المرحلة ـ الناس ، مهارتهم ، ووسائل الأنتاج ـ كلما حدث تناقض بين قطب وآخر .
التناقض الجدلي في العمارة ..
ثمة مفهومان أساسيان للتطور ، الأول المفهوم الميكانيكي الذي يعتبر التطور بمثابة زيادة بسيطة ، تكرار بسيط ، وتراكم ومزج للأشياء الموجودة سلفاً ، لذا فإن هذا المفهوم غير قادر على تفسير نشوء الجديد من القديم ، كيفية وسبب مجئ عملية ما لحيز الوجود ، كيفية تطور التغيير الكمي إلى تغيير نوعي وبالنهاية فإنه سيطلب العون من شئ خارجي ، عن العمليات المادية الفعلية ، ولذا فإنه بشكل أو بآخر يدخل الظاهرة غير المرئية في عمليات تطور المادة .. والثاني المفهوم المادي الجدلي ، المفهوم الذي ينطلق من وجهة نظر تفيد بأن كل شئ يتطور بواسطة نزاع بين أضداده بواسطة فصل ، أنقسام ، لكل وحدة إلى أضداد قائمة بذاتها بشكل متبادل ... إنه يقتضي التغلغل في أعماق عملية مخصوصة ، والكشف عن القوانين الداخلية التي هي مسئولة عن تطور تلك العملية ، هذا المفهوم يبتغي اسباب التطور ليس خارج العملية ، بل بباطانها ذاتها ، إنه ينبغي أساساً الكشف عن مصدر الحركة الذاتية للعملية .. لذا فلا يكفي أكتشاف التناقض الأساسي في العمارة ، بين المطلب الأجتماعي والمرحلة التقنينية ، كما أن من المهم على السواء أكتشاف التناقض الباطني للتناقضات الخاصة والعامة لا بل أكثر ، فمن بين مئات التناقضات الخاصة يجب تشحيص التناقض الرئيسي الأساسي والجوهري ، وكل تناقض خاص يجب تصنيفه حسب الدور الذي يتخذه في الظاهرة موضوع الفحص . وليس كل وحدة تحوي لذاتها أضداد قطبية ، بل أن هذه الأضداد مترابطة بصورة متبادلة بعضها ببعض ، إن جانباً واحداً من تناقض لا يمكنه البقاء بدون الآخر ... ليس ثمة عمل ميكانيكي بدون فعله المقابل ، إن الأنحلال الكيمياوي للذرات مرتبط بشكل لا ينفصم مع أتحادها ، والطاقة الكهربائية تفصح عن نفسها على شكل كهربائية كتقابلة ـ إيجابية وسلبية . وإن التجوال الأجتماعي ، تجوال الانسان داخل التحويط لبناية ما لا يمكن أن يتحقق في العمارة بدون سبق وجود التحويط أو المنشأ ، والعكس بالعكس ، فإن المنشأ ، الجانب الآخر من التناقض لايمكن أن يوجد بدون المطلب الأجتماعي ؛ إن المنشأ والتجوال الأجتماعي هما ضدان وفي توحدهما ونزاعهما تعثر على مصدر وجودهما وفنائهما ..
إن جدلية العمارة تظهر نفسها على النحو التالي :
• الموضع الطبيعي لبناية ما يقرره المطلب الأجتماعي ، بتناقضه مع التقنية . وهذا التناقض له جانبان ..
o إن المطلب الأجتماعي لبناية ما يقرره موضعها الأجتماعي ـ الجغرافي ، كقربها من نهر أو قرب وقوعها على جبل ...الخ من جهة ، أو في مدينة أو قرية من جهة أخرى ، هذا الجانب يقرر توفر مواد البناء كالطين والحجر والخشب ... الخ ويقرر العلاقة الأجتماعية بين بناية وأخرى ، بأعتبارها قطباً مضاداً تنتفع من هذه المواد الموجودة ، فتتقدم البناية المعينة وفق موضعها.
o الطبيعة الخاصة لموقع البناية : الطين الرمل الحجر ... الخ ، والتقنية تحل مسألة الموقع لتلك البناية في موضعها ذاك المخصوص .
• التجوال الأجتماعي ، أي حركة الناس المشروطة أجتماعياً ، وذلك من ناحية علاقة الانسان بالطبيعة وعلاقة الانسان بالانسان معاً ، هو في بناية ما ، القطب المضاد للتقنية في حل متطلبات هذا التجوال : نمط مختلف من التحويط مثلاً يكون مطلوباً لمعمل دون البيت ؛ في البيت الانسان مشروط بعلاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسان بالطبيعة ، كقطب مضاد للتحويط الممكن تقنياً ، هذا التناقض يقرر حجم وعدد الغرف ... الخ في البيت ، هذا هو تناقض التجوال الأنساني ، كضد ، للمنشأ الممكن تقنياً .
• علاقة النوافذ الضرورية أجتماعياً ، الناحية الصحية ، الناحية العقائدية والمادية في تناقض مع التقنية المطلوبة لأشباع هذه الحاجات . إن التطور التقني للنافذة القوطية ، مثلاً ، قد حتمته أجتماعياً مفاهيم صحية أفضل وأمن أجتماعي أكبر ، وأستعمال النافذة لأغراض عقائدية ( أي الزجاج الملون ) .
• إن الحاجة العقائدية الضرورية إجتماعياً في تناقض مع التقنية ـ هذا التناقض لا يشترط فقط التجوال الفعلي العام ، أو مفهوم الحيز للحقبة الزمنية ... بل ينطوي كذلك على النشر المباشر لأفكار الحقبة ، مثل النحت والزجاج الملون والأعمدة المذهبة والتيجان والزخارف عامة ...
• الأشكال القائمة سلفاً بالتناقض مع أنتاج شكل جديد ، أي الشكل القائم سلفاً ، أستيعاب وأستعارة الأشكال بالتناقض مع التقنية ، والعكس بالعكس ، التقنية القديمة القائمة مع أنتاج أشكال جديدة ، وأشكال مستوعبة أو مستعارة كما يقتضيه عامل المحتوى . إن أستمرارية الأشكال أو أستعارة الأشكال القديمة المطلوبة من قبل المحتوى ، المطالب المادية والعقائدية معاً للقاعدة والبنية الفوقية للمجتمع ـ كنتيجة إما لتخلف أفكار قديمة أو التزامل مع أفكار قديمة أو مؤسسات وعادات أجتماعية قديمة ـ تناقض مع الظروف التي تتطلبها التقنية الجديدة في إنتاج شكل جديد . إن الطرائق القديمة للتقنية ، بمعنى كونها عاملاً في أنتاج الشكل ، تتناقض مع المتطلبات الجديدة للمحتوى المتولد حديثاً والبنية الفوقية أيضاً في انتاج شكل جديد .
كتــــــاب .. شارع طه وهامرسمث
بحث في جدلية العمارة
1985
يستهل رفعة الجادرجي كتابه بأنه نواة فكرية ورواية لتطلعات تجمعت بمرور الزمن ـ ممارسة وتجربة وخبرة ـ حتى باتت أشبه شئ بمدرسة لها قواعدها وتأثيراتها داخل العراق وخارجه . غير أن الكتاب ليس تاريخاً لهذه الحركة أو المدرسة ، بل هو محاولة لتدوين سيرة معمارية كما أدركها الكاتب نفسه مع حلفايتها التي عايشها . لم تكن العمارة بالنسبة له مهمة فحسب ، بل كانت أسلوب معيشة ، لذا كان الكتاب عرض ذكريات عن فكره ، وذكريات عن خلق الفكرة أو النظرية ونموها وتطورها ، حتي بدت فلسفة مهيمنة على ممارسته ، يقتبس منه ويستشهد بها ؛ حاول الجادرجي هنا تحليل الظواهر المعمارية بموجب نظرية المادية الجدلية ، فقال أن المحتوى المعماري ما هو إلا الوظيفة المعمارية سواء الوظيفة النفعية بشتى فروعها أو الوظيفة العاطفية بما في ذلك النواحي الأستاتيكية والتعبدية والسياسية ، بل وحتى المزاج القومي والوطني والدور التاريخي الذي يمر به المجتمع .. أما الشكل فهو ذلك التكوين الهندسي الذي يظهرلنا هذا المحتوى ويعتمد عليه ويكمن فيه ؛ فإذا أردنا عمارة جيدة فعلينا أن نأتي بمحتوى جيد ، وبما أن الشكل هو تحصيل حاصل للمحتوى فإنه يصبح بالتبعبة وبصورة تلقائية جيداً .
ويخلص الجادرجي في تنظيره أن المحتوى هو ذلك المطلب الأجتماعي الذي يتكون من مكونات عديدة بما في ذلك الوظيفة والتقنية ، وهذه تتشابك وتتفاعل إلى أن تصبح مطلباً . وبهذا المفهوم يصبح تقييم العمارة عبارة عن أداة لفهمها وليس مجرد أداة سياسية بعد إستيعاب العلاقة و بين المحتوى والشكل بنظرة موضوعية . والمسألة إذن هي مطلب يتفاعل مع أسلوب أنتاجي فتكون الحصيلة ظهور شكل ، أو بعبارة أخرى عند تبلور متطلبات ثانوية وظيفية متعددة النفعية منها والعاطفية في كيان موحد ودخول هذا المطلب الموجد في تفاعل مع الأسلوب الأنتاجي يتولد في نهاية هذه العملية التحويلية شئ جديد هو الشكل ؛ جديد لأنه غير مطابق مع مكونات المطلب وغير متطابق مع أسلوب الأنتاج .. وبتولد شئ جديد نكون قد حصلنا على تحويل نوعي ن ولا تحويل نوعي دون أن يتم تفاعل متبادل جدلي . ويعرف الجادرجي نظريته في جدلية الشكل : " الشكل هو الحصيلة المادية لتفاعل جدلي متبادل بين مطلي أجتماعي متمثل بفكرة من جهة ، ومن جهة أخرى التقنية المعاصرة له متمثلة بعناصرها الفكرية والمادية والذاتية الخاصة .. " . وهكذا إذا نظرنا إلى العمارة نجد أن وجودها وتطورها وتنوعها يخضع لهذه السُنة في التناقض والتفاعل ، ثم التحول النوعي ، وذلك بين القطب الأول المتمثل في المطلب الأجتماعي وبين القطب الثاني المتمثل بالأساليب التقنية ، وحصيلة هذه العملية تظهر لنا ، لأحساسنا في مضمار الشكل على صورة عمارة .
ويشمل الكتاب ممارسة رؤية الكاتب ونظريته حول جدلية العمارة ، ويحتوى الكتاب على خمسة فصول تبدأ بعرض لبدايات الرحلة والبحث ما بين الشرق والغرب ، ثم طرح للمانفستو وتوطئة أطروحة النظرية ، وتفصيل البحث نحو جدلية العمارة كما طرحها حينها سنة 1950 ..
كتــــاب .. الأخيضر والقصر البلوري
1991
كان السجن الفرصه المتاحة لرفعة الجادرجي ليكتب كتابه الأخيضر والقصر البلوري هذا ما نوه عنه في المقدمة ، والكتاب يفصح عن بنية عقلية جدلية تجعل من مجال العمارة مدخلاً لدراسة المجتمع وتركيبته الأجتماعية والنفسية وكأنه جعل من السجن مكاناً لاستعادة وتجميع الذاكرة وإنهاضاً لما هو يومي في عمله وتحويله إلى لغة حسية ثقافية فكانت الكتابة تحرراً للذاكرة وللجسد معاً ، وهنا كان الأشتغال بالعمارة مدخلاً لرؤية التحولات السيكولوجية للسلطات وللناس معاً ، وحاول عبر خبرات البنائين والنجارين والفلاحين أن يولف طريقة فنية تجتمع فيها الخبرة الآنية لهؤلاء مع خبرة الماضي في بنية الشكل المكاني للعمارة أو لأجزاء من تراكبيها المعقدة . والكتاب نفسه أحد أهم الشواهد المعمارية في فن التجربة المهنية العملية ، وكأنه يقول ضمناً إن التاريخ الحقيقي لمكونات المجتمع لا يكتب إلا من خلال الخبرة الميدانية في أنشطته العملية ، وقاريء الكتاب يشعر أن ما يعنيه بالنظرية الجدلية للعمارة ليست إلا الرؤية الميدانية المشغولة بالتطبيق ، مع الأنتباه العميق لحركة المجتمع وهو ينمو في أتجاهات مختلفة دون أن يلغي كلية فعل التأثر بالتيارات الحديثة في العمارة الأوروبية مع محاولة نقد منهجي للموروث في أشكال العمارة التراثية وأخذ الجانب العلمي والمتقدم منه وأخضاعه تقنياً إلى السياق المعماري الحديث .
إن نظرية جدلية العمارة التي تحولت للمجال التطبيقي كما ظهرت بالكتاب تفصح عن رؤية فكرية أشمل ، تلك التي تتعلق بالجانب الإقتصادي ، فالمعماري الحديث إذ يستفيد من بنية البيئة مناخياً وجغرافياً وأداتياً ، إنما يحاول أن يجعل من هذه المواد الخام أرضية يشيد من خلالها وفوقها تكوينات معمارية جمالية ونفعية معاً ، ومستطلع إنجازات الجادرجي يجدها قد أستنطقت المكونات المحلية إلى الحد الذي بدت خصوصيته في هذا الإنجاز أو ذاك هي الهوية الفنية والفكرية له . وهذه الميزة الثقافية الكبيرة واحدة من تحويل فعل العمارة إلى رافد ثقافي كبير ، ليس على مستوى الشكل وجماليات البناء ، وإنما في أستخدام المادة الخام وفي وضع المفهومات والآراء الشخصية موضع تطبيق يوازن به بين الدراسة والخبرة المعملية المحلية .
في الكتاب الكثير من الموضوعات التي تستحق وقفات تأمل ، منها مفهومه للبيت البغدادي وعلاقة هذا المفهوم بالموروث ، ومن ثم نقل أهم مكوناته الى البيت المعاصر ، وهذا ما دفعه لأن يعمل توازناً هندسياً وجمالياً بين باطن الدار بوصفه موروثاً للباحة القديمة ، كجزء من بناء ديني يرتبط بالجنة والنار ، وبين خارج الدار ، بوصفه تكويناً جمالياً ، وجعل من خلال هذا التوازن المنهجي مفهوم أجتماعي ينمو في باطن الدار كما ينمو في خارجها ، ولعل هذه الظاهرة الجدلية في التوازن بين موقعين آتية إليه من المحاورة السياسية والفكرية التي كانت تضع مجمل أفكارها حيز التطبيق ، ثم إضفاء الطابع الذاتي على كل ذلك من خلال خطوط جديدة التي يتطلبها تصميم جديد . ويستمر البيت حضوراً وفاعلية مع الجادرجي فالبيت البغدادي كوحدة معمارية كان أشبه بالقيمة المركزية والبؤرة المعمارية التي أدخلها كلها أو أجزاء منها في أي تشكيل أو تصميم معماري ، فعندما اكتشف الرؤية الجديدة الخاصة به في بناء الجامع ، توصل الى موقف يوحد بين العملي الواقعي والفني الجمالي ؛ وهنا بدأت خطواته في الابتعاد عن المؤثر الأجنبي والدخول للتراث من خلال فن التجريد أي الدمج بين ما هو محلي وعالمي ، وجمعهما في إطار تراكمي غير محسوس ينم عن معرفة جمالية بالتشكيل عبر مفردات متنافرة تاريخياً ، منسجمة جمالياً ، ومن هنا نراه عندما يعود لتصميم العمارة لاحقاً يعتمد الجوامع والأزقة كخلفية بغدادية لأعماله .. الجوامع والأزقة ـ الدين والحياة الشعبية . الجامع كمكان للعبادة والبيت كمكان للألفة والهناءة والسكن ، ومعهما بنية الزقاق الذي تتجاور في أعلاه البيوت ، بمثل هذا التكوين الجمالي الفائز بالشعبية والتجريدية معاً ، يستخلص تكويناً جمالياً لبيت عراقي عام وليس لبيت عراقي خاص .
لم يقف تصور الجادرجي عند بناء جزئيات بيت ، محل ، عمارة ، سوق ، فالتعامل مع تلك يجعل المعماري مشتغل جزئياً وخاصاً ، وقد يكون متميزاً ، وإنما هو مدخل للتعامل مع بنية أجتماعية أشمل ، هو هدف أي معماري يمتلك نظرة تقدمية ، وهذا ما فعله الجادرجي عندما زاوج بين مفهومي : العراق لابد وأن يتطور ، والعمارة لابد وأن تتطور ؛ أيضاً لا تكون بنية العمارة الجديدة إلا من خلال بنية المجتمع الجديد لكن هذا المفهوم الكلي والشامل نراه يصطدم بتقلبات سياسية ومعمارية متخلفة ، تؤدي بالتالي إلى التهديم ؛ إنه يعيد تركيب المفاهيم ومن خلال هذه المصاهرة المعمارية الفنية ينهض المعماري ليس برؤيته لمفهوم التطور ، وإنما ليجعل من المشاريع الشخصية والمحددة كياناً معمارياً ، رؤية نقدية أكثر دقة من تلك التي تعتمد مقولات نقدية تشكيلية بحتة . من هنا جاء أهتمامه المتزايد بالحاجة النفعية ، أي تلك الحاجة التي تتوالد من العلاقة بين الانسان والطبيعة ، وبما أن الفن بوجه عام والفن المعماري خاصة لا يتطور خارج الاطارالنفعي فإنه يمثل الموقف اللانفعي ، وهو الموقف الجمالي الخالص حسب تعبير هيجل .
ويتطلع الجادرجي إلى البيت العراقي تطلعه إلى الوطن ، ويريد من هذا البيت أن يحمل هويته وأن يصبح الساكنون فيه قوماً لهم وجود فاعل ليس من خلال تراثهم فقط ، وإنما من خلال حاضرهم ، ويجعل من البيت وطناً معاصراً . وبالطبع فالجادرجي ليس فيلسوفا يريد تجريد المكان - البيت – من ماضيه ومن صوره المترائية يومياً والمتجددة ، وإنما هو معماري بحس وطني وتراث قومي يمتد عبر العصور وبأفق معاصر، لذلك كان البيت عنده نقطة تحول كبرى في توظيفه للمفهومات المعمارية الحديثة ، وفي الوقت نفسا ليجعل منه أفقا غير مقلد ، لذلك نجده وهو يجوب بآفاق المعرفة المعمارية يقتنص كل مفردة ذات معنى فهي سياحة منهجية واطلالة على العلاقة بين المكان والعمارة . وثمة تصاهر جدلي في عمل الجادرجي بين ما هو حضري وما هو لا حضري ، فكانت النظرة الجدلية التي وظفها في مفهوم البيت البغدادي .
كما أمتلك الزقاق البغدادي ذو التاريخ الطويل عناصر مليئة بالقوة الدافعة ذات بنية حركية سواء ضمن الوحدة الصغيرة البيت أو ضمن الوحدة الكبيرة الزقاق ، وقد عالج الجادرجي هذه الديناميكية في العمارة وهذا الأختلاط بين نموذجين أحدهما وظيفي والآخر نفعي ، أمكنه أن يولد لنا بنية عراقية معاصرة لنمط البيت ، إلا أن هذه البنية كانت غير شعبية وذات تكلفة عالية ، إن نماذج البيوت التي بناها الجادرجي هي لأثرياء بغداد ، بمعنى أنه لم يستطع تطوير مفهوم سكنى شعبي ، وإنما أنصب هدفه على تكوين عمارة حضرية متقدمة تعتمد الموروث الشعبي . فالأزقة وإن أمتلكت خصوصية حركية وفعالية ديناميكية ، إنما كانت تنقل إليها ثلاث خصائص : الأولى أن سكنة هذه الأزقة هم الناس المنحدرون من الريف ولذلك كانت أشياؤهم الخاصة معلنة الى الخارج ، الخصيصة الثانية إن الانسان الشعبي لا يفصل كثيرا وبدون وعي بين المكان المقدس وبين البيت ، فكلاهما بؤرة مكانية للعبادة الأول متجه الى الله والثاني متجه الى الأسرة والذات ، والخصيصة الثالثة للزقاق احتواؤه على نغمة تطورية تتجه إلى المدينة لذلك كانت مفردات البناء من الحجر والطابوق والخشب والحديد ، لكنها تحتوي على بنية داخلية ريفية .. والجادرجي كان يستطلع الأفق المستقبلي من المكونات الشعبية للعمارة ولم يغب عنه كذلك الارث الحضاري والانساني المعاصر ، كل هذه الروافد تداخلت بعضها البعض لتسوغ نظرية جدلية خاصة بتركيبة البيت داخليا وخارجيا ؛ وهو إن ركز جهده البيتي على بغداد لم نجده يعمق هذا الجهد بطرز خاصة في البيوت التي تبنى من الحجر ـ بيوت المنطقة الكردية والموصل ، ولا البيوت التي تبى من الطين والقصب كما في بيوت المنطقة الجنوبية .
والكتاب لا يسرد تاريخ العمارة بالعراق وإنما يشمل ممارسة الكاتب للعمارة وتطبيقاته للتنظير السابق وفي القسم الأول منه يعالج الجادرجي ويقدم فيه الأحداث والمواقف النظرية التي أتصلت بالتصميمات التي أنجزها ما بين 1952 ـ 1978 ، ويحتوى على ثمانية عشر فصلاً .. أما في القسم الثاني يوضح الجادرجي مسائل أخرى ذات صلة بالعمارة وبالتركيبة الاجتماعية والنفسية ، ويحتوى على تسعة فصول ..
كتــــــاب .. جدلية وسببية العمارة
2006
الفائز بجائزة الشيخ زايد ـ مارس 2008
العمارة كما يناقشها الكتاب لا تنفصل عن ثقافة المكان والحضارة التي تمثلها ، بل أنها تتجاوب مع المحيط الاجتماعي بشكل كبير ، ويقدم الجادرجي منظور جديد من خلال الكتاب لمحددات العمارة بين الحاجات النفعية والرمزية والجمالية على المستويات الجماعية والفردية ، وأن الرؤية المعاصرة التي يطرحها في العمارة الحديثة وإن كانت مشبعة بالقيم الجمالية المطعمة بالعناصر التراثية ، إلا أنها تقوم بدورها الوظيفي البحت الذي يقوم على حسابات هندسية دقيقة. ولابد من قراءة مزدوجة لكتاب رفعة الجادرجي ، قراءة فاحصة لمنجزه المعماري وقراءة معمقه لأدبيات الكتاب ؛ فقد انبنت مقالات الكتاب على مفهوم لبنيوية العمارة ، وهو مفهوم وضع مبادئه الأولية سنة 1950 ، وطورها في مجالاته التنظيرية والتطبيقية وممارستة العمارة ؛ وأصبحت لديه مفهوماته للهيكلية البنيوية وحركتها الجدلية ، كما يصفها هو ، حيث يجد أن لكل ظاهرة سواء أكانت جامدة أم حياتية متحركة ، فكرية أم مادية ، مقومات حاضرة في الوجود وإلا ما وجدت . وكل ظاهرة لا بد من أن تكون في حالة حركة وتغّير مستمر ، سواء كان التغير ملموسا أم محسوساً ، و لذا فهناك علاقات تفاعل وتفعيل بين مقوماتها من خلال مقررات متضادة في سيرورات من التفعيل الجدلي . وهو كذلك في مجمل مباحث الكتاب يرى كيف تتجمع في مجال ظاهرة العمارة مقومات تستقطب عناصرها فتؤلف ثلاثة مقررات : الحاجة الاجتماعية التي تتضمن الحاجة النفعية ، والحاجة الرمزية ، والحاجة الاستطيقية ، وكلها متأصلة في وجود الإنسان ومعيشته ، كما إنها متأصلة في سيكولوجيته القائمة ؛ وفي المقابل هناك مقررات التكنولوجية الاجتماعية التي تتضمن المادة الخام والطاقة المسخرة في تحريك الدورة الإنتاجية . والانسان هو محرك سيرورة هذه الجدلية وهو المستقطب الثالث ، وتحقق هذه المستقطبات تحريك الدورة الإنتاجية .
إن رفعة الجادرجي ينظر دوماً بمنهجية التجريب وحلم المتغير الذي سيتحقق على الأرض يقول إن الجدلية حركة تتضمن مجازفة تصميمية ، لأنها لا تتمتع بمرجعية قائمة ، أو تستند الى تجربة سابقة تقوم عليها مخيلة المعماري ، فيسخرها في سيرورات التجريد والتحديث والابتكار وإنجاب الشكل الجديد . وهو يرى أن العمارة تشكل مقوماً متأصلا في سلوكيات الفرد إزاء البيئة الأجتماعية ، والأساس في تفعيل القدرات الحسية البصرية والوجدانية للفرد في عيشته اليومية ، إضافة إلى وظيفتها كأداة ترضي الحاجة النفعية ؛ إنها أداة فعالة في الحوار العاطفي والوئامي في تكوين العاطفة الجمعية للمجتمع ، و في صياغة همومه عامة .
وهو يرى أن المعماري الحديث من خلال الفصل التجريدي والوصل التكويني المتداخل معه في عمارة محلية محتملة ، يكون قد استحدث رؤية لوظيفة جديدة للعمارة من خلال إرضاء متطلبات حاجات وجدانية لدى المجتمع ، وذلك يتخطى لديه إرضاء متطلبات محددة في جغرافية محددة او خصوصية مكانية مغلقة مثلاً ، فهو يرى تكريس نهج الحداثة على صعيد عالمي يتفاعل مع الخصوصيات المحلية ؛ وبهذا يتحقق إغناء التجربة المحلية بمعطيات أفردتها حركة الحداثة في العمارة العالمية ، وبهذه الطريقة تتحقق لديه محلية متوازية في خصوصيتها مع كل ملمح دولي آخر .. لقد ظهرت العمارة المعاصرة والحديثة في اوروبا محصلة إلى تطور متدرج ، ولذا لا يجد المعمار الاوربي ضرورة لنظرية تقوده ، فقيادته حدسية متأثرة بالعمارة القائمة في البيئة المعمرة ، ولكن لا وجود لهذه البيئة في العالم العربي ، ولذا يجد المعماري العربي نفسه في فراغ معرفي وحسي ، فالبيئة المعمرة في أحسن حالاتها هي عمارة تقليدية فاتها الزمن وتجمد تطورها منذ نشوئها . فالفكر المعماري العربي يحتاج إلى نظرية علمية فنية تقوده في تعامله مع العمارة ؛ فالتعامل مع الحداثة سواء في مجال العمارة أم الفنون أم العلوم يفترض مسبقا حرية التفرد والتفكير ، هذا ما لم يمتلكه الفكر العربي عامة .
معماري وفنان تشكيلي عراقي ولد سنة 1926 في بغداد وحصل على دبلوم الهندسة المعمارية من مدرسة "همرسمث للحرف والفنون" البريطانية سنة 1950 ؛ والمقدس عنده هو حرية الفرد وأنه لا إمام سوى العقل ، وهو معاصر ينظر إلى الماضي في سبيل التطلع للمستقبل ، ومتذوق للموسيقى وللمسرح ومصور فوتوغرافي مبدع .. منهمك في الهم الفلسفي والوجداني ، يدرس العناصر الفلسفية الوجدانية في كتبه ليوثق افكار العمارة وتداعياتها ، مصطدماً بالمعتقد الديني للمجتمع مرة وبالتحرز الأجتماعي وبضيق أفق الفكرة التي تسود المجتمع مرة أخرى ، إنه يرى العمارة محتوى الذات وأفق المجتمع ومنجزاته الحضارية ..
حصل على جائزة أغاخان للعمارة في سنة 1986 ..
وحصد جائزة الشيخ زايد للكتاب عن فئة الفنون عن كتابه ” في سببية وجدلية العمارة ” في سنة 2008 .
الجادرجي عمل منذ تخرجه في مكتب "الاستشاري العراقي" الذي أسسه عام 1952 وتابع نشاطه فيه حتى سنة 1978 ، حين تفرغ للنشاط الأكاديمي ؛ درّس كأستاذ زائر بجامعة هارفارد 1984ـ1992، وأستاذاً زائراً بجامعة لندن1982 ـ 1992. وفي غضون ذلك كان محاضراً في فلسفة الفن والعمارة والأنثروبولجيا وعلم الاجتماع ، سنة 1993 أسس "مركز أبحاث الجادرجي" وتفرّغ للبحث في فلسفة ونظرية العمارة ، سنة 1999 أسس "مؤسسة الجادرجي" بالاشتراك مع نقابة المهندسين في بيروت ورابطة المعماريين .
ألَّف الجادرجي العديد من الكتب حول العمارة ، ومعظم كتاباته تحاول الجمع بين التنظير الفلسفي المعماري وبين الحاجات والشروط البيئية والمحلية التي تحتضن تلك الأطروحات ، فضلاً عن إيلاء التركيبة الاجتماعية العمرانية للعالم العربي أهمية خاصة ؛ منها : “شارع طه وهامرسمث” 1985 ، و"الأخيضر والقصر البلوري" 1991، و“صورة أب” 1991 ، و“حوار في بنيوية الفن والعمارة” 1995 ، و“المسؤولية الاجتماعية لدور المعمار أو المعمار المسؤول” 1999 ، و"مقام الجلوس في بيت عارف آغا" 2001 ، و"في سببية وجدلية العمارة" 2006 ، إضافة إلى "جدار بين ظلمتين" 2008 .
وتتحدد الرؤية الفلسفية للجادرجي من خلال ممارسته المهنية وكتاباته التنظيرية في العمارة فيقول : " كان أهتمامي منصباً على إيجاد أسلوب ملائم لمعمار عربي معاصر ، وكانت نقطة الانطلاق هي اعتماد الحوار المستمر بين المعماريين والرسامين والنحاتين والمفكرين العرب . وكان السؤال عما إذا كان من الضرورة أن يظل الفن المعماري عندنا عرضة للأفكار الغربية الأوروبية أم أن عليه أن يتأثر بالبيئة المحلية والتقاليد الطبيعية والمواد المتوافرة . وبالنسبة لي فقد بدأت أتعلم من المعمار التقليدي وأحاول أن أتوصل إلى المواءمة ما بين الأشكال التقليدية والحضور الحتمي للتكنولوجيا الحديثة . كان هدفي ينحصر في خلق معمار ينسجم مع الواقع المكاني الذي يشيّد فيه ، وأن لا يسمح بالتضحية بشيء جوهري لصالح الإمكانيات التكنولوجية الحديثة . وفي الوقت نفسه كنت مهتماً بفهم وتحليل التفكير القائم في الطرق التقليدية للسيطرة الطبيعية "... ويقول : " إن أهتمامي الحالي ينصب على الرغبة في تطوير أكثر للنزعة التجريدية في الأشكال التقليدية المحلية والقومية وقيمها الجمالية بمعزل عن المفهوم الإنشائي " . ويرى الجادرجي أن هناك علاقة بين التنظير والممارسة ، وعلى المعماري أن يسخر التنظير في التصميم ، لأن رؤيتنا لأي شيء تحصل عن طريق المعرفة السابقة وليس مجرداً منها .. فدون تنظيرلاعلاقة تفاعلية بين المتلقي والمعماري تصبح العمارة رتيبة وسقيمة إذا لم تعتمد على فهم المكان والزمان والإطار البيئي والجغرافي . والممارسة عنده تفاعل بين الفكر والمطلب الاجتماعي منذ بدايته سنة 1952 وتأسيسه نظرية " جدلية العمارة " التي شكلت القاعدة إلى التنظيم في العمارة .
نظريــــــــــة جدلية العمارة ..
أطروحة الجادرجي التي كتبها سنة 1951 ، ونقحها سنة 1958 ، ونشرها في كتابه " شارع طه وهامرسمث " سنة 1985 ، وكانت المانفستو المهني والفلسفي ، التظيري والتطبيقي للمعماري على مدى حياته وممارسته وإنتاجه المعماري وكتبه ..
مقدمة ..
إن تاريخ العمارة في جوهرة هو تاريخ التناقض بين المطلب الأجتماعي والمرحلة التقنية لتلك المرحلة . فالعمارة هي العلم الذي يتناول حاجة إنسانية معينة ، إنه العلم الذي يتناول الأيواء والتحويط بشكل أو بآخر ، لحاجات يكيفها المجتمع ، بعبارة أخرى العمارة كقيمة مادية هي جزء من القاعدة ، جزء من الأنتاج . إضافة إلى ذلك ، فإنها العلم الذي يتناول أفكار البنية الفوقية بصياغتها في شكل مخصوص ؛ وهذا الشكل يعكس ويتخذ دوراً فعالاً في صياغة أفكار القاعدة الاجتماعية ؛ أي أن العمارة كفكرة هي أحد عوامل البنية الفوقية . لهذا فمن الواضح أن للعمارة جانبين : الأول أنها قيمة مادية ولذا فإن أنتاجها ، أي البناء ، يجب أعتباره كجزء من الأنتاج العام ، والآخر أنها فكرة ولذا فإن إنتاجها يجب أعتباره كجزء من البنية الفوقية . فإذا حصل تجاهل لأي من هذين الأتجاهين أو لم نوف قيمتها الأجتماعية كاملاً ، فإن نظرية العمارة تضحى آحادية الجانب ومغالية ، وهذان الجانبان هما وجهان لنفس الظاهرة الأجتماعية ، العمــــــارة .
المطلب الأجتماعي في العمارة ..
قد تكون المطالب الأجتماعية هي أفكار البنية الفوقية التي تحتاج إلى نشر بواسطة العمارة ؛ وأن تكون هي المتطلبات المادية ، أي التحقيق المادي للعلاقات الأجتماعية بصيغة العمارة ، بمعنى العلاقة بين انسان وانسان ؛ إن الملوك ما عاشوا قط في ظل ظروف معمارية مشابهة لظروف عبيدهم ، ولا عاش الفلاح في ظل ظروف معمارية مشابهة لظروف الصانع في المدينة .. كذلك العلاقة بين الأنسان والطبيعة ، فعمارة ساحل البحر ليست متماثلة مع عمارة الريف ، ولا عمارة القرية متماثلة مع عمارة المدينة ، ومناطق الغابات تنتج عمارة مختلفة عما تنتجه المناطق الحجرية أو البركانية .. كل واحدة من هذه تتطلب من الانسان ظرفاً معمارياً مختلفاً ؛ بعبارة أخرى فإن للمطلب الأجتماعي في العمارة جانبين : الجانب العقائدي والجانب المادي ، والأول يتكيف من قبل البنية الفوقية لمرحلتها ، والتي تشتمل على أفكار ومخيلة تلك الحقبة ، والثاني يتكيف بقاعدة المرحلة ومتطلبات الأنتاج فيها .
التقنيــة في العمارة ..
لا يكفي أن نسأل لماذا أنتجت عمارة ما ، بل المهم كيف أنتجت ؟ ، ذلك أنه بالنتيجة لا يتحدد المطلب الأجتماعي في العمارة لوحده بمرحلة تطور الأنتاج عموماً ، بل تتحدد كذلك ، وعلى الأخص ، الوسيلة التي بها أمكن تحقيق المتطلبات للمطلب الأجتماعي ليبلغ أقصى غايته في تلك المرحلة المعينة . فإننا إذا أخذنا بنظر الأعتبار المطلب الأجتماعي ، أي متطلباته العقائدية والمادية معاً ، وتجاهلنا التقنية المطلوبة التي تحققه في البعد والموضع والسرعة ودقة العمل ، فإن دراستنا ستكون أحادية الجانب . إن المطلب الأجتماعي في العمارة هو أحد القطبين ، والقطب المواجه له هو القوى الأنتاجية لتلك المرحلة ـ الناس ، مهارتهم ، ووسائل الأنتاج ـ كلما حدث تناقض بين قطب وآخر .
التناقض الجدلي في العمارة ..
ثمة مفهومان أساسيان للتطور ، الأول المفهوم الميكانيكي الذي يعتبر التطور بمثابة زيادة بسيطة ، تكرار بسيط ، وتراكم ومزج للأشياء الموجودة سلفاً ، لذا فإن هذا المفهوم غير قادر على تفسير نشوء الجديد من القديم ، كيفية وسبب مجئ عملية ما لحيز الوجود ، كيفية تطور التغيير الكمي إلى تغيير نوعي وبالنهاية فإنه سيطلب العون من شئ خارجي ، عن العمليات المادية الفعلية ، ولذا فإنه بشكل أو بآخر يدخل الظاهرة غير المرئية في عمليات تطور المادة .. والثاني المفهوم المادي الجدلي ، المفهوم الذي ينطلق من وجهة نظر تفيد بأن كل شئ يتطور بواسطة نزاع بين أضداده بواسطة فصل ، أنقسام ، لكل وحدة إلى أضداد قائمة بذاتها بشكل متبادل ... إنه يقتضي التغلغل في أعماق عملية مخصوصة ، والكشف عن القوانين الداخلية التي هي مسئولة عن تطور تلك العملية ، هذا المفهوم يبتغي اسباب التطور ليس خارج العملية ، بل بباطانها ذاتها ، إنه ينبغي أساساً الكشف عن مصدر الحركة الذاتية للعملية .. لذا فلا يكفي أكتشاف التناقض الأساسي في العمارة ، بين المطلب الأجتماعي والمرحلة التقنينية ، كما أن من المهم على السواء أكتشاف التناقض الباطني للتناقضات الخاصة والعامة لا بل أكثر ، فمن بين مئات التناقضات الخاصة يجب تشحيص التناقض الرئيسي الأساسي والجوهري ، وكل تناقض خاص يجب تصنيفه حسب الدور الذي يتخذه في الظاهرة موضوع الفحص . وليس كل وحدة تحوي لذاتها أضداد قطبية ، بل أن هذه الأضداد مترابطة بصورة متبادلة بعضها ببعض ، إن جانباً واحداً من تناقض لا يمكنه البقاء بدون الآخر ... ليس ثمة عمل ميكانيكي بدون فعله المقابل ، إن الأنحلال الكيمياوي للذرات مرتبط بشكل لا ينفصم مع أتحادها ، والطاقة الكهربائية تفصح عن نفسها على شكل كهربائية كتقابلة ـ إيجابية وسلبية . وإن التجوال الأجتماعي ، تجوال الانسان داخل التحويط لبناية ما لا يمكن أن يتحقق في العمارة بدون سبق وجود التحويط أو المنشأ ، والعكس بالعكس ، فإن المنشأ ، الجانب الآخر من التناقض لايمكن أن يوجد بدون المطلب الأجتماعي ؛ إن المنشأ والتجوال الأجتماعي هما ضدان وفي توحدهما ونزاعهما تعثر على مصدر وجودهما وفنائهما ..
إن جدلية العمارة تظهر نفسها على النحو التالي :
• الموضع الطبيعي لبناية ما يقرره المطلب الأجتماعي ، بتناقضه مع التقنية . وهذا التناقض له جانبان ..
o إن المطلب الأجتماعي لبناية ما يقرره موضعها الأجتماعي ـ الجغرافي ، كقربها من نهر أو قرب وقوعها على جبل ...الخ من جهة ، أو في مدينة أو قرية من جهة أخرى ، هذا الجانب يقرر توفر مواد البناء كالطين والحجر والخشب ... الخ ويقرر العلاقة الأجتماعية بين بناية وأخرى ، بأعتبارها قطباً مضاداً تنتفع من هذه المواد الموجودة ، فتتقدم البناية المعينة وفق موضعها.
o الطبيعة الخاصة لموقع البناية : الطين الرمل الحجر ... الخ ، والتقنية تحل مسألة الموقع لتلك البناية في موضعها ذاك المخصوص .
• التجوال الأجتماعي ، أي حركة الناس المشروطة أجتماعياً ، وذلك من ناحية علاقة الانسان بالطبيعة وعلاقة الانسان بالانسان معاً ، هو في بناية ما ، القطب المضاد للتقنية في حل متطلبات هذا التجوال : نمط مختلف من التحويط مثلاً يكون مطلوباً لمعمل دون البيت ؛ في البيت الانسان مشروط بعلاقة الانسان بالانسان وعلاقة الانسان بالطبيعة ، كقطب مضاد للتحويط الممكن تقنياً ، هذا التناقض يقرر حجم وعدد الغرف ... الخ في البيت ، هذا هو تناقض التجوال الأنساني ، كضد ، للمنشأ الممكن تقنياً .
• علاقة النوافذ الضرورية أجتماعياً ، الناحية الصحية ، الناحية العقائدية والمادية في تناقض مع التقنية المطلوبة لأشباع هذه الحاجات . إن التطور التقني للنافذة القوطية ، مثلاً ، قد حتمته أجتماعياً مفاهيم صحية أفضل وأمن أجتماعي أكبر ، وأستعمال النافذة لأغراض عقائدية ( أي الزجاج الملون ) .
• إن الحاجة العقائدية الضرورية إجتماعياً في تناقض مع التقنية ـ هذا التناقض لا يشترط فقط التجوال الفعلي العام ، أو مفهوم الحيز للحقبة الزمنية ... بل ينطوي كذلك على النشر المباشر لأفكار الحقبة ، مثل النحت والزجاج الملون والأعمدة المذهبة والتيجان والزخارف عامة ...
• الأشكال القائمة سلفاً بالتناقض مع أنتاج شكل جديد ، أي الشكل القائم سلفاً ، أستيعاب وأستعارة الأشكال بالتناقض مع التقنية ، والعكس بالعكس ، التقنية القديمة القائمة مع أنتاج أشكال جديدة ، وأشكال مستوعبة أو مستعارة كما يقتضيه عامل المحتوى . إن أستمرارية الأشكال أو أستعارة الأشكال القديمة المطلوبة من قبل المحتوى ، المطالب المادية والعقائدية معاً للقاعدة والبنية الفوقية للمجتمع ـ كنتيجة إما لتخلف أفكار قديمة أو التزامل مع أفكار قديمة أو مؤسسات وعادات أجتماعية قديمة ـ تناقض مع الظروف التي تتطلبها التقنية الجديدة في إنتاج شكل جديد . إن الطرائق القديمة للتقنية ، بمعنى كونها عاملاً في أنتاج الشكل ، تتناقض مع المتطلبات الجديدة للمحتوى المتولد حديثاً والبنية الفوقية أيضاً في انتاج شكل جديد .
كتــــــاب .. شارع طه وهامرسمث
بحث في جدلية العمارة
1985
يستهل رفعة الجادرجي كتابه بأنه نواة فكرية ورواية لتطلعات تجمعت بمرور الزمن ـ ممارسة وتجربة وخبرة ـ حتى باتت أشبه شئ بمدرسة لها قواعدها وتأثيراتها داخل العراق وخارجه . غير أن الكتاب ليس تاريخاً لهذه الحركة أو المدرسة ، بل هو محاولة لتدوين سيرة معمارية كما أدركها الكاتب نفسه مع حلفايتها التي عايشها . لم تكن العمارة بالنسبة له مهمة فحسب ، بل كانت أسلوب معيشة ، لذا كان الكتاب عرض ذكريات عن فكره ، وذكريات عن خلق الفكرة أو النظرية ونموها وتطورها ، حتي بدت فلسفة مهيمنة على ممارسته ، يقتبس منه ويستشهد بها ؛ حاول الجادرجي هنا تحليل الظواهر المعمارية بموجب نظرية المادية الجدلية ، فقال أن المحتوى المعماري ما هو إلا الوظيفة المعمارية سواء الوظيفة النفعية بشتى فروعها أو الوظيفة العاطفية بما في ذلك النواحي الأستاتيكية والتعبدية والسياسية ، بل وحتى المزاج القومي والوطني والدور التاريخي الذي يمر به المجتمع .. أما الشكل فهو ذلك التكوين الهندسي الذي يظهرلنا هذا المحتوى ويعتمد عليه ويكمن فيه ؛ فإذا أردنا عمارة جيدة فعلينا أن نأتي بمحتوى جيد ، وبما أن الشكل هو تحصيل حاصل للمحتوى فإنه يصبح بالتبعبة وبصورة تلقائية جيداً .
ويخلص الجادرجي في تنظيره أن المحتوى هو ذلك المطلب الأجتماعي الذي يتكون من مكونات عديدة بما في ذلك الوظيفة والتقنية ، وهذه تتشابك وتتفاعل إلى أن تصبح مطلباً . وبهذا المفهوم يصبح تقييم العمارة عبارة عن أداة لفهمها وليس مجرد أداة سياسية بعد إستيعاب العلاقة و بين المحتوى والشكل بنظرة موضوعية . والمسألة إذن هي مطلب يتفاعل مع أسلوب أنتاجي فتكون الحصيلة ظهور شكل ، أو بعبارة أخرى عند تبلور متطلبات ثانوية وظيفية متعددة النفعية منها والعاطفية في كيان موحد ودخول هذا المطلب الموجد في تفاعل مع الأسلوب الأنتاجي يتولد في نهاية هذه العملية التحويلية شئ جديد هو الشكل ؛ جديد لأنه غير مطابق مع مكونات المطلب وغير متطابق مع أسلوب الأنتاج .. وبتولد شئ جديد نكون قد حصلنا على تحويل نوعي ن ولا تحويل نوعي دون أن يتم تفاعل متبادل جدلي . ويعرف الجادرجي نظريته في جدلية الشكل : " الشكل هو الحصيلة المادية لتفاعل جدلي متبادل بين مطلي أجتماعي متمثل بفكرة من جهة ، ومن جهة أخرى التقنية المعاصرة له متمثلة بعناصرها الفكرية والمادية والذاتية الخاصة .. " . وهكذا إذا نظرنا إلى العمارة نجد أن وجودها وتطورها وتنوعها يخضع لهذه السُنة في التناقض والتفاعل ، ثم التحول النوعي ، وذلك بين القطب الأول المتمثل في المطلب الأجتماعي وبين القطب الثاني المتمثل بالأساليب التقنية ، وحصيلة هذه العملية تظهر لنا ، لأحساسنا في مضمار الشكل على صورة عمارة .
ويشمل الكتاب ممارسة رؤية الكاتب ونظريته حول جدلية العمارة ، ويحتوى الكتاب على خمسة فصول تبدأ بعرض لبدايات الرحلة والبحث ما بين الشرق والغرب ، ثم طرح للمانفستو وتوطئة أطروحة النظرية ، وتفصيل البحث نحو جدلية العمارة كما طرحها حينها سنة 1950 ..
كتــــاب .. الأخيضر والقصر البلوري
1991
كان السجن الفرصه المتاحة لرفعة الجادرجي ليكتب كتابه الأخيضر والقصر البلوري هذا ما نوه عنه في المقدمة ، والكتاب يفصح عن بنية عقلية جدلية تجعل من مجال العمارة مدخلاً لدراسة المجتمع وتركيبته الأجتماعية والنفسية وكأنه جعل من السجن مكاناً لاستعادة وتجميع الذاكرة وإنهاضاً لما هو يومي في عمله وتحويله إلى لغة حسية ثقافية فكانت الكتابة تحرراً للذاكرة وللجسد معاً ، وهنا كان الأشتغال بالعمارة مدخلاً لرؤية التحولات السيكولوجية للسلطات وللناس معاً ، وحاول عبر خبرات البنائين والنجارين والفلاحين أن يولف طريقة فنية تجتمع فيها الخبرة الآنية لهؤلاء مع خبرة الماضي في بنية الشكل المكاني للعمارة أو لأجزاء من تراكبيها المعقدة . والكتاب نفسه أحد أهم الشواهد المعمارية في فن التجربة المهنية العملية ، وكأنه يقول ضمناً إن التاريخ الحقيقي لمكونات المجتمع لا يكتب إلا من خلال الخبرة الميدانية في أنشطته العملية ، وقاريء الكتاب يشعر أن ما يعنيه بالنظرية الجدلية للعمارة ليست إلا الرؤية الميدانية المشغولة بالتطبيق ، مع الأنتباه العميق لحركة المجتمع وهو ينمو في أتجاهات مختلفة دون أن يلغي كلية فعل التأثر بالتيارات الحديثة في العمارة الأوروبية مع محاولة نقد منهجي للموروث في أشكال العمارة التراثية وأخذ الجانب العلمي والمتقدم منه وأخضاعه تقنياً إلى السياق المعماري الحديث .
إن نظرية جدلية العمارة التي تحولت للمجال التطبيقي كما ظهرت بالكتاب تفصح عن رؤية فكرية أشمل ، تلك التي تتعلق بالجانب الإقتصادي ، فالمعماري الحديث إذ يستفيد من بنية البيئة مناخياً وجغرافياً وأداتياً ، إنما يحاول أن يجعل من هذه المواد الخام أرضية يشيد من خلالها وفوقها تكوينات معمارية جمالية ونفعية معاً ، ومستطلع إنجازات الجادرجي يجدها قد أستنطقت المكونات المحلية إلى الحد الذي بدت خصوصيته في هذا الإنجاز أو ذاك هي الهوية الفنية والفكرية له . وهذه الميزة الثقافية الكبيرة واحدة من تحويل فعل العمارة إلى رافد ثقافي كبير ، ليس على مستوى الشكل وجماليات البناء ، وإنما في أستخدام المادة الخام وفي وضع المفهومات والآراء الشخصية موضع تطبيق يوازن به بين الدراسة والخبرة المعملية المحلية .
في الكتاب الكثير من الموضوعات التي تستحق وقفات تأمل ، منها مفهومه للبيت البغدادي وعلاقة هذا المفهوم بالموروث ، ومن ثم نقل أهم مكوناته الى البيت المعاصر ، وهذا ما دفعه لأن يعمل توازناً هندسياً وجمالياً بين باطن الدار بوصفه موروثاً للباحة القديمة ، كجزء من بناء ديني يرتبط بالجنة والنار ، وبين خارج الدار ، بوصفه تكويناً جمالياً ، وجعل من خلال هذا التوازن المنهجي مفهوم أجتماعي ينمو في باطن الدار كما ينمو في خارجها ، ولعل هذه الظاهرة الجدلية في التوازن بين موقعين آتية إليه من المحاورة السياسية والفكرية التي كانت تضع مجمل أفكارها حيز التطبيق ، ثم إضفاء الطابع الذاتي على كل ذلك من خلال خطوط جديدة التي يتطلبها تصميم جديد . ويستمر البيت حضوراً وفاعلية مع الجادرجي فالبيت البغدادي كوحدة معمارية كان أشبه بالقيمة المركزية والبؤرة المعمارية التي أدخلها كلها أو أجزاء منها في أي تشكيل أو تصميم معماري ، فعندما اكتشف الرؤية الجديدة الخاصة به في بناء الجامع ، توصل الى موقف يوحد بين العملي الواقعي والفني الجمالي ؛ وهنا بدأت خطواته في الابتعاد عن المؤثر الأجنبي والدخول للتراث من خلال فن التجريد أي الدمج بين ما هو محلي وعالمي ، وجمعهما في إطار تراكمي غير محسوس ينم عن معرفة جمالية بالتشكيل عبر مفردات متنافرة تاريخياً ، منسجمة جمالياً ، ومن هنا نراه عندما يعود لتصميم العمارة لاحقاً يعتمد الجوامع والأزقة كخلفية بغدادية لأعماله .. الجوامع والأزقة ـ الدين والحياة الشعبية . الجامع كمكان للعبادة والبيت كمكان للألفة والهناءة والسكن ، ومعهما بنية الزقاق الذي تتجاور في أعلاه البيوت ، بمثل هذا التكوين الجمالي الفائز بالشعبية والتجريدية معاً ، يستخلص تكويناً جمالياً لبيت عراقي عام وليس لبيت عراقي خاص .
لم يقف تصور الجادرجي عند بناء جزئيات بيت ، محل ، عمارة ، سوق ، فالتعامل مع تلك يجعل المعماري مشتغل جزئياً وخاصاً ، وقد يكون متميزاً ، وإنما هو مدخل للتعامل مع بنية أجتماعية أشمل ، هو هدف أي معماري يمتلك نظرة تقدمية ، وهذا ما فعله الجادرجي عندما زاوج بين مفهومي : العراق لابد وأن يتطور ، والعمارة لابد وأن تتطور ؛ أيضاً لا تكون بنية العمارة الجديدة إلا من خلال بنية المجتمع الجديد لكن هذا المفهوم الكلي والشامل نراه يصطدم بتقلبات سياسية ومعمارية متخلفة ، تؤدي بالتالي إلى التهديم ؛ إنه يعيد تركيب المفاهيم ومن خلال هذه المصاهرة المعمارية الفنية ينهض المعماري ليس برؤيته لمفهوم التطور ، وإنما ليجعل من المشاريع الشخصية والمحددة كياناً معمارياً ، رؤية نقدية أكثر دقة من تلك التي تعتمد مقولات نقدية تشكيلية بحتة . من هنا جاء أهتمامه المتزايد بالحاجة النفعية ، أي تلك الحاجة التي تتوالد من العلاقة بين الانسان والطبيعة ، وبما أن الفن بوجه عام والفن المعماري خاصة لا يتطور خارج الاطارالنفعي فإنه يمثل الموقف اللانفعي ، وهو الموقف الجمالي الخالص حسب تعبير هيجل .
ويتطلع الجادرجي إلى البيت العراقي تطلعه إلى الوطن ، ويريد من هذا البيت أن يحمل هويته وأن يصبح الساكنون فيه قوماً لهم وجود فاعل ليس من خلال تراثهم فقط ، وإنما من خلال حاضرهم ، ويجعل من البيت وطناً معاصراً . وبالطبع فالجادرجي ليس فيلسوفا يريد تجريد المكان - البيت – من ماضيه ومن صوره المترائية يومياً والمتجددة ، وإنما هو معماري بحس وطني وتراث قومي يمتد عبر العصور وبأفق معاصر، لذلك كان البيت عنده نقطة تحول كبرى في توظيفه للمفهومات المعمارية الحديثة ، وفي الوقت نفسا ليجعل منه أفقا غير مقلد ، لذلك نجده وهو يجوب بآفاق المعرفة المعمارية يقتنص كل مفردة ذات معنى فهي سياحة منهجية واطلالة على العلاقة بين المكان والعمارة . وثمة تصاهر جدلي في عمل الجادرجي بين ما هو حضري وما هو لا حضري ، فكانت النظرة الجدلية التي وظفها في مفهوم البيت البغدادي .
كما أمتلك الزقاق البغدادي ذو التاريخ الطويل عناصر مليئة بالقوة الدافعة ذات بنية حركية سواء ضمن الوحدة الصغيرة البيت أو ضمن الوحدة الكبيرة الزقاق ، وقد عالج الجادرجي هذه الديناميكية في العمارة وهذا الأختلاط بين نموذجين أحدهما وظيفي والآخر نفعي ، أمكنه أن يولد لنا بنية عراقية معاصرة لنمط البيت ، إلا أن هذه البنية كانت غير شعبية وذات تكلفة عالية ، إن نماذج البيوت التي بناها الجادرجي هي لأثرياء بغداد ، بمعنى أنه لم يستطع تطوير مفهوم سكنى شعبي ، وإنما أنصب هدفه على تكوين عمارة حضرية متقدمة تعتمد الموروث الشعبي . فالأزقة وإن أمتلكت خصوصية حركية وفعالية ديناميكية ، إنما كانت تنقل إليها ثلاث خصائص : الأولى أن سكنة هذه الأزقة هم الناس المنحدرون من الريف ولذلك كانت أشياؤهم الخاصة معلنة الى الخارج ، الخصيصة الثانية إن الانسان الشعبي لا يفصل كثيرا وبدون وعي بين المكان المقدس وبين البيت ، فكلاهما بؤرة مكانية للعبادة الأول متجه الى الله والثاني متجه الى الأسرة والذات ، والخصيصة الثالثة للزقاق احتواؤه على نغمة تطورية تتجه إلى المدينة لذلك كانت مفردات البناء من الحجر والطابوق والخشب والحديد ، لكنها تحتوي على بنية داخلية ريفية .. والجادرجي كان يستطلع الأفق المستقبلي من المكونات الشعبية للعمارة ولم يغب عنه كذلك الارث الحضاري والانساني المعاصر ، كل هذه الروافد تداخلت بعضها البعض لتسوغ نظرية جدلية خاصة بتركيبة البيت داخليا وخارجيا ؛ وهو إن ركز جهده البيتي على بغداد لم نجده يعمق هذا الجهد بطرز خاصة في البيوت التي تبنى من الحجر ـ بيوت المنطقة الكردية والموصل ، ولا البيوت التي تبى من الطين والقصب كما في بيوت المنطقة الجنوبية .
والكتاب لا يسرد تاريخ العمارة بالعراق وإنما يشمل ممارسة الكاتب للعمارة وتطبيقاته للتنظير السابق وفي القسم الأول منه يعالج الجادرجي ويقدم فيه الأحداث والمواقف النظرية التي أتصلت بالتصميمات التي أنجزها ما بين 1952 ـ 1978 ، ويحتوى على ثمانية عشر فصلاً .. أما في القسم الثاني يوضح الجادرجي مسائل أخرى ذات صلة بالعمارة وبالتركيبة الاجتماعية والنفسية ، ويحتوى على تسعة فصول ..
كتــــــاب .. جدلية وسببية العمارة
2006
الفائز بجائزة الشيخ زايد ـ مارس 2008
العمارة كما يناقشها الكتاب لا تنفصل عن ثقافة المكان والحضارة التي تمثلها ، بل أنها تتجاوب مع المحيط الاجتماعي بشكل كبير ، ويقدم الجادرجي منظور جديد من خلال الكتاب لمحددات العمارة بين الحاجات النفعية والرمزية والجمالية على المستويات الجماعية والفردية ، وأن الرؤية المعاصرة التي يطرحها في العمارة الحديثة وإن كانت مشبعة بالقيم الجمالية المطعمة بالعناصر التراثية ، إلا أنها تقوم بدورها الوظيفي البحت الذي يقوم على حسابات هندسية دقيقة. ولابد من قراءة مزدوجة لكتاب رفعة الجادرجي ، قراءة فاحصة لمنجزه المعماري وقراءة معمقه لأدبيات الكتاب ؛ فقد انبنت مقالات الكتاب على مفهوم لبنيوية العمارة ، وهو مفهوم وضع مبادئه الأولية سنة 1950 ، وطورها في مجالاته التنظيرية والتطبيقية وممارستة العمارة ؛ وأصبحت لديه مفهوماته للهيكلية البنيوية وحركتها الجدلية ، كما يصفها هو ، حيث يجد أن لكل ظاهرة سواء أكانت جامدة أم حياتية متحركة ، فكرية أم مادية ، مقومات حاضرة في الوجود وإلا ما وجدت . وكل ظاهرة لا بد من أن تكون في حالة حركة وتغّير مستمر ، سواء كان التغير ملموسا أم محسوساً ، و لذا فهناك علاقات تفاعل وتفعيل بين مقوماتها من خلال مقررات متضادة في سيرورات من التفعيل الجدلي . وهو كذلك في مجمل مباحث الكتاب يرى كيف تتجمع في مجال ظاهرة العمارة مقومات تستقطب عناصرها فتؤلف ثلاثة مقررات : الحاجة الاجتماعية التي تتضمن الحاجة النفعية ، والحاجة الرمزية ، والحاجة الاستطيقية ، وكلها متأصلة في وجود الإنسان ومعيشته ، كما إنها متأصلة في سيكولوجيته القائمة ؛ وفي المقابل هناك مقررات التكنولوجية الاجتماعية التي تتضمن المادة الخام والطاقة المسخرة في تحريك الدورة الإنتاجية . والانسان هو محرك سيرورة هذه الجدلية وهو المستقطب الثالث ، وتحقق هذه المستقطبات تحريك الدورة الإنتاجية .
إن رفعة الجادرجي ينظر دوماً بمنهجية التجريب وحلم المتغير الذي سيتحقق على الأرض يقول إن الجدلية حركة تتضمن مجازفة تصميمية ، لأنها لا تتمتع بمرجعية قائمة ، أو تستند الى تجربة سابقة تقوم عليها مخيلة المعماري ، فيسخرها في سيرورات التجريد والتحديث والابتكار وإنجاب الشكل الجديد . وهو يرى أن العمارة تشكل مقوماً متأصلا في سلوكيات الفرد إزاء البيئة الأجتماعية ، والأساس في تفعيل القدرات الحسية البصرية والوجدانية للفرد في عيشته اليومية ، إضافة إلى وظيفتها كأداة ترضي الحاجة النفعية ؛ إنها أداة فعالة في الحوار العاطفي والوئامي في تكوين العاطفة الجمعية للمجتمع ، و في صياغة همومه عامة .
وهو يرى أن المعماري الحديث من خلال الفصل التجريدي والوصل التكويني المتداخل معه في عمارة محلية محتملة ، يكون قد استحدث رؤية لوظيفة جديدة للعمارة من خلال إرضاء متطلبات حاجات وجدانية لدى المجتمع ، وذلك يتخطى لديه إرضاء متطلبات محددة في جغرافية محددة او خصوصية مكانية مغلقة مثلاً ، فهو يرى تكريس نهج الحداثة على صعيد عالمي يتفاعل مع الخصوصيات المحلية ؛ وبهذا يتحقق إغناء التجربة المحلية بمعطيات أفردتها حركة الحداثة في العمارة العالمية ، وبهذه الطريقة تتحقق لديه محلية متوازية في خصوصيتها مع كل ملمح دولي آخر .. لقد ظهرت العمارة المعاصرة والحديثة في اوروبا محصلة إلى تطور متدرج ، ولذا لا يجد المعمار الاوربي ضرورة لنظرية تقوده ، فقيادته حدسية متأثرة بالعمارة القائمة في البيئة المعمرة ، ولكن لا وجود لهذه البيئة في العالم العربي ، ولذا يجد المعماري العربي نفسه في فراغ معرفي وحسي ، فالبيئة المعمرة في أحسن حالاتها هي عمارة تقليدية فاتها الزمن وتجمد تطورها منذ نشوئها . فالفكر المعماري العربي يحتاج إلى نظرية علمية فنية تقوده في تعامله مع العمارة ؛ فالتعامل مع الحداثة سواء في مجال العمارة أم الفنون أم العلوم يفترض مسبقا حرية التفرد والتفكير ، هذا ما لم يمتلكه الفكر العربي عامة .
Published on August 23, 2015 01:36
الحراك العمراني في قاهرة القرن التاسع عشر
مقدمة التحولات العمرانية الحادثة لمدينة القاهرة في القرن العشرين
تقديــــــــــم ..
إن الفصل السكني أحد أبرز ملامح البنيوية المجتمعية والعمرانية للقاهرة ، وهو يحمل مغزى العلاقات التوزيعية للطبقات الإجتماعية الثلاثة الغنية والمتوسطة والفقيرة .. بمعنى أن لكل طبقة منطقة .. ولكل منطقة طبقة . والأهم من ذلك أن الفصل السكني هنا كان سلمياً ، بمعنى أن الطبقات تتدرج من منطقة إلى أخرى كما تتدرج في السلم الإجتماعي ؛ وهي صورة متغيرة الملامح والمواقف ، فالحراك الإجتماعي هو جزء متأصل في القاهرة ومعه يكون حراك عمراني من هجرة وأحلال ، فتتغير طبقات المناطق أو مناطق الطبقات في ديناميكية تبدو معقدة إذا نظرنا إليها من منظور الصور الفوتوغرافية الإستاتيكية التي يتجمد فيها وعندها الزمان في لحظة بعينها ، ولكننا نتبين حقيقتها إذا ما نظرنا إليها من منظور الصور السينمائية التي يحكمها تتابع سيناريو الأحداث على مدى زمني وتاريخي مستمر أو متقطع وله إيقاعاته الخاصة به ..
ففي مطلع القرن التاسع عشر كان خط الحسينية ـ باب الشعرية ـ بولاق ، يمثل أقصى حدود أمتداد القاهرة شمالاً ، دون أن يعني هذا أن كل ما إلى الجنوب كان عمراناً كاملاً ومتصلاً ؛ بل كانت هناك فراغات شاسعة تتخلل المنطقة العمرانية المبنية للقاهرة .. وإذا كان محمد علي باشا هو الذي أخترق هذا الحد وتعداه نحو شبرا ، كما كان عباس الأول هو الذي بدأ العباسية عبر الحسينية ، فقد كان إبراهيم باشا هو الذي بدأ الأتجاه غرباً نحو النيل للسكنى ، وتبعه إسماعيل باشا ومن بعده توفيق باشا ، وتوالت التوجهات النخبوية من المجتمع خلفهم .. ولكن تبقى هذه التوجهات العمرانية لأحياء جديدة حينها حبيسة نزعات تلك النخبة السياسة الحاكمة والمتحكمة بالرغم من تأثيراتها على القاهرة وعمرانها ، وظلت الأحياء القديمة خارج توجهات وسياسات التنمية العمرانية للدولة والنخب المجتمعية ، ولكنها تأثرت بشكل غير مباشر نتيجة الحراك العمراني الحادث مع الأحياء الجديدة ، ومن جهة أخرى بقيت المناطق والأحياء الفقيرة مهمشة وخارج تلك المنظومة .. ولم يخرج الحراك العمراني للقاهرة مطلع القرن العشرين عن النسق العام لتحكم النخب المجتمعية والسلطوية ، حتى وإن أختلفت بنية هذه النخب مع ميلاد الحركة الوطنية والليبرالية المصرية ، وهذا يصدق على مختلف نطاقات النمو الحادثة للمدينة .
الحراك العمراني للقاهرة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ..
كان الحراك العمراني ونمو القاهرة خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين متجهاً نحو الشمال ، وكأنه ينفرج من مصر القديمة في الجنوب ليشكل ما يشبه الدلتا العمرانية فيتفرغ إلى فرعين ..
o الأول الشمال الشرقي بمحــاذاة الجبل .. وينتهي بمصر الجديدة وعين شمس ، في إتجاه السويس وجاذبية آسيا والبحر الأحمر مع تنامي المصالح الإنجليزية الأقليمية والدولية من الخارج .
o والثاني الشمالي بمحاذاة النيل .. وينتهي بروض الفرج وشبرا ، في إتجاه الإسكندرية وجاذبية أوروبا والبحر المتوسط مع تغلغل الثقافة الأوربية التي حملها المستشرقون إلى الداخل .
وبين هذين الفرعين برزخ عريض من الأرض الزراعية ، ومن هنا نستطيع أن نرى أن القاهرة ومعها مصر تزحف شمالاً في مواجهة الأطماع الإستعمارية العاتية وتنامي الأستشراق الأوروبي والتبعية الحضارية والثقافية ، ومعها تتأكد الحقيقة كما رصدها جمال حمدان في تقديمه لكتاب القاهرة لديزموند ستيوارت أن نمو عمران القاهرة مندفع نحو الشمال ، وكأنما القاهرة تزحف مع مصر نحو الشمال .. ولكن تتأكد لنا كذلك حقيقة موازية لاتقل مغزى وتأثيراً وهي أن النمو كان متوقفاً نسبياً لدرجة الشلل في الجنوب ، فلم تتعد الفسطاط حدودها المزمنة قرب أثر النبي ، وإذا كانت المعادي وحلوان تمثلان نمواً في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فإنهما تمثلان ضواحي منفصلة عن جسم المدينة ، ولا تنقض ذلك النسق بقدر ما تؤكده . ونخلص أن الحدود الحنوبية لعمران القاهرة كانت تمثل الثوابت الأستاتيكية في حراك المدينة حين تمثل الحدود الشمالية العوامل المتغيرة والديناميكية لهذا الحراك العمراني المتتابع ؛ لكن يجب أن نرى صورة هذا الحراك في إطاره الحقيقي ومنظوره التاريخي المرتبط بالبنية المؤسسية للدولة والتركيبة المجتمعية ..
وهذه الصورة لها وجهان متلازمان ومتقابلان ومتناقضان غالباً على طرفي المنظومة ، متمثلان في ..
o عمران الأحيـــــاء الجديدة للنخب المجتمعية ..
o عمران الأحيـــــاء الفقيرة والمجتمعات المهمشة ..
عمران الأحيـــاء الجديدة للنخب المجتمعية في قاهرة القرن التاسع عشر ..
البنية المجتمعية للأحيــــــاء الجديـدة ..
لا ينفصم العمران عن فكرة الطبوغرافية الإجتماعية وإن لم ترادفه ؛ والطبوغرافية الإجتماعية ـ والمصطلح للمخطط الفرنسي جاستون بارديه ـ هي أساساً التوزيع المكاني للطبقات الإجتماعية على أرضية عمران المدينة .. ولا مفر لنا من أن نميز بين الأحياء السكنية على الأساس الطبقي أقتصادياً وإجتماعياً ، بل إن المسكن كان ومازال هو التعبير المادي عن الطبقة الإجتماعية ، فالمنزل هو المنزلة .. والمكان هو المكانة .. حسب توصيف جمال حمدان ، ويضيف جمال حمدان (1) : غير أن الطبوغرافية الإجتماعية ليست الطبقة وحدها بل والجنسية والطائفة أيضاً ، أي الأقليات عموماً ؛ وهذه لها مكانها في عاصمة كالقاهرة ؛ ولكن من الواضح أن وزن الجنسية والطائفة ثانوي وضئيل للغاية بالقياس إلى الطبقة ، فهي وحدها أهم المتغيرات وأبرز المعالم في الطبوغرافية الإجتماعية لعاصمة قديمة عريقة لشعب موحد متجانس منذ آلاف السنين . ويتكامل مع هذه الفكرة ما ذكره جاك لوك أرنو (2) : إن عملية تقسيم الأراضي تعتبر مؤشراً للبنية الإجتماعية للأحياء الجديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع مشروع إسماعيل باشا للقاهرة ، فالتصنيف الذي تعبر عنه البنية العمرانية والإجتماعية لتلك الأحياء يسمح بإدراك الكيفية التي كان يجمع بها إسماعيل باشا مختلف الملتزمين لتنمية تلك الأراضي حسب مقاماتهم ووضعيتهم المجتمعية .. وقد تميزت تلك الأحياء الجديدة بين سنتي 1867 و 1890 بتقسيمها إلى قطع أراض تكون مساحاتها أكبر مع تباعدها عن المدينة القديمة ؛ فبينما يكون مجموع الأراضي في النسيج القديم موزعاً بين عدة آلاف من الملاك ، فإن الأراضي في الأحياء الجديدة تملكها مجموعة محدودة ، يقدر عددها جان لوك أرنو إنه يقل عن مائة فرد ، ويتأكد هذا التركيز الرأسمالي العمراني والعقاري من خلال توزيع أكبر الملكيات ؛ فكان ما يربو على نصف المساحة الكلية للأراضي يستأثر بها ثمانية عشر مالكاً فقط يحوز كل منهم في المتوسط على 45 ألف متر مربع ، أي أنه كان في وسع مجموعة محدودة تقل عن عشرين مالك أن يتحكموا في تنمية عمران تلك الأحياء .
ومن جهة أخرى مثلت الهوية سمة مميزة للسكان ؛ فالمنطقة الشمالية من حي الإسماعيلية ضمت الرعايا الأجانب ومستخدمي الهيئات القنصلية ( أجانب أو غير أجانب ) ، وهم يستبعدون سكان البلاد الأصليين وأصحاب النشاطات المختلفة .. وتجمع المصريون أقباطاً ومسلمون في أجزاء أخرى من الأحياء الجديدة ، وليس هناك إشارة إلى مهنهم فيما عدا بعض الإستثناءات ، غير أن ألقابهم ـ باشا وبك وأفندي تكشف عن الوضعية المجتمعية لهم . وأمتدت مناطق تجمع السكان جنوباً في باب اللوق والجزيرة الجديدة ، وتكشف الألقاب والوضعية المجتمعية أن ثلثي سكانها موظفون في الدولة من الطبقات المتوسطة ، ولقبا بك وأفندي هما الأكثر تحديداً للبنية السكانية المجتمعية فالبكوات للغرب والآخرون على مقربة من المدينة القديمة .
كما يُبرز التوزيع العام للملاك ونشاطاتهم تفرعاً يتجاوز المعايير الإجتماعية والبنيوية ، والخط الفاصل هنا سياسي ؛ فكانت مهمة القنصليات إدارة مصالح بلادهم في القاهرة وتنمية التجارة المكلفون بها ، وهي مسألة تبرر تحالفهم مع التجار ، وهي ليست سوى إحدى المظاهر العديدة لدورهم الأستشراقي والأستغلالي ، فهم مشغولون بتطبيق نظام الأمتيازات الأجنبية . ويصف نوبار باشا في مذكراته (3) النظام السياسي المصري في نهاية الستينات من القرن التاسع عشر بأنه " جمعية مطالب القنصليات " وهو دلالة معبرة على مدى سلطة الدول الأجنبية .. وفي ظل تلك الأوضاع شكل تحالف التجار مع القنصليات سلطة سياسية حقيقية مضادة تعبر عنها المواجهة بين أحياء المدينة المختلفة ، والتي صنفها المستشرقون إلى نسقين رئيسيين كبيرين .. أحياء المصريين والأحياء الأوروبية ؛ الأولى تنتمي ـ حسب هذا التقسيم الإستشراقي ـ إلى النسيج الحضري القديم للقاهرة والتي نشأت قبل سنة 1865 ، أما الثانية فالتي خططت منذ بداية أعمال إسماعيل باشا ؛ وهذه التقسيمات ملتبسة ومضللة ، والدليل على ذلك أن أكبر نسبة من الأوربيين كانت تسكن الموسكي وحي الفرنجة في المدينة القديمة ، وفي المقابل أن أعداد كبيرة من المصريين سكنت في الأحياء الجديدة الواقعة جنوب باب اللوق أو في الأحياء المستحدثة والمخططة في قلب المدينة القديمة مثل الحلمية . وأستمرت تلك الإزدواجية المصطنعة للفصل بين القديم والجديد حتى في نمط الأنشطة والمواقع المخصصة للمنشآت العامة خاصة بعد سيطرة الأجانب الكاملة على مؤسسات الدولة بالأحتلال الإنجليزي العسكري سنة 1882 ، مع محاولة ترسيخ تواجد نمطين عمرانيين متجاورين يفصلهما حاجز ، أكتسب مظهراً وطنياً ، فكان الحديث عن مدينة محلية وطنية أو عن مدينة أوروبية ونخبوية إستعمارية (4) ؛ كانا هذان النمطان مدفوعان لمواجهة بعضهما البعض على خط تماس ؛ مواجهة وصراع .. حاجز غير مادي ولكنه ممتد من الجنوب إلى الشمال من السيدة زينب وعابدين إلى الأزبكية وباب الحديد ، يتنامي حوله الخلاف وتتوالد عنده وتتنامي النزعات الوطنية المحركة لإرادة التغيير والثورات، مع نمو الطبقة المتوسطة الجديدة ، مسار أمتد عمرانياً مع بداية القرن العشرين لميلاد ضواحي وأحياء جديدة خارج القاهرة هي أمتداد لتلك المناطق العمرانية النخبوية في خروج أو هروب من مواجهة محتومة مع المناطق العمرانية الوطنية ، وهو ما يمثل بعداً أساسياً في الحراك العمراني من خلال الهجرات الداخلية والأحلال المجتمعي للطبقات داخل نسيج المدينة وأحيائها .
وإجمــالاً .. يكشف التوزيع الديموجرافي للأحياء الجديدة عن تنوع وتفاوت البناء المجتمعي الطبقي في أمتداد تصاعدي من الشرق إلى الغرب وبقدر أقل من الجنوب إلى الشمال ، ويجب هنا التفرقة بين الملكية والسكن والأستقرار العمراني ، وأنقسم الملاك إلى مجموعتين : الملاك الصغار ممن يسكنون في قطعة الأرض التي يحوزونها يستندون في إختيارهم لذلك الموقع لمعايير مختلفة عن هؤلاء الملاك المتغيبين ، والدافع الحاسم عند هذا الفريق وحده العصبية حسب التعبير الخلدوني ، سواء عقائدياً أو إجتماعياً أو حتى فئوياً ؛ أما بالنسبة للفريق الثاني فالدافع هو المردود الأقتصادي المادي وليس الإقامة ، وتشكل النخب من الباشوات والبكوات غالباً فريق المنتفعين .. أما الأفندية من الطبقات المتوسطة غير مستبعدين عن أي حي ولاسيما تلك المناطق المحصورة بين النسيجين القديم والمستحدث ، وكأنهم بدورهم المجتمعي لعبوا بالصدفة أو الحتمية نفس الدور المتوسط بين النسيجين العمرانيين للقاهرة حينئذ ، بل هم القلب المتمكن من ضمان حيوية المدينة وحراكها المجتمعي والعمراني المتتابع في عمليات الهجرة والأحلال ، وغابت عن تلك المنظومة المجتمعات والمناطق الأكثر فقراً والمهمشة . أما التركيب العمراني على أساس عقائدي أو ديني أو طائفي لم يمثل فاصل إجتماعي وعمراني حاسم ، ولكن لا يمكن الجزم بغيابه تماماً فعرفت القاهرة حارة اليهود والنصارى وحارة الروم وغيرها ، ولكن من منطلق إجتماعي بحت وليس مبنياً على تمييز ديني كما يريد المستشرقون أن يدعوا به .
الأحياء الجديدة والحراك العمراني في قاهرة القرن التاسع عشر :
عرفت القاهرة خلال القرن التاسع عشر تغييرات جذرية في عمرانها وتشكيل نسيجها ، ولقد بدأت ظواهر هذه التحولات مع الحملة الفرنسية على مصر وأستمرت حتى مطلع القرن العشرين ؛ وتميز القرن التاسع عشر بممارسات وسياسات محمد علي باشا وورثته وتأثرت بها القاهرة وعمرانها ، لاسيما مع هيمنة الفكر الأوروبي للمستشرقين على العمران ، ومن قبله على بنية المجتمع وثقافته ، وعلى هيكلية الدولة وإداراتها .. ومن الأمور المهمة التي أثرت على الحراك العمراني الحادث حينئذ إنتقال مركز السلطة السياسية من القلعة إلى أنحاء أخرى في المدينة وخارجها بما في ذلك سكن وقصور الولاة ، ومعهم الزمرة السياسية والنخبة المجتمعية وبالتالي دواوين الحكومة وثكنات العسكر ، فكان لهذا آثاره المباشرة في أتجاهات النمو جديدة نحو الغرب ( الأزبكية والإسماعيلية وقصر النيل والزمالك ثم البر الغربي والجيزة ) ، وإلى الشمال ( شبرا ) ، وإلى الشمال الشرقي ( العباسية والقبة ثم مصر الجديدة ) ؛ وبشكل محدود إلى الجنوب ( المعادي وحلوان ) . ولقد لعبت تلك القصور داخل وخارج أحياء المدينة والطرق التي شقت لكي توصل إليها أحد الأدوار الرئيسية في تحديد أتجاه النمو والحراك العمراني . ومع النسق العمراني المغاير للأحياء الجديدة الذي أتسم بالنمط الغربي شكلاً ومضموناً ، تغيرت الأنماط الحياتية لطبقات المجتمع ؛ ويرجع بعض المتخصصين ومنهم جانيت أبو اللغد (5) ، أن جذور هذه التغييرات وحالة التغريب كانت مصاحبة لمشروع محمد علي وتوجهاته لأستقطاب النموذج الأوروبي في المؤسسات التعليمية والصناعية وبناء القدرات العسكرية وفتح المجال للمتخصصين والمستشارين من المستشرقين الأوربيين وخاصة للتجربة الفرنسية ؛ وعندها أحتضنت القاهرة العديد من المشروعات وتأسست بها وحولها المؤسسات المعنية مما كان له تأثيره على الحراك العمراني وأتجاهات النمو ، وجعلت النخب السياسية هذا النموذج الفرنسي نسقاً للتنمية والتحضر المنشود ؛ وهنا توالدت ـ كما ترى جانيت أبو اللغد ـ فكرة " القاهرة باريس الشرق " منذ ذلك التاريخ المبكر ، والتي تبلورت وتجسدت لاحقاً مع ولاية إسماعيل في سبعينات القرن . ولم تقف عجلة التحولات ، وتحديداً في العقد الأخير من القرن ، فإننا نلاحظ أن الألتزامات الأولى تقريباً أنتقلت إلى ملاك جدد . ولم يقتصر الأمر على قيام هذا النوع من الملتزمين ببيع أراضيهم ، ولكن أختفي تماماً فريق " التجار ـ المقاولون " وفي سنة 1892 أصبحوا لا يشكلون سوى أقلية بين الملاك العقاريين في الأحياء الجديدة ، والوحيدون ممن أتيحت لهم فرصة تحويل تجارتهم إلى نشاطات مالية هم من أحتفظوا بأراضيهم . ومع ذلك لم تتغير كثيراً الصورة العمرانية العامة ، ولم تتطرأ تحويرات جذرية للبنية المجتمعية ؛ فقد ظلت النخبة الحاكمة متجمعة بمقربة من قصر العيني ، وبقي غالبية الأجانب بحي الإسماعيلية ، ولم تكف نواحي باب اللوق عن إيواء الطبقات المتوسطة ، كما لم تتطرأ تغيرات كبيرة على البنية الإجتماعية وتوزيعاتها بين حواف المدينة القديمة والمنطقة المركزية .
ومن جهة أخرى عرفت القاهرة تعبئة لرؤوس الأموال الخارجية مع الضمانات التي كفلتها الأوضاع الحادثة حينئذ من إفلاس الدولة وإنشاء صندوق الدين والأستيلاء وسيطرت الأوربيين على مقاليد الدولة وتسييرها ، وأكد ذلك تأسيس البنك العقاري المصري في سنة 1880 بالإمكانات التي يوفرها بعيداً عن مناورات الخديو ، ودفعت تلك الحركة للأقتصاد المصري ـ ولو كانت لحساب الأجنبي على حساب المصريين أصحاب الشرعية والحق ـ بأن جعلت من القاهرة ملتقى جذب رؤوس الأموال الأجنبية تحت حماية السيطرة الأوروبية . وإذا كانت مواقع الإنتاج سواء الزراعية أو الصناعية خارج المناطق العمرانية الحضرية إلا أنها كانت تدار إنطلاقاً من نسق مركزية الدولة من القاهرة ، وتجمعت تلك بكثافة في الأزبكية وحي الإسماعيلية وتحولت المنطقة إلى مركز للصفقات يجمع العديد من النشاطات المرتبطة بالتجارة الدولية سواء تعلق ذلك بأستيراد وسائل الإنتاج أو تصدير المنتجات ، وبالنشاطات المصرفية والتعامل مع البورصة .. ونذكر إنه تأسست في مصر بين سنة 1856 و1895 عدد 35 شركة ، بينما بين سنة 1896 و 1899 تأسست 39 شركة جديدة ، ومن سنة 1900 و1905 تأسست 80 شركة . ومن المؤثرات المباشرة على التنمية والحراك العمراني شبكة المواصلات الجديدة التي عرفتها القاهرة خلال نفس الفترة ، ففي سنة 1894 حصل البارون إمبان على أمتياز لإقامة شبكة مواصلات بالترام في القاهرة لإقامة ثمانية خطوط بينها ستة تبدأ من ميدان العتبة الزرقاء ( العتبة الخضراء ) ؛ وتم ربط وسط المدينة ومركزها الجديد بميدان محمد علي عند القلعة وبالقصر العيني ومصر القديمة وبباب اللوق والناصرية وبباب الحديد وبولاق ، والفجالة والعباسية . وتم فيما بعد تمديد الأمتياز سنة 1917 ليشتمل خطوط جديدة إلى روض الفرج وأثر النبي وهليوبوليس وأخرى عند إمبابة والجيزة . ومن جهة أخرى أدى ظهور السيارة سنة 1903 للإسراع لتغيير شبكة شوارع الأحياء الجديدة ؛ وزاد عدد السيارات من 656 سنة 1914 إلى 24136 في سنة 1931 (6) ؛ وظلت شبكة الطرق في الأحياء القديمة عاجزة عن الإنسجام مع تلك المتغيرات الجديدة لوسائل المواصلات . ومع هذا التسارع العمراني شهدت حركة البناء خلال الفترة 1897 ـ 1907 نشاطاً واسعاً وأشتد الطلب على الأراضي مما رفع أثمانها ؛ فقد ذكر أندريه ريمون (7) ، إنه بلغت حركة التشييد ذروتها في 1907 و 1908 إذ بلغ عدد تصاريح البناء 3164 و 4444 على التوالي ، في حين كان عدد هذه التصاريح 1071 سنة 1897 و 843 في سنة 1882 وفي سنة 1907 بلغ عدد عمال البناء في القاهرة 21744 عاملاً من بين 94898 عاملاً في مصر كلها .
كما تجدر الإشارة إنه تزامن مع هذا الزخم أقتحام نوع جديد من المتدخلين لسوق العقارات القاهرية كان له دوره في التغيير وهي شركات خاصة مساهمة ، حيث توصلت في غضون بضع سنوات للتحكم في جزء كبير من تنمية عمران القاهرة . فكانت هناك شركة وحيدة تمتلك أراضي في القاهرة سنة 1892 وهي شركة سوارس وشركاه ؛ وفي بداية القرن العشرين والأخص سنة 1904 تزايد بسرعة عدد الشركات العاملة في مجالي الأراضي والعقارات ؛ بينما كان هناك فقط ست شركات سنة 1900 لا تشكل معاً إلا 10% من الشركات الخاصة ، تضاعف عددها ست مرات بعد ذلك بعشر سنوات ؛ ففي سنة 1910 كان عددها ست وثلاثون تمثل 16% من إجمالي عدد الشركات المساهمة الخاصة .. وبلغ ذلك النمو ذروته في نهاية سنة 1906 ، قبل بضعة شهور فقط من الأزمة التي بدأت خلال الربيع التالي ومع الشهور الأولى من سنة 1907 تأسست ما لايقل عن خمس عشرة منشأة جديدة ؛ حتى أمسى ما يربو من أربعين شركة عقارية تعمل في الوسط الحضري بالقاهرة . وتبقى الحقيقة أن هذا الحراك والنمو لم يواكبه عدالة إجتماعية تعود على المجتمع كله بل إنحصرت الفائدة كاملة في طبقة النخب المجتمعية وطبقة الأجانب الأوربيين ..
ويمكننا استناج أن الحراك العمراني للقاهرة في هذه المرحلة تحكمت فيه عمليتان إيكولوجيتان رئيسيتان .. من الخارج نمو وتوسع نحو الشمال ثم إلى الغرب ، ومن الداخل إعادة توزيع وتغيير لعناصرها وأنسجتها وأعضائها ووظائفها وأستعمالات الأرض ..
هــــــكذا .. لقد تمت عند نهاية القرن التاسع عشر دورة كاملة في حياة القاهرة وعمرانها ..
أنتقلت فيه القاهرة من سند الجبل إلى شاطئ النهر ، ومن ضلوع المقطم في الأحياء الموروثة إلى ضفاف النيل مع أحياء جديدة مستحدثة ، حتى أصبح محور شرق ـ غرب هو محور حراك ونمو الأحياء الجديدة ..
عمران الأحيــــاء الفقيرة والمهمشة في قاهرة القرن التاسع عشر ..
البنية المجتمعية للأحيـاء الفقيرة المهمشة ( العشوائية ) ..
تتناول كثير من الدراسات والكتابات وخاصة المعمارية والعمرانية منها وجهاً واحداً للقاهرة خلال هذه المرحلة من تاريخها لتأكيد مقولة " قاهرة الزمن الجميل " ، وهي فرضية تحتاج إلى مراجعة متأنية ، فقليلاً ما تتعرض تلك الكتابات للوجه الآخر للمدينة وسكانها بالرغم من كونهما وجهان متزامنان بل ويحكم وجود كل منهما وجود الآخر ، كأنها حتمية عمرانية فرضتها الحاجة والمنفعة المتبادلة ، والمقصود هنا ليست فقط المناطق الفقيرة داخل نسيج المدينة القديمة أو حتي أحيائها الجديدة ، ولكن ما نقصده هؤلاء المهمشين خارج حسابات الغالبية من الباحثين لتلك المرحلة من عمران القاهرة . يغفل البعض تلك الحالة العمرانية المثبتة خوفاً على تشويه الصورة الأفتراضية التي يرسمونها للقاهرة ، حين إننا نرى أن الصورة الواقعية بكل متناقضاتها هي في الحقيقة أصدق ، وبالتالي أجمل لمجتمع عاش وتمرد على سلبياتها وثار لتصحيحها بنفسه ومن منطلق وطنيته وإنتمائه ، فمن يسقط تلك الواقعية هو في الحقيقة يسقط عن المجتمع نفسه قدرته على الأستمرارية وتطوير ذاته والدفاع عن وجوده وحقوقه . ويمكننا تنميط مساكن وتجمعات السكان الأكثر فقراً في القاهرة في القرن التاسع عشر في نسقين أساسيين :
o الأحـــــواش .. وهي موروث عمراني عرفته القاهرة في المراحل السابقة ، وهي من المساكن الجماعية الواسعة الإنتشار التي ورد ذكر وجودها في القاهرة منذ كتاب وصف مصر ، فقد جاء عنها إنها نزل كبير مؤلف من باحة سماوية ( حوش ) مسورة مليئة بعدد كبير من الأكواخ التي تغص بالناس الفقراء الذين يعيشون مع دوابهم ، وكانت هذه المساكن الجماعية المبنية عادة من مواد لا تصمد طويلاً مثل الطوب اللبن تتكون من سلسلة من المساكن المقامة حول الحوش ؛ وكانت هذه المساكن تسمى قاعة أو خزانة ، وبالرغم من قلة المعلومات إلا إنه تم تحديد موقع 31 حوشاً ورد ذكرها في كتاب وصف مصر تنتشر في الحارات الشعبية ( بعيداً عن قصبة القاهرة ) ، ويحتوي الحوش على عدد من الأبيار (8) . وكان الحوش مأوى أفقر سكان القاهرة وهم العمال والفعلة الذين كانوا يشكلون نسبة كبيرة من سكان القاهرة المهمشين ، وإن كانوا نادراً ما يظهر لهم أثر في التعاملات المتعلقة بأي نوع من السكنى . وكثيراً ما كان يلجأ أيضاً إلى تلك الأحواش المهاجرون من الريف عند تفاقم الأزمات الأقتصادية أو سعياً للعمل في العاصمة . فالوثائق تتحدث أحياناً عن " حوش الفلاحين " أو " حوش سكن الفلاحين " أو " حوش سكن الصعايدة " .. ولم يكن شاغلوا هذه المساكن الجماعية أفراد عائلة معاً ، ولكن يبدو أنه كان يوجد نوع من التجانس بين سكان تلك الأحواش يعود إلى وحدة المسقط أو إلى إنتمائهم لمهنة واحدة . ونفتقد المعلومات لمساكن تلك الشريحة من سكان القاهرة الأكثر فقراً في المرحلة السابقة والتي أستمرت في القرن التاسع عشر ، في حين أنها كانت دوماً في الغالب الأكثر عدداً . ولم يرد ذكر هذه المساكن إطلاقاً في الحوليات التاريخية ولا في الوثائق المحفوظة ، كما لاتوجد منها أي آثار أو بقايا تساعدنا على التحقق منها وتحديد تواريخها .. ومع ذلك من السهل تصور أنها مساكن ضيقة بنيت بمواد كيفما أتفق كائنة في أطراف الأحياء القديمة من القاهرة ، ومن المحتمل أن عدد سكان الأحواش كبيراً وليس هناك وثائق تؤكد العدد الحقيقي لهؤلاء السكان لاسيما في القرن التاسع عشر .
o العشش .. وهو مصطلح مختلف عليه بقدر كبير ، ولكن إجمالاً العشة بناء فقير مقام بمواد هشة لا يتصف بصفة الديمومة أو الإستمراية ، فهو دائماً هو وساكنه في حال مؤقتة من الوجود وحتى وإن طال بهما الزمن ، وتشير تجمعات تلك العشش إلى ما يسميه البعض ( بالعشوائية ) ـ مع تحفظنا على ذلك المسمى ومدلولاته السلبية ـ ؛ وعلى عكس الأحواش فإن تلك الأحياء تقع دوماً خارج المدينة ولا تنصهر في نسيجها العمراني ، وهي غير محددة النمو أو الأتجاهات بل يحكمها الموقف الآني والأحداث والظروف وقد تمتد لعدة هكتارات وتضم بضعة آلاف من السكان . ونما هذا النسق من السكن في القاهرة بكثافة في نهاية القرن التاسع عشر ، وتحديدا في سنة 1891 أحصت مصلحة الصحة ـ التي كانت تعني عن قرب ببؤر إنتشار الأوبئة ـ بحوالي 16200 عشة في القاهرة ، ويعد هذا العدد مرتفعاً حسب كثافة هذا النسق السكني علماً بأن تعداد سكانها بعد بضع سنوات قليلة حسب تقديرات جان لوك أرنو كان 120 ألف ساكن ( كان سكان القاهرة عندئذ حوالي 480 ألف ساكن ) ، أي أن ربع سكان القاهرة كانوا يقيمون حينئذ في عشش ، كما أن المساحة التي تشغلها هذه المساكن كبيرة وتشغل حوالي 10% من مساحة القاهرة العمرانية ( كانت مساحة القاهرة وضواحيها على ضفتي النيل حوالي 1500 هكتار ، بينما كانت مساحة أحياء العشش 146 هكتاراً حسب قياس جان لوك أرنو ) ؛ ولا يمكن بالطبع ألا تكون مساحة بهذا الحجم غير ملحوظة أو ألا يسمح تفرقها في المدينة رسم طوبوغرافيا للفقر وإدراك البنية السكانية للقاهرة حينئذ .
ويبين تعداد سنة 1897 السكان الذين ليس لديهم محل سكن ثابت ( الطبقة الأفقر في المجتمع ) وكذلك سكان الأحواش والعشش الذين يشكلون وحدات إدارية فقط ؛ ولذا فإن عدد العشش التي أحصيت آنذاك 2500 عشة أي سدس العدد الذي قدمته مصلحة الصحة قبل بضع سنوات ؛ ويدل الفرق بين الرقمين على أن العشش متجمعة في بعض الأحياء ، إلا إنها كذلك كانت منتشرة ومشتتة بحيث عددها لا يشكل وحدات إدارية مستقلة ومحددة ، منتشرة في مجموعات تحتل الأراضي المهجورة والخرابات . وإذا كان تواجد أراضي فضاء هو الذي يقرر إقامة العشش خارج المدينة ، فإن قيام نشاطات صناعية يشكل هو أيضاً دافعاً لإنتشارها داخل الأحياء بأعتباره جاذباً للهجرة ، ومنها بولاق حيث أدى نمو النشاط الصناعي خلال القرن التاسع عشر إلى طلب على اليد العاملة الرخيصة ، فنشأت بالتالي مجموعات كبيرة من العشش . وضمت بولاق ثلثي سكان القاهرة من تلك المجموعات ، الأشد فقراً في المدينة حينئذ ، وبه أيضاً أكبر الأحواش ونسبة كبيرة من الأفراد الذين ليس لهم مقر ثابت ، وعليه ووفقاً لبيانات التعداد فإنه يمكن أعتبار أن ظروف سكن ربع أو خمس سكان هذا الحي سيئة (9) ، وعموماً أغلب العشش كانت متجمعة في مناطق : بولاق والسيدة زينب ومصر القديمة ضمن نسيج العمران القديم جنوب المدينة وغربها .. ومع أن هذا النسق ليس ظاهرة جديدة في القاهرة ، إلا إنه شهد نمواً كبيراً بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر ، فتوسع هذه الأحياء في مصر القديمة أولاً وبعدها في بولاق يكشف عن النزوع المتزايد لطرد السكان الأفقر نحو أطراف المدينة .. وعلى عكس المحظوظين من النخب دائماً والطبقات المتوسطة المتوالدة لا يملك السكان الأكثر فقراً حرية أختيار مساكنهم إذ يتعين عليهم أن يضعوا في الأعتبار وسائل النقل ، وعليه تنتشر العشش على مقربة مباشرة من مصادر العمل المتاحة بفعل قوى الطرد والجذب المحركة للمجتمع .
ختـــــــــــــــام ..
وهــكذا ترتسم قاهرة القرن التاسع عشر وحراكها العمراني ، أنها مدينة متعددة التكوينات بخطوط عامة من خلال العديد من الأمثلة سواء تعلق الأمر بالأحياء الجديدة شرق وغرب النيل أو بعشش الأحياء الفقيرة ، سواء بتركزات الزمر السياسية والملاك العقاريين والنخب المجتمعية أو بتشتت العوام والمهمشين والمعدمين من الطبقات الدنيا في المجتمع .. وما بين هذا وذاك تتشكل الطبقة المتوسطة بتدرجاتها الإجتماعية والثقافية وتطلعاتها البرجوازية والتقدمية ، وهنا كانت المواجهة بين القديم والجديد في القاهرة .
وإجمالاً .. الحراك العمراني للقاهرة في القرن التاسع عشر ، لايقف عند صورة متواترة تعبر عن نمط واحد في منظومة متسعة بأتساع التركيبة الإجتماعية والطبقات المشكلة للمجتمع القاهري ، وهو ما يدعونا إلى حتمية إعادة النظر في تلك الصورة الضيقة ونتسع بزاوية الأبصار لنرى الصورة الكاملة بحقيقتها فبالإضافة لعمران وأحياء زمرة الحكام والنخب المجتمعية ، لتشمل الرؤية عمران الطبقات الوسطى والمساكن الجماعية ومساكن الفقراء من عامة المجتمع والمعدمين فيه والمهمشين ؛ وأن نسقط مفهوم النسق الوحيد ونقيم بدلاً منها رؤية للتنويعات في القاهرة ؛ وهذا يجعلنا نتساءل حول هل يمكن أعتبار القصور والعمائر الكبيرة ـ وهي النوع الأكثر شهرة والأقل عدداً ـ نموذجاً نمطياً لعمران القاهرة في أي مرحلة سابقة أو لاحقة حتى اليوم .. أنه من الأجدى أن نأخذ في الأعتبار الأنماط المتعددة لنرسم بها صورة حقيقية ودقيقة لحالة وعمارة وعمران القاهرة بمنهجية صحيحة وعلمية تصل بنا إلى الحقيقة بعيداً عن تجميل مزيف للصورة يخل بمصداقيتها .
الهوامش والمراجع ..
(1) القاهرة ـ لديزموند ستيوارت صفحة 63 ـ 64
(2) Le Caire – Mise en place d’une ville modernes 1867 / 1907 صفحة 163 ـ 183
(3) مذكرات نوبار باشا صفحة 250
(4) القاهرة في الأدب المصري الحديث والمعاصر من حلم المدينة الكبيرة إلى عزلة الضواحي صفحة 17
(5) Cairo 1001 Years of the City Victorious صفحة 87 ـ 88
(6) Cairo City of History صفحة 322 ـ 324
(7) Cairo City of History صفحة 322
(8) العواصم العربية ـ عمارتها وعمرانها في الفترة العثمانية صفحة 98 ـ 103
(9) Le Caire – Mise en place d’une ville modernes 1867 / 1907 صفحة 280 ـ 286
تقديــــــــــم ..
إن الفصل السكني أحد أبرز ملامح البنيوية المجتمعية والعمرانية للقاهرة ، وهو يحمل مغزى العلاقات التوزيعية للطبقات الإجتماعية الثلاثة الغنية والمتوسطة والفقيرة .. بمعنى أن لكل طبقة منطقة .. ولكل منطقة طبقة . والأهم من ذلك أن الفصل السكني هنا كان سلمياً ، بمعنى أن الطبقات تتدرج من منطقة إلى أخرى كما تتدرج في السلم الإجتماعي ؛ وهي صورة متغيرة الملامح والمواقف ، فالحراك الإجتماعي هو جزء متأصل في القاهرة ومعه يكون حراك عمراني من هجرة وأحلال ، فتتغير طبقات المناطق أو مناطق الطبقات في ديناميكية تبدو معقدة إذا نظرنا إليها من منظور الصور الفوتوغرافية الإستاتيكية التي يتجمد فيها وعندها الزمان في لحظة بعينها ، ولكننا نتبين حقيقتها إذا ما نظرنا إليها من منظور الصور السينمائية التي يحكمها تتابع سيناريو الأحداث على مدى زمني وتاريخي مستمر أو متقطع وله إيقاعاته الخاصة به ..
ففي مطلع القرن التاسع عشر كان خط الحسينية ـ باب الشعرية ـ بولاق ، يمثل أقصى حدود أمتداد القاهرة شمالاً ، دون أن يعني هذا أن كل ما إلى الجنوب كان عمراناً كاملاً ومتصلاً ؛ بل كانت هناك فراغات شاسعة تتخلل المنطقة العمرانية المبنية للقاهرة .. وإذا كان محمد علي باشا هو الذي أخترق هذا الحد وتعداه نحو شبرا ، كما كان عباس الأول هو الذي بدأ العباسية عبر الحسينية ، فقد كان إبراهيم باشا هو الذي بدأ الأتجاه غرباً نحو النيل للسكنى ، وتبعه إسماعيل باشا ومن بعده توفيق باشا ، وتوالت التوجهات النخبوية من المجتمع خلفهم .. ولكن تبقى هذه التوجهات العمرانية لأحياء جديدة حينها حبيسة نزعات تلك النخبة السياسة الحاكمة والمتحكمة بالرغم من تأثيراتها على القاهرة وعمرانها ، وظلت الأحياء القديمة خارج توجهات وسياسات التنمية العمرانية للدولة والنخب المجتمعية ، ولكنها تأثرت بشكل غير مباشر نتيجة الحراك العمراني الحادث مع الأحياء الجديدة ، ومن جهة أخرى بقيت المناطق والأحياء الفقيرة مهمشة وخارج تلك المنظومة .. ولم يخرج الحراك العمراني للقاهرة مطلع القرن العشرين عن النسق العام لتحكم النخب المجتمعية والسلطوية ، حتى وإن أختلفت بنية هذه النخب مع ميلاد الحركة الوطنية والليبرالية المصرية ، وهذا يصدق على مختلف نطاقات النمو الحادثة للمدينة .
الحراك العمراني للقاهرة في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ..
كان الحراك العمراني ونمو القاهرة خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين متجهاً نحو الشمال ، وكأنه ينفرج من مصر القديمة في الجنوب ليشكل ما يشبه الدلتا العمرانية فيتفرغ إلى فرعين ..
o الأول الشمال الشرقي بمحــاذاة الجبل .. وينتهي بمصر الجديدة وعين شمس ، في إتجاه السويس وجاذبية آسيا والبحر الأحمر مع تنامي المصالح الإنجليزية الأقليمية والدولية من الخارج .
o والثاني الشمالي بمحاذاة النيل .. وينتهي بروض الفرج وشبرا ، في إتجاه الإسكندرية وجاذبية أوروبا والبحر المتوسط مع تغلغل الثقافة الأوربية التي حملها المستشرقون إلى الداخل .
وبين هذين الفرعين برزخ عريض من الأرض الزراعية ، ومن هنا نستطيع أن نرى أن القاهرة ومعها مصر تزحف شمالاً في مواجهة الأطماع الإستعمارية العاتية وتنامي الأستشراق الأوروبي والتبعية الحضارية والثقافية ، ومعها تتأكد الحقيقة كما رصدها جمال حمدان في تقديمه لكتاب القاهرة لديزموند ستيوارت أن نمو عمران القاهرة مندفع نحو الشمال ، وكأنما القاهرة تزحف مع مصر نحو الشمال .. ولكن تتأكد لنا كذلك حقيقة موازية لاتقل مغزى وتأثيراً وهي أن النمو كان متوقفاً نسبياً لدرجة الشلل في الجنوب ، فلم تتعد الفسطاط حدودها المزمنة قرب أثر النبي ، وإذا كانت المعادي وحلوان تمثلان نمواً في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين فإنهما تمثلان ضواحي منفصلة عن جسم المدينة ، ولا تنقض ذلك النسق بقدر ما تؤكده . ونخلص أن الحدود الحنوبية لعمران القاهرة كانت تمثل الثوابت الأستاتيكية في حراك المدينة حين تمثل الحدود الشمالية العوامل المتغيرة والديناميكية لهذا الحراك العمراني المتتابع ؛ لكن يجب أن نرى صورة هذا الحراك في إطاره الحقيقي ومنظوره التاريخي المرتبط بالبنية المؤسسية للدولة والتركيبة المجتمعية ..
وهذه الصورة لها وجهان متلازمان ومتقابلان ومتناقضان غالباً على طرفي المنظومة ، متمثلان في ..
o عمران الأحيـــــاء الجديدة للنخب المجتمعية ..
o عمران الأحيـــــاء الفقيرة والمجتمعات المهمشة ..
عمران الأحيـــاء الجديدة للنخب المجتمعية في قاهرة القرن التاسع عشر ..
البنية المجتمعية للأحيــــــاء الجديـدة ..
لا ينفصم العمران عن فكرة الطبوغرافية الإجتماعية وإن لم ترادفه ؛ والطبوغرافية الإجتماعية ـ والمصطلح للمخطط الفرنسي جاستون بارديه ـ هي أساساً التوزيع المكاني للطبقات الإجتماعية على أرضية عمران المدينة .. ولا مفر لنا من أن نميز بين الأحياء السكنية على الأساس الطبقي أقتصادياً وإجتماعياً ، بل إن المسكن كان ومازال هو التعبير المادي عن الطبقة الإجتماعية ، فالمنزل هو المنزلة .. والمكان هو المكانة .. حسب توصيف جمال حمدان ، ويضيف جمال حمدان (1) : غير أن الطبوغرافية الإجتماعية ليست الطبقة وحدها بل والجنسية والطائفة أيضاً ، أي الأقليات عموماً ؛ وهذه لها مكانها في عاصمة كالقاهرة ؛ ولكن من الواضح أن وزن الجنسية والطائفة ثانوي وضئيل للغاية بالقياس إلى الطبقة ، فهي وحدها أهم المتغيرات وأبرز المعالم في الطبوغرافية الإجتماعية لعاصمة قديمة عريقة لشعب موحد متجانس منذ آلاف السنين . ويتكامل مع هذه الفكرة ما ذكره جاك لوك أرنو (2) : إن عملية تقسيم الأراضي تعتبر مؤشراً للبنية الإجتماعية للأحياء الجديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع مشروع إسماعيل باشا للقاهرة ، فالتصنيف الذي تعبر عنه البنية العمرانية والإجتماعية لتلك الأحياء يسمح بإدراك الكيفية التي كان يجمع بها إسماعيل باشا مختلف الملتزمين لتنمية تلك الأراضي حسب مقاماتهم ووضعيتهم المجتمعية .. وقد تميزت تلك الأحياء الجديدة بين سنتي 1867 و 1890 بتقسيمها إلى قطع أراض تكون مساحاتها أكبر مع تباعدها عن المدينة القديمة ؛ فبينما يكون مجموع الأراضي في النسيج القديم موزعاً بين عدة آلاف من الملاك ، فإن الأراضي في الأحياء الجديدة تملكها مجموعة محدودة ، يقدر عددها جان لوك أرنو إنه يقل عن مائة فرد ، ويتأكد هذا التركيز الرأسمالي العمراني والعقاري من خلال توزيع أكبر الملكيات ؛ فكان ما يربو على نصف المساحة الكلية للأراضي يستأثر بها ثمانية عشر مالكاً فقط يحوز كل منهم في المتوسط على 45 ألف متر مربع ، أي أنه كان في وسع مجموعة محدودة تقل عن عشرين مالك أن يتحكموا في تنمية عمران تلك الأحياء .
ومن جهة أخرى مثلت الهوية سمة مميزة للسكان ؛ فالمنطقة الشمالية من حي الإسماعيلية ضمت الرعايا الأجانب ومستخدمي الهيئات القنصلية ( أجانب أو غير أجانب ) ، وهم يستبعدون سكان البلاد الأصليين وأصحاب النشاطات المختلفة .. وتجمع المصريون أقباطاً ومسلمون في أجزاء أخرى من الأحياء الجديدة ، وليس هناك إشارة إلى مهنهم فيما عدا بعض الإستثناءات ، غير أن ألقابهم ـ باشا وبك وأفندي تكشف عن الوضعية المجتمعية لهم . وأمتدت مناطق تجمع السكان جنوباً في باب اللوق والجزيرة الجديدة ، وتكشف الألقاب والوضعية المجتمعية أن ثلثي سكانها موظفون في الدولة من الطبقات المتوسطة ، ولقبا بك وأفندي هما الأكثر تحديداً للبنية السكانية المجتمعية فالبكوات للغرب والآخرون على مقربة من المدينة القديمة .
كما يُبرز التوزيع العام للملاك ونشاطاتهم تفرعاً يتجاوز المعايير الإجتماعية والبنيوية ، والخط الفاصل هنا سياسي ؛ فكانت مهمة القنصليات إدارة مصالح بلادهم في القاهرة وتنمية التجارة المكلفون بها ، وهي مسألة تبرر تحالفهم مع التجار ، وهي ليست سوى إحدى المظاهر العديدة لدورهم الأستشراقي والأستغلالي ، فهم مشغولون بتطبيق نظام الأمتيازات الأجنبية . ويصف نوبار باشا في مذكراته (3) النظام السياسي المصري في نهاية الستينات من القرن التاسع عشر بأنه " جمعية مطالب القنصليات " وهو دلالة معبرة على مدى سلطة الدول الأجنبية .. وفي ظل تلك الأوضاع شكل تحالف التجار مع القنصليات سلطة سياسية حقيقية مضادة تعبر عنها المواجهة بين أحياء المدينة المختلفة ، والتي صنفها المستشرقون إلى نسقين رئيسيين كبيرين .. أحياء المصريين والأحياء الأوروبية ؛ الأولى تنتمي ـ حسب هذا التقسيم الإستشراقي ـ إلى النسيج الحضري القديم للقاهرة والتي نشأت قبل سنة 1865 ، أما الثانية فالتي خططت منذ بداية أعمال إسماعيل باشا ؛ وهذه التقسيمات ملتبسة ومضللة ، والدليل على ذلك أن أكبر نسبة من الأوربيين كانت تسكن الموسكي وحي الفرنجة في المدينة القديمة ، وفي المقابل أن أعداد كبيرة من المصريين سكنت في الأحياء الجديدة الواقعة جنوب باب اللوق أو في الأحياء المستحدثة والمخططة في قلب المدينة القديمة مثل الحلمية . وأستمرت تلك الإزدواجية المصطنعة للفصل بين القديم والجديد حتى في نمط الأنشطة والمواقع المخصصة للمنشآت العامة خاصة بعد سيطرة الأجانب الكاملة على مؤسسات الدولة بالأحتلال الإنجليزي العسكري سنة 1882 ، مع محاولة ترسيخ تواجد نمطين عمرانيين متجاورين يفصلهما حاجز ، أكتسب مظهراً وطنياً ، فكان الحديث عن مدينة محلية وطنية أو عن مدينة أوروبية ونخبوية إستعمارية (4) ؛ كانا هذان النمطان مدفوعان لمواجهة بعضهما البعض على خط تماس ؛ مواجهة وصراع .. حاجز غير مادي ولكنه ممتد من الجنوب إلى الشمال من السيدة زينب وعابدين إلى الأزبكية وباب الحديد ، يتنامي حوله الخلاف وتتوالد عنده وتتنامي النزعات الوطنية المحركة لإرادة التغيير والثورات، مع نمو الطبقة المتوسطة الجديدة ، مسار أمتد عمرانياً مع بداية القرن العشرين لميلاد ضواحي وأحياء جديدة خارج القاهرة هي أمتداد لتلك المناطق العمرانية النخبوية في خروج أو هروب من مواجهة محتومة مع المناطق العمرانية الوطنية ، وهو ما يمثل بعداً أساسياً في الحراك العمراني من خلال الهجرات الداخلية والأحلال المجتمعي للطبقات داخل نسيج المدينة وأحيائها .
وإجمــالاً .. يكشف التوزيع الديموجرافي للأحياء الجديدة عن تنوع وتفاوت البناء المجتمعي الطبقي في أمتداد تصاعدي من الشرق إلى الغرب وبقدر أقل من الجنوب إلى الشمال ، ويجب هنا التفرقة بين الملكية والسكن والأستقرار العمراني ، وأنقسم الملاك إلى مجموعتين : الملاك الصغار ممن يسكنون في قطعة الأرض التي يحوزونها يستندون في إختيارهم لذلك الموقع لمعايير مختلفة عن هؤلاء الملاك المتغيبين ، والدافع الحاسم عند هذا الفريق وحده العصبية حسب التعبير الخلدوني ، سواء عقائدياً أو إجتماعياً أو حتى فئوياً ؛ أما بالنسبة للفريق الثاني فالدافع هو المردود الأقتصادي المادي وليس الإقامة ، وتشكل النخب من الباشوات والبكوات غالباً فريق المنتفعين .. أما الأفندية من الطبقات المتوسطة غير مستبعدين عن أي حي ولاسيما تلك المناطق المحصورة بين النسيجين القديم والمستحدث ، وكأنهم بدورهم المجتمعي لعبوا بالصدفة أو الحتمية نفس الدور المتوسط بين النسيجين العمرانيين للقاهرة حينئذ ، بل هم القلب المتمكن من ضمان حيوية المدينة وحراكها المجتمعي والعمراني المتتابع في عمليات الهجرة والأحلال ، وغابت عن تلك المنظومة المجتمعات والمناطق الأكثر فقراً والمهمشة . أما التركيب العمراني على أساس عقائدي أو ديني أو طائفي لم يمثل فاصل إجتماعي وعمراني حاسم ، ولكن لا يمكن الجزم بغيابه تماماً فعرفت القاهرة حارة اليهود والنصارى وحارة الروم وغيرها ، ولكن من منطلق إجتماعي بحت وليس مبنياً على تمييز ديني كما يريد المستشرقون أن يدعوا به .
الأحياء الجديدة والحراك العمراني في قاهرة القرن التاسع عشر :
عرفت القاهرة خلال القرن التاسع عشر تغييرات جذرية في عمرانها وتشكيل نسيجها ، ولقد بدأت ظواهر هذه التحولات مع الحملة الفرنسية على مصر وأستمرت حتى مطلع القرن العشرين ؛ وتميز القرن التاسع عشر بممارسات وسياسات محمد علي باشا وورثته وتأثرت بها القاهرة وعمرانها ، لاسيما مع هيمنة الفكر الأوروبي للمستشرقين على العمران ، ومن قبله على بنية المجتمع وثقافته ، وعلى هيكلية الدولة وإداراتها .. ومن الأمور المهمة التي أثرت على الحراك العمراني الحادث حينئذ إنتقال مركز السلطة السياسية من القلعة إلى أنحاء أخرى في المدينة وخارجها بما في ذلك سكن وقصور الولاة ، ومعهم الزمرة السياسية والنخبة المجتمعية وبالتالي دواوين الحكومة وثكنات العسكر ، فكان لهذا آثاره المباشرة في أتجاهات النمو جديدة نحو الغرب ( الأزبكية والإسماعيلية وقصر النيل والزمالك ثم البر الغربي والجيزة ) ، وإلى الشمال ( شبرا ) ، وإلى الشمال الشرقي ( العباسية والقبة ثم مصر الجديدة ) ؛ وبشكل محدود إلى الجنوب ( المعادي وحلوان ) . ولقد لعبت تلك القصور داخل وخارج أحياء المدينة والطرق التي شقت لكي توصل إليها أحد الأدوار الرئيسية في تحديد أتجاه النمو والحراك العمراني . ومع النسق العمراني المغاير للأحياء الجديدة الذي أتسم بالنمط الغربي شكلاً ومضموناً ، تغيرت الأنماط الحياتية لطبقات المجتمع ؛ ويرجع بعض المتخصصين ومنهم جانيت أبو اللغد (5) ، أن جذور هذه التغييرات وحالة التغريب كانت مصاحبة لمشروع محمد علي وتوجهاته لأستقطاب النموذج الأوروبي في المؤسسات التعليمية والصناعية وبناء القدرات العسكرية وفتح المجال للمتخصصين والمستشارين من المستشرقين الأوربيين وخاصة للتجربة الفرنسية ؛ وعندها أحتضنت القاهرة العديد من المشروعات وتأسست بها وحولها المؤسسات المعنية مما كان له تأثيره على الحراك العمراني وأتجاهات النمو ، وجعلت النخب السياسية هذا النموذج الفرنسي نسقاً للتنمية والتحضر المنشود ؛ وهنا توالدت ـ كما ترى جانيت أبو اللغد ـ فكرة " القاهرة باريس الشرق " منذ ذلك التاريخ المبكر ، والتي تبلورت وتجسدت لاحقاً مع ولاية إسماعيل في سبعينات القرن . ولم تقف عجلة التحولات ، وتحديداً في العقد الأخير من القرن ، فإننا نلاحظ أن الألتزامات الأولى تقريباً أنتقلت إلى ملاك جدد . ولم يقتصر الأمر على قيام هذا النوع من الملتزمين ببيع أراضيهم ، ولكن أختفي تماماً فريق " التجار ـ المقاولون " وفي سنة 1892 أصبحوا لا يشكلون سوى أقلية بين الملاك العقاريين في الأحياء الجديدة ، والوحيدون ممن أتيحت لهم فرصة تحويل تجارتهم إلى نشاطات مالية هم من أحتفظوا بأراضيهم . ومع ذلك لم تتغير كثيراً الصورة العمرانية العامة ، ولم تتطرأ تحويرات جذرية للبنية المجتمعية ؛ فقد ظلت النخبة الحاكمة متجمعة بمقربة من قصر العيني ، وبقي غالبية الأجانب بحي الإسماعيلية ، ولم تكف نواحي باب اللوق عن إيواء الطبقات المتوسطة ، كما لم تتطرأ تغيرات كبيرة على البنية الإجتماعية وتوزيعاتها بين حواف المدينة القديمة والمنطقة المركزية .
ومن جهة أخرى عرفت القاهرة تعبئة لرؤوس الأموال الخارجية مع الضمانات التي كفلتها الأوضاع الحادثة حينئذ من إفلاس الدولة وإنشاء صندوق الدين والأستيلاء وسيطرت الأوربيين على مقاليد الدولة وتسييرها ، وأكد ذلك تأسيس البنك العقاري المصري في سنة 1880 بالإمكانات التي يوفرها بعيداً عن مناورات الخديو ، ودفعت تلك الحركة للأقتصاد المصري ـ ولو كانت لحساب الأجنبي على حساب المصريين أصحاب الشرعية والحق ـ بأن جعلت من القاهرة ملتقى جذب رؤوس الأموال الأجنبية تحت حماية السيطرة الأوروبية . وإذا كانت مواقع الإنتاج سواء الزراعية أو الصناعية خارج المناطق العمرانية الحضرية إلا أنها كانت تدار إنطلاقاً من نسق مركزية الدولة من القاهرة ، وتجمعت تلك بكثافة في الأزبكية وحي الإسماعيلية وتحولت المنطقة إلى مركز للصفقات يجمع العديد من النشاطات المرتبطة بالتجارة الدولية سواء تعلق ذلك بأستيراد وسائل الإنتاج أو تصدير المنتجات ، وبالنشاطات المصرفية والتعامل مع البورصة .. ونذكر إنه تأسست في مصر بين سنة 1856 و1895 عدد 35 شركة ، بينما بين سنة 1896 و 1899 تأسست 39 شركة جديدة ، ومن سنة 1900 و1905 تأسست 80 شركة . ومن المؤثرات المباشرة على التنمية والحراك العمراني شبكة المواصلات الجديدة التي عرفتها القاهرة خلال نفس الفترة ، ففي سنة 1894 حصل البارون إمبان على أمتياز لإقامة شبكة مواصلات بالترام في القاهرة لإقامة ثمانية خطوط بينها ستة تبدأ من ميدان العتبة الزرقاء ( العتبة الخضراء ) ؛ وتم ربط وسط المدينة ومركزها الجديد بميدان محمد علي عند القلعة وبالقصر العيني ومصر القديمة وبباب اللوق والناصرية وبباب الحديد وبولاق ، والفجالة والعباسية . وتم فيما بعد تمديد الأمتياز سنة 1917 ليشتمل خطوط جديدة إلى روض الفرج وأثر النبي وهليوبوليس وأخرى عند إمبابة والجيزة . ومن جهة أخرى أدى ظهور السيارة سنة 1903 للإسراع لتغيير شبكة شوارع الأحياء الجديدة ؛ وزاد عدد السيارات من 656 سنة 1914 إلى 24136 في سنة 1931 (6) ؛ وظلت شبكة الطرق في الأحياء القديمة عاجزة عن الإنسجام مع تلك المتغيرات الجديدة لوسائل المواصلات . ومع هذا التسارع العمراني شهدت حركة البناء خلال الفترة 1897 ـ 1907 نشاطاً واسعاً وأشتد الطلب على الأراضي مما رفع أثمانها ؛ فقد ذكر أندريه ريمون (7) ، إنه بلغت حركة التشييد ذروتها في 1907 و 1908 إذ بلغ عدد تصاريح البناء 3164 و 4444 على التوالي ، في حين كان عدد هذه التصاريح 1071 سنة 1897 و 843 في سنة 1882 وفي سنة 1907 بلغ عدد عمال البناء في القاهرة 21744 عاملاً من بين 94898 عاملاً في مصر كلها .
كما تجدر الإشارة إنه تزامن مع هذا الزخم أقتحام نوع جديد من المتدخلين لسوق العقارات القاهرية كان له دوره في التغيير وهي شركات خاصة مساهمة ، حيث توصلت في غضون بضع سنوات للتحكم في جزء كبير من تنمية عمران القاهرة . فكانت هناك شركة وحيدة تمتلك أراضي في القاهرة سنة 1892 وهي شركة سوارس وشركاه ؛ وفي بداية القرن العشرين والأخص سنة 1904 تزايد بسرعة عدد الشركات العاملة في مجالي الأراضي والعقارات ؛ بينما كان هناك فقط ست شركات سنة 1900 لا تشكل معاً إلا 10% من الشركات الخاصة ، تضاعف عددها ست مرات بعد ذلك بعشر سنوات ؛ ففي سنة 1910 كان عددها ست وثلاثون تمثل 16% من إجمالي عدد الشركات المساهمة الخاصة .. وبلغ ذلك النمو ذروته في نهاية سنة 1906 ، قبل بضعة شهور فقط من الأزمة التي بدأت خلال الربيع التالي ومع الشهور الأولى من سنة 1907 تأسست ما لايقل عن خمس عشرة منشأة جديدة ؛ حتى أمسى ما يربو من أربعين شركة عقارية تعمل في الوسط الحضري بالقاهرة . وتبقى الحقيقة أن هذا الحراك والنمو لم يواكبه عدالة إجتماعية تعود على المجتمع كله بل إنحصرت الفائدة كاملة في طبقة النخب المجتمعية وطبقة الأجانب الأوربيين ..
ويمكننا استناج أن الحراك العمراني للقاهرة في هذه المرحلة تحكمت فيه عمليتان إيكولوجيتان رئيسيتان .. من الخارج نمو وتوسع نحو الشمال ثم إلى الغرب ، ومن الداخل إعادة توزيع وتغيير لعناصرها وأنسجتها وأعضائها ووظائفها وأستعمالات الأرض ..
هــــــكذا .. لقد تمت عند نهاية القرن التاسع عشر دورة كاملة في حياة القاهرة وعمرانها ..
أنتقلت فيه القاهرة من سند الجبل إلى شاطئ النهر ، ومن ضلوع المقطم في الأحياء الموروثة إلى ضفاف النيل مع أحياء جديدة مستحدثة ، حتى أصبح محور شرق ـ غرب هو محور حراك ونمو الأحياء الجديدة ..
عمران الأحيــــاء الفقيرة والمهمشة في قاهرة القرن التاسع عشر ..
البنية المجتمعية للأحيـاء الفقيرة المهمشة ( العشوائية ) ..
تتناول كثير من الدراسات والكتابات وخاصة المعمارية والعمرانية منها وجهاً واحداً للقاهرة خلال هذه المرحلة من تاريخها لتأكيد مقولة " قاهرة الزمن الجميل " ، وهي فرضية تحتاج إلى مراجعة متأنية ، فقليلاً ما تتعرض تلك الكتابات للوجه الآخر للمدينة وسكانها بالرغم من كونهما وجهان متزامنان بل ويحكم وجود كل منهما وجود الآخر ، كأنها حتمية عمرانية فرضتها الحاجة والمنفعة المتبادلة ، والمقصود هنا ليست فقط المناطق الفقيرة داخل نسيج المدينة القديمة أو حتي أحيائها الجديدة ، ولكن ما نقصده هؤلاء المهمشين خارج حسابات الغالبية من الباحثين لتلك المرحلة من عمران القاهرة . يغفل البعض تلك الحالة العمرانية المثبتة خوفاً على تشويه الصورة الأفتراضية التي يرسمونها للقاهرة ، حين إننا نرى أن الصورة الواقعية بكل متناقضاتها هي في الحقيقة أصدق ، وبالتالي أجمل لمجتمع عاش وتمرد على سلبياتها وثار لتصحيحها بنفسه ومن منطلق وطنيته وإنتمائه ، فمن يسقط تلك الواقعية هو في الحقيقة يسقط عن المجتمع نفسه قدرته على الأستمرارية وتطوير ذاته والدفاع عن وجوده وحقوقه . ويمكننا تنميط مساكن وتجمعات السكان الأكثر فقراً في القاهرة في القرن التاسع عشر في نسقين أساسيين :
o الأحـــــواش .. وهي موروث عمراني عرفته القاهرة في المراحل السابقة ، وهي من المساكن الجماعية الواسعة الإنتشار التي ورد ذكر وجودها في القاهرة منذ كتاب وصف مصر ، فقد جاء عنها إنها نزل كبير مؤلف من باحة سماوية ( حوش ) مسورة مليئة بعدد كبير من الأكواخ التي تغص بالناس الفقراء الذين يعيشون مع دوابهم ، وكانت هذه المساكن الجماعية المبنية عادة من مواد لا تصمد طويلاً مثل الطوب اللبن تتكون من سلسلة من المساكن المقامة حول الحوش ؛ وكانت هذه المساكن تسمى قاعة أو خزانة ، وبالرغم من قلة المعلومات إلا إنه تم تحديد موقع 31 حوشاً ورد ذكرها في كتاب وصف مصر تنتشر في الحارات الشعبية ( بعيداً عن قصبة القاهرة ) ، ويحتوي الحوش على عدد من الأبيار (8) . وكان الحوش مأوى أفقر سكان القاهرة وهم العمال والفعلة الذين كانوا يشكلون نسبة كبيرة من سكان القاهرة المهمشين ، وإن كانوا نادراً ما يظهر لهم أثر في التعاملات المتعلقة بأي نوع من السكنى . وكثيراً ما كان يلجأ أيضاً إلى تلك الأحواش المهاجرون من الريف عند تفاقم الأزمات الأقتصادية أو سعياً للعمل في العاصمة . فالوثائق تتحدث أحياناً عن " حوش الفلاحين " أو " حوش سكن الفلاحين " أو " حوش سكن الصعايدة " .. ولم يكن شاغلوا هذه المساكن الجماعية أفراد عائلة معاً ، ولكن يبدو أنه كان يوجد نوع من التجانس بين سكان تلك الأحواش يعود إلى وحدة المسقط أو إلى إنتمائهم لمهنة واحدة . ونفتقد المعلومات لمساكن تلك الشريحة من سكان القاهرة الأكثر فقراً في المرحلة السابقة والتي أستمرت في القرن التاسع عشر ، في حين أنها كانت دوماً في الغالب الأكثر عدداً . ولم يرد ذكر هذه المساكن إطلاقاً في الحوليات التاريخية ولا في الوثائق المحفوظة ، كما لاتوجد منها أي آثار أو بقايا تساعدنا على التحقق منها وتحديد تواريخها .. ومع ذلك من السهل تصور أنها مساكن ضيقة بنيت بمواد كيفما أتفق كائنة في أطراف الأحياء القديمة من القاهرة ، ومن المحتمل أن عدد سكان الأحواش كبيراً وليس هناك وثائق تؤكد العدد الحقيقي لهؤلاء السكان لاسيما في القرن التاسع عشر .
o العشش .. وهو مصطلح مختلف عليه بقدر كبير ، ولكن إجمالاً العشة بناء فقير مقام بمواد هشة لا يتصف بصفة الديمومة أو الإستمراية ، فهو دائماً هو وساكنه في حال مؤقتة من الوجود وحتى وإن طال بهما الزمن ، وتشير تجمعات تلك العشش إلى ما يسميه البعض ( بالعشوائية ) ـ مع تحفظنا على ذلك المسمى ومدلولاته السلبية ـ ؛ وعلى عكس الأحواش فإن تلك الأحياء تقع دوماً خارج المدينة ولا تنصهر في نسيجها العمراني ، وهي غير محددة النمو أو الأتجاهات بل يحكمها الموقف الآني والأحداث والظروف وقد تمتد لعدة هكتارات وتضم بضعة آلاف من السكان . ونما هذا النسق من السكن في القاهرة بكثافة في نهاية القرن التاسع عشر ، وتحديدا في سنة 1891 أحصت مصلحة الصحة ـ التي كانت تعني عن قرب ببؤر إنتشار الأوبئة ـ بحوالي 16200 عشة في القاهرة ، ويعد هذا العدد مرتفعاً حسب كثافة هذا النسق السكني علماً بأن تعداد سكانها بعد بضع سنوات قليلة حسب تقديرات جان لوك أرنو كان 120 ألف ساكن ( كان سكان القاهرة عندئذ حوالي 480 ألف ساكن ) ، أي أن ربع سكان القاهرة كانوا يقيمون حينئذ في عشش ، كما أن المساحة التي تشغلها هذه المساكن كبيرة وتشغل حوالي 10% من مساحة القاهرة العمرانية ( كانت مساحة القاهرة وضواحيها على ضفتي النيل حوالي 1500 هكتار ، بينما كانت مساحة أحياء العشش 146 هكتاراً حسب قياس جان لوك أرنو ) ؛ ولا يمكن بالطبع ألا تكون مساحة بهذا الحجم غير ملحوظة أو ألا يسمح تفرقها في المدينة رسم طوبوغرافيا للفقر وإدراك البنية السكانية للقاهرة حينئذ .
ويبين تعداد سنة 1897 السكان الذين ليس لديهم محل سكن ثابت ( الطبقة الأفقر في المجتمع ) وكذلك سكان الأحواش والعشش الذين يشكلون وحدات إدارية فقط ؛ ولذا فإن عدد العشش التي أحصيت آنذاك 2500 عشة أي سدس العدد الذي قدمته مصلحة الصحة قبل بضع سنوات ؛ ويدل الفرق بين الرقمين على أن العشش متجمعة في بعض الأحياء ، إلا إنها كذلك كانت منتشرة ومشتتة بحيث عددها لا يشكل وحدات إدارية مستقلة ومحددة ، منتشرة في مجموعات تحتل الأراضي المهجورة والخرابات . وإذا كان تواجد أراضي فضاء هو الذي يقرر إقامة العشش خارج المدينة ، فإن قيام نشاطات صناعية يشكل هو أيضاً دافعاً لإنتشارها داخل الأحياء بأعتباره جاذباً للهجرة ، ومنها بولاق حيث أدى نمو النشاط الصناعي خلال القرن التاسع عشر إلى طلب على اليد العاملة الرخيصة ، فنشأت بالتالي مجموعات كبيرة من العشش . وضمت بولاق ثلثي سكان القاهرة من تلك المجموعات ، الأشد فقراً في المدينة حينئذ ، وبه أيضاً أكبر الأحواش ونسبة كبيرة من الأفراد الذين ليس لهم مقر ثابت ، وعليه ووفقاً لبيانات التعداد فإنه يمكن أعتبار أن ظروف سكن ربع أو خمس سكان هذا الحي سيئة (9) ، وعموماً أغلب العشش كانت متجمعة في مناطق : بولاق والسيدة زينب ومصر القديمة ضمن نسيج العمران القديم جنوب المدينة وغربها .. ومع أن هذا النسق ليس ظاهرة جديدة في القاهرة ، إلا إنه شهد نمواً كبيراً بدءاً من منتصف القرن التاسع عشر ، فتوسع هذه الأحياء في مصر القديمة أولاً وبعدها في بولاق يكشف عن النزوع المتزايد لطرد السكان الأفقر نحو أطراف المدينة .. وعلى عكس المحظوظين من النخب دائماً والطبقات المتوسطة المتوالدة لا يملك السكان الأكثر فقراً حرية أختيار مساكنهم إذ يتعين عليهم أن يضعوا في الأعتبار وسائل النقل ، وعليه تنتشر العشش على مقربة مباشرة من مصادر العمل المتاحة بفعل قوى الطرد والجذب المحركة للمجتمع .
ختـــــــــــــــام ..
وهــكذا ترتسم قاهرة القرن التاسع عشر وحراكها العمراني ، أنها مدينة متعددة التكوينات بخطوط عامة من خلال العديد من الأمثلة سواء تعلق الأمر بالأحياء الجديدة شرق وغرب النيل أو بعشش الأحياء الفقيرة ، سواء بتركزات الزمر السياسية والملاك العقاريين والنخب المجتمعية أو بتشتت العوام والمهمشين والمعدمين من الطبقات الدنيا في المجتمع .. وما بين هذا وذاك تتشكل الطبقة المتوسطة بتدرجاتها الإجتماعية والثقافية وتطلعاتها البرجوازية والتقدمية ، وهنا كانت المواجهة بين القديم والجديد في القاهرة .
وإجمالاً .. الحراك العمراني للقاهرة في القرن التاسع عشر ، لايقف عند صورة متواترة تعبر عن نمط واحد في منظومة متسعة بأتساع التركيبة الإجتماعية والطبقات المشكلة للمجتمع القاهري ، وهو ما يدعونا إلى حتمية إعادة النظر في تلك الصورة الضيقة ونتسع بزاوية الأبصار لنرى الصورة الكاملة بحقيقتها فبالإضافة لعمران وأحياء زمرة الحكام والنخب المجتمعية ، لتشمل الرؤية عمران الطبقات الوسطى والمساكن الجماعية ومساكن الفقراء من عامة المجتمع والمعدمين فيه والمهمشين ؛ وأن نسقط مفهوم النسق الوحيد ونقيم بدلاً منها رؤية للتنويعات في القاهرة ؛ وهذا يجعلنا نتساءل حول هل يمكن أعتبار القصور والعمائر الكبيرة ـ وهي النوع الأكثر شهرة والأقل عدداً ـ نموذجاً نمطياً لعمران القاهرة في أي مرحلة سابقة أو لاحقة حتى اليوم .. أنه من الأجدى أن نأخذ في الأعتبار الأنماط المتعددة لنرسم بها صورة حقيقية ودقيقة لحالة وعمارة وعمران القاهرة بمنهجية صحيحة وعلمية تصل بنا إلى الحقيقة بعيداً عن تجميل مزيف للصورة يخل بمصداقيتها .
الهوامش والمراجع ..
(1) القاهرة ـ لديزموند ستيوارت صفحة 63 ـ 64
(2) Le Caire – Mise en place d’une ville modernes 1867 / 1907 صفحة 163 ـ 183
(3) مذكرات نوبار باشا صفحة 250
(4) القاهرة في الأدب المصري الحديث والمعاصر من حلم المدينة الكبيرة إلى عزلة الضواحي صفحة 17
(5) Cairo 1001 Years of the City Victorious صفحة 87 ـ 88
(6) Cairo City of History صفحة 322 ـ 324
(7) Cairo City of History صفحة 322
(8) العواصم العربية ـ عمارتها وعمرانها في الفترة العثمانية صفحة 98 ـ 103
(9) Le Caire – Mise en place d’une ville modernes 1867 / 1907 صفحة 280 ـ 286
Published on August 23, 2015 01:35
تاريخ مكان ..
من حكايات ميدان ..
ميدان الاسماعيلية
ميدان الكوبري
ميدان الخديو اسماعيل
ميدان الحرية – التحرير
ميدان السادات
مسميات لذات المكان كل منها تحكي حكاية للميدان والمدينة والانسان ..
تاريخ مكان .. يحمل ذاكرة المدينة ، وتهدف روايته الى تعميق فكرة الانتماء والحفاظ على ذاكرة المكان ذاته في وجدان المجتمع والانسان ابن المدينة ، نرسم من خلالها خريطة زمانية وثقافية تعيش لتبقى حية وفاعلة في ضمير وهوية هذا الانسان ، زائر الميدان أو العابر فيه .. هذا الميدان الذي تصدر امس واليوم المشهد في حياة المصريين بما جرى فيه من احداث وتفاعلات ، وبما يضمه من عمائر كانت أو استمرت وعما تخرج عنه من شوارع تحكي حكايات وتحمل مسميات لها دلا لتها وتاريخها ..
بدأ التاريخ المعاصر للمكان من ستينات القرن التاسع عشر مع احلام الخديو اسماعيل بباريس الشرق بتنمية حي الاسماعيلية هذا المشروع الذي خرج عن القاهرة وسكانها . كان يطلق على المكان في العصر المملوكي اسم زريبة قوصون وشانه شان بقية الاراضي المطلة على النيل يغلب عليها النمط الزراعي وتربية الحيوانات ، واستمر الحال خلال المرحلة العثمانية ( عصر الولاية ؟) – حتى القرن التاسع عشر حينما بدأ بإزالة التلال والزراعات وردم البرك التي كانت تنتشر غرب المدينة حتى ضفاف النهر ، وتغيرت معها مورفولوجية المكان وطبيعتها العمرانية من امتداد شارع عماد الدين الحالي والازبكية وجنوبا الى قصر العيني ، وشملت المنطقة أخطاط أحياء الاسماعيلية والتوفيقية ومعروف وباب اللوق والدواوين والقاصد والانشاء والجواياني والمنيرة .. ولاحقا أحياء قصر الدوبارة وجاردن سيتي في مطلع القرن العشرين .. ولكل من تلك المسميات اصل تاريخي في ذاكرة " القاهرة المحروسة " ، يرتبط بالزمان والمكان والمجتمع . وكان موضع ما عرف باسم ميدان الاسماعيلية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر – يتوسط تلك الاخطاط بل وبوابتها من جهة الجزيرة ولا سيما بعد افتتاح كوبري قصر النيل تحديدا سنة 1872 وكان اول كوبري يربط شرق النيل والقاهرة بالجزيرة ومن ثم بالضفة الغربية للنيل ..
وقد تعاقبت على هذا الميدان عدة مسميات هي :
ميدان الكوبري
ميدان قصر النيل
ميدان الاسماعيلية
ميدان الخديو اسماعيل ( في يونيو 1933 )
ميدان الحرية ( شعبيا وصحفيا 1952 )
ميدان التحرير ( في يناير 1953 )
ميدان السادات ( في ثمانينات القرن العشرين )
وانتشرت حول هذا الموضع من المدينة ( الميدان ) قصور الامراء والحكام والنخب المجتمعية والسياسية ، وكذلك العمائر المدنية والمباني والمنشآت العامة ، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر :
1- سراي قصر النيل .. كان يوجد في غرب القاهرة ( غرب موضع الميدان ) أحد القصور الشهيرة " قصر النيل " وقد أنشاه محمد على باشا والي مصر لابنته نازلي هانم ، ثم اشتراه منها سعيد باشا بعد ان تولى حكم مصر وهدمه وبدأ في سنة 1853 في انشاء ثكنات عسكرية مكانه ، وقد تم بناءها في سنة 1863 في عهد الخديو اسماعيل لتكون مقرا لنظارة الحربية ومدرسة الحربية وقيادة الجيش المصري حينها ,, وبعد الاحتلال الانجليزي سنة 1882 اصبحت ثكنات للجيش الانجليزي في العاصمة .. وكان يتبع هذه الثكنات في غربها حرم او ساحة مغلقة مطلة على النيل مباشرة كما كان يتبعها في شرقها ساحة اخرى مسورة شاسعة تشغل معظم مساحة الميدان بوضعيته الحالية .. وكان كلتا الساحتين الشرقية والغربية يستعملا للتدريبات العسكرية وكمطار عسكري لطائرات الهليوكوبتر للجيش الانجليزي المحتل للبلاد .. كما انشأ الانجليز خط سكة حديد عسكري يصل بين هذه الثكنات ومحطة مصر عند بابا الحديد ( عبر شارع الجلاء الحالي ) ، كذلك انشأ الانجليز في الطرف الجنوبي الشرقي يمين هذه الساحة الشاسعة كنيسة لجنودهم أسموها” Garrisan Church “ ورغم توقيع معاهدة 1936 التي نصت على انسحاب الانجليز الى منطقة قناة السويس الا انه وبسبب الحرب العالمية الثانية استمر تواجد القوات الانجليزية طوال الحرب حتى جلت عنها في مارس 1947 .. وفي سنة 1953 هدمت الحكومة المصرية بعد الثورة تلك الثكنات بسبب ذكرياتها لعصر الاحتلال ورمزيتها ، وقد بنى مكان جزء منها فندق هيلتون الذي افتتح في فبراير 1959 كما بنى مكان جزء اخر منها جامعة الدول العربية الذي افتتح في مارس 1960 ، ومعها تم اعادة تخطيط الميدان (وسمي بميدان التحرير منذ سنة 1953 )
2- سراي الاسماعيلية .. تنسب الى منشئها الخديو اسماعيل في سنة 1868 وفي اواخر القرن التاسع عشر صارت السراي مقرا للمعتمد العالي العثماني ( وهو على غرار المعتمد الانجليزي ولكن كانت سلطته اسمية ) حتى سنة 1908 كانت تحمل رقم 24 شارع مصر العتيقة ( شارع قصر العيني الحالي ) وفي سنة 1910 بدئ في هدمها ولكنه توقف .. وفي سنة 1924 اتخذ جزءا منها مقرا لادارة المرور كما اتخذ جزء آخر مخزنا لمصلحة المساحة .. ثم تم هدمها في نهاية سنة 1938 ، ثم اخذ نفس مساحتها الشمالية لتوسعة ميدان الخديو اسماعيل بينما بني في سنة 1951 على نصف مساحتها الجنوبية مجمع التحرير الحالي وتم افتتاحه نهاية سنة 1952
3- قصر الامير كمال الدين حسين .. قصر الامير كمال الدين حسين – وهو احد امراء اسرة محمد علي وهو ابن السلطان حسين كمال سلطان مصر ، ويسجل له التاريخ اعتذاره عن قبول عرش مصر خلفا لابيه في سنة 1917 وانتقلت ملكية القصر لأرملة الأمير " الاميرة نعمة الله " حتى اشترته الحكومة سنة 1934 ليكون مقرا لوزارة الخارجية ولا يزال القصر تابعا لوزارة الخارجية الى اليوم . ويوجد الى جنوب قصرا اخر توسعت فيه وزارة الخارجية في سنة 1954 وجعلت هناك معهدا للدراسات الدبلوماسية .
4- قصر احمد خيرت باشا ( قصر جانا كليس ) .. يقع القصر في الجانب الشرقي لموضع ميدان الاسماعيلية واصلها اراضي زراعية تم تقسيمها في عهد الخديو اسماعيل فيما يعرف بحي الاسماعيلية حيث اقيمت هناك الفيلات والقصور ومنها قصر البستان ( هدم بالكامل ولم يبق له اثر ) وقصر احمد خيرت باشا الذي كان ناظرا للمعارف في سنة 1882-1883 وكان القصر يمتد من ميدان الاسماعيلية غربا حتى شارع الفلكي الحالي شرقا كما ان حدائقه كانت تشمل شارع محمد محمود الحالي الذي لم يكن موجودا ىنذاك .. ثم اصبح منذ اواخر القرن التاسع عشر قصرا يمتلكه ويسكنه المليونير اليوناني " نستور جاناكليس " وفي الفترة من سنة 1906 الى نهاية سنة 1908 شغلت السفارة الفرنسية الجزء الشمالي من هذا القصر ، اما في الفترة ما بين ديسمبر 1908 الى نوفمبر 1918 شغلت الجامعة الاهلية الدور الاول منه ، كما شغلت الجمعية الخديوية للاقتصاد السياسي والاحصاء والتشريع الدور العلوي منه ( حتى انتقلت الى مكانها الحالي بشارع رمسيس امام مبنى الشهر العقاري ) وشغل اتحاد النساء المصريات جناحا من القصر . وفي سنة 1915 شغلت المدرسة السعيدية الدور العلوي منه حتى عادت الى مبناها الاصلي سنة 1919 . واخيرا من سنة 1920 الى الان شغلتها الجامعة الامريكية بالقاهرة .
5- جامع الشيخ العبيط ( عمر مكرم ) .. ينسب المسجد الى الشيخ محمد العبيط المدفون به ، وكان يعيش في عصر محمد علي باشا ، والذي كان يدسه في وسط خصومه للتجسس واخبار الوالي عنهم .. وفي سنة 1868 جدد الخديو اسماعيل المسجد وادخله ضمن سراي الاسماعيلية حيث كان يقع في الركن الجنوبي الغبي منه وقد هدم المسجد وبنى مكانه جامع عمر مكرم الحالي حيث افتتح غي فبراير 1956..
6- المتحف المصري .. في عهد الخديو عباس حلمي الثاني قررت الحكومة المصرية اقامة مبنى جديد للمتحف المصري وتم وضع حجر الاساس في ابريل 1897 في موقع شمال ميدان الاسماعيلية وكانت ارضا زراعية ، وفي نوفمبر 1902 افتتح الخديو عباس حلمي الثاني المتحف المصري او دار التحف والاثار والعاديات ، ونقلت اليهالاثار الفرعونية من سراي الجيزة ومبنى متحف بولاق الذي اسسه الخديو اسماعيل بمناسبة زيارة السلطان العثماني لمصر .
تلك العمائر وغيرها تسجل حكايات من تاريخ الميدان لكل منها حكاية عاشها المجتمع وعاصرها المكان .. والميدان .. ولسنا هنا في محل رصد لكل العمائر او الاسترسال في رواية حكاياتها ولكننا نفتح العقول لقراءة تاريخ المكان بوعي وموضوعية لفهم وادراك ماهية الميدان في ذاكرة المدينة ، وتكتمل الرواية بادراك ثانيا ارتباط هذا الموقع بالمدينة من خلال محاور واعصاب حركة وشوارع تحمل مسمياتها دلالات اخرى لحكايات الميدان ، ثم ثالثا نكشف الحجاب عن خفايا تلك او بعض الاحداث المجتمعية ولا سيما الشعبية السياسية في قلب الميدان والتي تعتبر في مجموعها وتتابعها محطات في الحراك الشعبي المصري منذ نهاية القرن التاسع عشر والى اليوم ..
أما عن تلك الشرايين الرابطة بين الميدان بوابة القاهرة الغربية وبين احياء وخطط القاهرة الجديدة او المستحدثة منذ مشروع الخديو اسماعيل " باريس الشرق " ، يأتي في مقدمتها كوبري قصر النيل ثم الشوارع المشعة من هذا المركز " ميدان الاسماعيلية " ومنها على سبيل المثال :
شارع قصر العيني
شارع محمد محمود ( القاصد سابقا )
شارع التحرير وشارع البستان
شارع شامبليون وشارع مارييت
شارع سليمان باشا ( طلعت حرب حاليا )
شارع قصر النيل
شارع الملكة نازلي ( رمسيس حاليا ) وشارع الجلاء
ويتصدر هذا المشهد شارع محمد محمود بحكم الاحداث التى عاشها ونعيشها اليوم .
شارع محمد محمود ..
لم يكن الشارع مفتوحا من ميدان الاسماعيلية حتى شارع يوسف الجندي الحالي ، وذلك رغم وجود قرار سابق بفتحه ، وقد جرى ببطء نزع الملكيات التي تعترض شقه ، وكان اخرها سنة 1936 وهو حديقة مدرسة الليسيه الفرنسية التي كانت تمتد الى جنوب مبناها الحالي ، وبذلك اتصل شارع القاصد بميدان الاسماعيلية ، وتم تغيير اسمه الى شارع محمد محمود . ومحمد محمود باشا احد اهم مشاهير رجال السياسة المصرية في النصف الاول من القرن العشرين ، اطلقت عليه الصحافة المصرية لقب " ذو اليد الحديدية " وعلق على هذه التسمية عباس العقاد بمقولته الشهيرة : يد من حديد في ذراع من جريد .. وكان محمد محمود باشا من الاعضاء البارزين في حزب الوفد ، وعقب سنة 1919 وتحديدا سنة 1926 تولى وزارة المالية ووزارة الداخلية ووزارة الخارجية بالانابة ، حتى سنة 1928 حين تولى لاول مرة رئاسة الوزراء خلفا لوزارة مصطفى النحاس التي اقالها الملك فؤاد .. وتولى محمد محمود باشا رئاسة الوزراء فيما بعد اربع مرات كان اخرها سنة 1938 بعد ان كان رئيسا لحزب الاحرار الدستوريين حتى وفاته سنة 1941 ..
ويوجد خلف عمارة بحري المطلة على الجانب الشرقي للميدان شارع قصير هو شار " الامير قدادار " الذي يوصل شارع محمد محمود بشارع التحرير الحالي ، وقد كان هذا الشارع القصير في النصف الاول من القرن العشرين بمثابة شارع الصحافة وقد ارتبط مكانيا بشارع محمد محمود نفسه ، وتعود تسمية " شارع الصحافة " تلك لهذا الشارع القصير نظرا لوجود عمارتان كانتا بها ادارات بعض المجلات والجرائد حينها ، والعمارتان لا تزال موجودتين وهما
• العمارة رقم 2 ناصية شارع التحرير ، حيث كان فيها :
1- مجلة الرقيب في سنتى 1927-1928
2- مجلة روزاليوسف بدلا من مجلة الرقيب
3- مجلة مصلر الحرة سنة 1929
4- مجلة الربيع من سنة 1930-1935
5- مجلة اخر ساعة من سنة 1932-1938
• العمارة رقم 9 بين شارع محمد محمود وشارع منشأة الفاضل حيث كان فيها ..
1- دار الهلال بين سنة 1923-1942
2- جريدة ابو الهول سنة 1923-1930
3- مجلة الاحوال في سنة 1924
4- مجلة الصباح من سنة 1926-1929
اما عن التفاعل المجتمعي والشعبي من خلال الاحداث التي شهدها الميدان وسجلت مراحل في حراك المجتمع المصري ومطالباته بحقوقه على مدى ما يقرب من القرن ونصف القرن ، فانها في مجموعها تمثل حكاية متتابعة الفصول ارتبطت بالميدان وسجلت معه وفيه تاريخ هذا المجتمع وكفاحه وفعالياته ومواقفه الشعبية قبل الرسمية او المؤسسية .ز
ونظرا لجغرافية المكان وموقعه في قلب العاصمة ارتبط بتلك التفاعلات المجتمعية واصبح مسرحا لها ولأحداثها السياسية الوطنية والمؤثرة في تاريخ المجتمع والمدينة والدولة ، فارتباط المكان والميدان بالمراكز الفاعلة في الدولة قديما وحديثا .. فهنا كانت ثكنات اللانجليز والشوارع المؤدية الى مقر المندوب السامي الانجليزي والى بيت زعيم الامة " سعد زغلول " والى مجلس الوزراء والبرلمان ووزارة الداخلية ، والى قصر عابدين مقر الملك .. ببساطة نحن في قلب مؤسسات الدولة والحكم ، كما اننا في قلب المدينة ومدخل العاصمة ..
ومن هذه الفعاليات والاحداث على سبيل الاسترشاد وليس الحصر ..
1882 يوم حزين في تاريخ الوطن
وصلت قوات جيش الاحتلال الانجليزي لقلب العاصمة في سبتمبر 1882 الى ميدان الاسماعيلية واتخذت من ثكنات قصر النيل مستقرا لها لتحط فيه رحالها بعد ان كانت الثكنات مقرا لنظارة الحربية وللجيش المصري .. وعندها شهد الميدان في ذات الشهر حين عاد الخديو توفيق الى القاهرة في حماية قوات الاحتلال ونزل في سراي الاسماعيلية كان موكبا مخزيا وكانت لحظة تاريخية تجري احداثها على ارض الميدان ، وكانت الاعلان عن رمزية كفاح المصريين الوطنيين ضد الاحتلال ترسخت في وعي وذاكرة المجتمع في صمت صراع المصريين مع المحتل والظلم والتبعية المؤسفة للحاكم الغازي المحتل ..
1935 – انتفاضة الطلبة في الميدان
كانت انتفاضة الطلبة سنة 1935 احد المشاهد التاريخية التي عرفها الميدان والتي جاءت كرد فعل لتصريح وزير خارجية انجلترا وبعد تعطيل الملك فؤاد للدستور ورفض العودة لدستور 1923 ، وكان رد فعل الطلبة اهم القوى المؤثرة في الملعب السياسي وقرر الطلبة الاضراب العام في نوفمبر 1935 وخرجوا من اسوار الجامعة متجهين لبيت الامة واستمر اندفاع الطلبة اسبوعين ، سقط فيها شهداء .. وانتهت بنجاح المظاهرات وانتفاضة الطلبة ومن ورائهم الامة بعودة العمل بدستور 1923 وكان الميدان في هذه اللحظة حاضرا في المشهد ، بل في مقدمة المشهد ..
1946 الانتفاضة الشعبية
انطلقت المظاهرات في فبراير 1946 في يوم اتفقت عليه القوى السياسية انه يوم الجلاء بعد فشل المفاوضات بين حكومة النقراشي والانجليز ، اخذت المظاهرات السلمية في حالة توحد عاشها المجتمع المصري باعلان الاضراب العام ، واتخذت من ميادين العاصمة مسرحا للتعبير عن موقفهم وكان ميدان الخديو اسماعيل متصدرا المشهد ، ومنه اتجهت المظاهرات الى القنصلية الانجليزية ، واجهتها قوات الانجليز من ثكناتهم بالرصاص وسقط الشهداء على ارض الميدان مسجلين مطالبهم بالجلاء والحرية ، وسجل الميدان الموقف الوطني الشعبي في حقوقه المشروعة ..
1951 مظاهرة مليونية
في يوم 14 نوفمبر 1951 شهد الميدان مظاهرة مليونية كبرى زاد عددها عن المليونين خرجت من قلب مصر الى الميدان قلب المدينة .. خرجت من خلف البيوت المغلقة بهموم الوطن الى ميدان الخديو اسماعيل وكانت المظاهرة على خلفية الغاء النحاس باشا معاهدة 1936 ، وكانت انطلاقة مرحلة جديدة من الكفاح الوطني وكانت للمظاهرة مطلب اساسي هو رحيل المحتل الانجليزي عن ارض مصر ، وفي نفس الوقت احياء وتخليد ذكرى شهداء الامة على ارض الميدان .. كل الميادين ، وكانت المشاركة جماعية لكل طوائف المجتمع خرجت فيها المرأة المصرية في هذه التظاهرة الكبرى او كما اطلق عليها موكب الشهداء ..
1953 الضباط الاحرار في الميدان
مشهد اخر للميدان يظهر فيه على خلفية ثورة يوليو 1952 ، يظهر فيه الميدان في فعالية مباركة الشعب لثورة الجيش ، ثوار يوليو عرفوا طريقهم للميدان في يناير 1953 في مهرجان اطلق عليه مهرجان التحرير وفي هذه الفاعلية اعلن اللواء محمد نجيب الذي كان يتصدر شرفيا حركة الضباط الاحرار بيانا في الميدان بقيام هيئة التحرير وهي تنظيم شعبي ينطوي تحته المصريون كبديل للاحزاب السياسية المتناحرة على السلطة والتي صدر قرار بحلها .. حالة من التوهج الشعبي والوطني استضافتها ارض الميدان الذي اعلن ليكون ميدانا للتحرير فعلا وتسمية .. بعد ان حمل الميدان في ذاكرته انتفاضات ومظاهرات الامة المصرية خلال عقود طلبا للحرية .
شهد وشارك في هذه الفاعلية ما يزيد عن المليون مصري مؤيدين ومعلنين بداية مرحلة جديدة للامة والوطن ..
2011 انتفاضة الحراك الثوري للتغيير
حكاية بدأت 25 يناير 2011 ومازلت احداثها جارية على ارض الميدان وفي قلب الوطن .. سيأتي زمان روايتها بعد ان تتضح صورها الحق والحقيقة ..
هنا كانت بداية .. وهنا نبحث عن نهاية لنبدأ من جديد ..
هذه رحلة من قصاصات الزمان وقفنا فيها عند محطات في تاريخ المكان من حكايات الميدان .. بدأت هنا والرواية فصولها مستمرة رسمت الخريطة الوطنية والثقافية والزمانية للميدان والعمارة والانسان ..
هي مجرد بعض من كل ..
قصاصات من ارشيف مكتبة مركز طارق والي العمارة والتراث .. تحكي لمن لايعرف وترشد من لا يعي .. صادقة بقدر مصداقيتها ..
ميدان الاسماعيلية
ميدان الكوبري
ميدان الخديو اسماعيل
ميدان الحرية – التحرير
ميدان السادات
مسميات لذات المكان كل منها تحكي حكاية للميدان والمدينة والانسان ..
تاريخ مكان .. يحمل ذاكرة المدينة ، وتهدف روايته الى تعميق فكرة الانتماء والحفاظ على ذاكرة المكان ذاته في وجدان المجتمع والانسان ابن المدينة ، نرسم من خلالها خريطة زمانية وثقافية تعيش لتبقى حية وفاعلة في ضمير وهوية هذا الانسان ، زائر الميدان أو العابر فيه .. هذا الميدان الذي تصدر امس واليوم المشهد في حياة المصريين بما جرى فيه من احداث وتفاعلات ، وبما يضمه من عمائر كانت أو استمرت وعما تخرج عنه من شوارع تحكي حكايات وتحمل مسميات لها دلا لتها وتاريخها ..
بدأ التاريخ المعاصر للمكان من ستينات القرن التاسع عشر مع احلام الخديو اسماعيل بباريس الشرق بتنمية حي الاسماعيلية هذا المشروع الذي خرج عن القاهرة وسكانها . كان يطلق على المكان في العصر المملوكي اسم زريبة قوصون وشانه شان بقية الاراضي المطلة على النيل يغلب عليها النمط الزراعي وتربية الحيوانات ، واستمر الحال خلال المرحلة العثمانية ( عصر الولاية ؟) – حتى القرن التاسع عشر حينما بدأ بإزالة التلال والزراعات وردم البرك التي كانت تنتشر غرب المدينة حتى ضفاف النهر ، وتغيرت معها مورفولوجية المكان وطبيعتها العمرانية من امتداد شارع عماد الدين الحالي والازبكية وجنوبا الى قصر العيني ، وشملت المنطقة أخطاط أحياء الاسماعيلية والتوفيقية ومعروف وباب اللوق والدواوين والقاصد والانشاء والجواياني والمنيرة .. ولاحقا أحياء قصر الدوبارة وجاردن سيتي في مطلع القرن العشرين .. ولكل من تلك المسميات اصل تاريخي في ذاكرة " القاهرة المحروسة " ، يرتبط بالزمان والمكان والمجتمع . وكان موضع ما عرف باسم ميدان الاسماعيلية في الربع الاخير من القرن التاسع عشر – يتوسط تلك الاخطاط بل وبوابتها من جهة الجزيرة ولا سيما بعد افتتاح كوبري قصر النيل تحديدا سنة 1872 وكان اول كوبري يربط شرق النيل والقاهرة بالجزيرة ومن ثم بالضفة الغربية للنيل ..
وقد تعاقبت على هذا الميدان عدة مسميات هي :
ميدان الكوبري
ميدان قصر النيل
ميدان الاسماعيلية
ميدان الخديو اسماعيل ( في يونيو 1933 )
ميدان الحرية ( شعبيا وصحفيا 1952 )
ميدان التحرير ( في يناير 1953 )
ميدان السادات ( في ثمانينات القرن العشرين )
وانتشرت حول هذا الموضع من المدينة ( الميدان ) قصور الامراء والحكام والنخب المجتمعية والسياسية ، وكذلك العمائر المدنية والمباني والمنشآت العامة ، ومنها على سبيل المثال وليس الحصر :
1- سراي قصر النيل .. كان يوجد في غرب القاهرة ( غرب موضع الميدان ) أحد القصور الشهيرة " قصر النيل " وقد أنشاه محمد على باشا والي مصر لابنته نازلي هانم ، ثم اشتراه منها سعيد باشا بعد ان تولى حكم مصر وهدمه وبدأ في سنة 1853 في انشاء ثكنات عسكرية مكانه ، وقد تم بناءها في سنة 1863 في عهد الخديو اسماعيل لتكون مقرا لنظارة الحربية ومدرسة الحربية وقيادة الجيش المصري حينها ,, وبعد الاحتلال الانجليزي سنة 1882 اصبحت ثكنات للجيش الانجليزي في العاصمة .. وكان يتبع هذه الثكنات في غربها حرم او ساحة مغلقة مطلة على النيل مباشرة كما كان يتبعها في شرقها ساحة اخرى مسورة شاسعة تشغل معظم مساحة الميدان بوضعيته الحالية .. وكان كلتا الساحتين الشرقية والغربية يستعملا للتدريبات العسكرية وكمطار عسكري لطائرات الهليوكوبتر للجيش الانجليزي المحتل للبلاد .. كما انشأ الانجليز خط سكة حديد عسكري يصل بين هذه الثكنات ومحطة مصر عند بابا الحديد ( عبر شارع الجلاء الحالي ) ، كذلك انشأ الانجليز في الطرف الجنوبي الشرقي يمين هذه الساحة الشاسعة كنيسة لجنودهم أسموها” Garrisan Church “ ورغم توقيع معاهدة 1936 التي نصت على انسحاب الانجليز الى منطقة قناة السويس الا انه وبسبب الحرب العالمية الثانية استمر تواجد القوات الانجليزية طوال الحرب حتى جلت عنها في مارس 1947 .. وفي سنة 1953 هدمت الحكومة المصرية بعد الثورة تلك الثكنات بسبب ذكرياتها لعصر الاحتلال ورمزيتها ، وقد بنى مكان جزء منها فندق هيلتون الذي افتتح في فبراير 1959 كما بنى مكان جزء اخر منها جامعة الدول العربية الذي افتتح في مارس 1960 ، ومعها تم اعادة تخطيط الميدان (وسمي بميدان التحرير منذ سنة 1953 )
2- سراي الاسماعيلية .. تنسب الى منشئها الخديو اسماعيل في سنة 1868 وفي اواخر القرن التاسع عشر صارت السراي مقرا للمعتمد العالي العثماني ( وهو على غرار المعتمد الانجليزي ولكن كانت سلطته اسمية ) حتى سنة 1908 كانت تحمل رقم 24 شارع مصر العتيقة ( شارع قصر العيني الحالي ) وفي سنة 1910 بدئ في هدمها ولكنه توقف .. وفي سنة 1924 اتخذ جزءا منها مقرا لادارة المرور كما اتخذ جزء آخر مخزنا لمصلحة المساحة .. ثم تم هدمها في نهاية سنة 1938 ، ثم اخذ نفس مساحتها الشمالية لتوسعة ميدان الخديو اسماعيل بينما بني في سنة 1951 على نصف مساحتها الجنوبية مجمع التحرير الحالي وتم افتتاحه نهاية سنة 1952
3- قصر الامير كمال الدين حسين .. قصر الامير كمال الدين حسين – وهو احد امراء اسرة محمد علي وهو ابن السلطان حسين كمال سلطان مصر ، ويسجل له التاريخ اعتذاره عن قبول عرش مصر خلفا لابيه في سنة 1917 وانتقلت ملكية القصر لأرملة الأمير " الاميرة نعمة الله " حتى اشترته الحكومة سنة 1934 ليكون مقرا لوزارة الخارجية ولا يزال القصر تابعا لوزارة الخارجية الى اليوم . ويوجد الى جنوب قصرا اخر توسعت فيه وزارة الخارجية في سنة 1954 وجعلت هناك معهدا للدراسات الدبلوماسية .
4- قصر احمد خيرت باشا ( قصر جانا كليس ) .. يقع القصر في الجانب الشرقي لموضع ميدان الاسماعيلية واصلها اراضي زراعية تم تقسيمها في عهد الخديو اسماعيل فيما يعرف بحي الاسماعيلية حيث اقيمت هناك الفيلات والقصور ومنها قصر البستان ( هدم بالكامل ولم يبق له اثر ) وقصر احمد خيرت باشا الذي كان ناظرا للمعارف في سنة 1882-1883 وكان القصر يمتد من ميدان الاسماعيلية غربا حتى شارع الفلكي الحالي شرقا كما ان حدائقه كانت تشمل شارع محمد محمود الحالي الذي لم يكن موجودا ىنذاك .. ثم اصبح منذ اواخر القرن التاسع عشر قصرا يمتلكه ويسكنه المليونير اليوناني " نستور جاناكليس " وفي الفترة من سنة 1906 الى نهاية سنة 1908 شغلت السفارة الفرنسية الجزء الشمالي من هذا القصر ، اما في الفترة ما بين ديسمبر 1908 الى نوفمبر 1918 شغلت الجامعة الاهلية الدور الاول منه ، كما شغلت الجمعية الخديوية للاقتصاد السياسي والاحصاء والتشريع الدور العلوي منه ( حتى انتقلت الى مكانها الحالي بشارع رمسيس امام مبنى الشهر العقاري ) وشغل اتحاد النساء المصريات جناحا من القصر . وفي سنة 1915 شغلت المدرسة السعيدية الدور العلوي منه حتى عادت الى مبناها الاصلي سنة 1919 . واخيرا من سنة 1920 الى الان شغلتها الجامعة الامريكية بالقاهرة .
5- جامع الشيخ العبيط ( عمر مكرم ) .. ينسب المسجد الى الشيخ محمد العبيط المدفون به ، وكان يعيش في عصر محمد علي باشا ، والذي كان يدسه في وسط خصومه للتجسس واخبار الوالي عنهم .. وفي سنة 1868 جدد الخديو اسماعيل المسجد وادخله ضمن سراي الاسماعيلية حيث كان يقع في الركن الجنوبي الغبي منه وقد هدم المسجد وبنى مكانه جامع عمر مكرم الحالي حيث افتتح غي فبراير 1956..
6- المتحف المصري .. في عهد الخديو عباس حلمي الثاني قررت الحكومة المصرية اقامة مبنى جديد للمتحف المصري وتم وضع حجر الاساس في ابريل 1897 في موقع شمال ميدان الاسماعيلية وكانت ارضا زراعية ، وفي نوفمبر 1902 افتتح الخديو عباس حلمي الثاني المتحف المصري او دار التحف والاثار والعاديات ، ونقلت اليهالاثار الفرعونية من سراي الجيزة ومبنى متحف بولاق الذي اسسه الخديو اسماعيل بمناسبة زيارة السلطان العثماني لمصر .
تلك العمائر وغيرها تسجل حكايات من تاريخ الميدان لكل منها حكاية عاشها المجتمع وعاصرها المكان .. والميدان .. ولسنا هنا في محل رصد لكل العمائر او الاسترسال في رواية حكاياتها ولكننا نفتح العقول لقراءة تاريخ المكان بوعي وموضوعية لفهم وادراك ماهية الميدان في ذاكرة المدينة ، وتكتمل الرواية بادراك ثانيا ارتباط هذا الموقع بالمدينة من خلال محاور واعصاب حركة وشوارع تحمل مسمياتها دلالات اخرى لحكايات الميدان ، ثم ثالثا نكشف الحجاب عن خفايا تلك او بعض الاحداث المجتمعية ولا سيما الشعبية السياسية في قلب الميدان والتي تعتبر في مجموعها وتتابعها محطات في الحراك الشعبي المصري منذ نهاية القرن التاسع عشر والى اليوم ..
أما عن تلك الشرايين الرابطة بين الميدان بوابة القاهرة الغربية وبين احياء وخطط القاهرة الجديدة او المستحدثة منذ مشروع الخديو اسماعيل " باريس الشرق " ، يأتي في مقدمتها كوبري قصر النيل ثم الشوارع المشعة من هذا المركز " ميدان الاسماعيلية " ومنها على سبيل المثال :
شارع قصر العيني
شارع محمد محمود ( القاصد سابقا )
شارع التحرير وشارع البستان
شارع شامبليون وشارع مارييت
شارع سليمان باشا ( طلعت حرب حاليا )
شارع قصر النيل
شارع الملكة نازلي ( رمسيس حاليا ) وشارع الجلاء
ويتصدر هذا المشهد شارع محمد محمود بحكم الاحداث التى عاشها ونعيشها اليوم .
شارع محمد محمود ..
لم يكن الشارع مفتوحا من ميدان الاسماعيلية حتى شارع يوسف الجندي الحالي ، وذلك رغم وجود قرار سابق بفتحه ، وقد جرى ببطء نزع الملكيات التي تعترض شقه ، وكان اخرها سنة 1936 وهو حديقة مدرسة الليسيه الفرنسية التي كانت تمتد الى جنوب مبناها الحالي ، وبذلك اتصل شارع القاصد بميدان الاسماعيلية ، وتم تغيير اسمه الى شارع محمد محمود . ومحمد محمود باشا احد اهم مشاهير رجال السياسة المصرية في النصف الاول من القرن العشرين ، اطلقت عليه الصحافة المصرية لقب " ذو اليد الحديدية " وعلق على هذه التسمية عباس العقاد بمقولته الشهيرة : يد من حديد في ذراع من جريد .. وكان محمد محمود باشا من الاعضاء البارزين في حزب الوفد ، وعقب سنة 1919 وتحديدا سنة 1926 تولى وزارة المالية ووزارة الداخلية ووزارة الخارجية بالانابة ، حتى سنة 1928 حين تولى لاول مرة رئاسة الوزراء خلفا لوزارة مصطفى النحاس التي اقالها الملك فؤاد .. وتولى محمد محمود باشا رئاسة الوزراء فيما بعد اربع مرات كان اخرها سنة 1938 بعد ان كان رئيسا لحزب الاحرار الدستوريين حتى وفاته سنة 1941 ..
ويوجد خلف عمارة بحري المطلة على الجانب الشرقي للميدان شارع قصير هو شار " الامير قدادار " الذي يوصل شارع محمد محمود بشارع التحرير الحالي ، وقد كان هذا الشارع القصير في النصف الاول من القرن العشرين بمثابة شارع الصحافة وقد ارتبط مكانيا بشارع محمد محمود نفسه ، وتعود تسمية " شارع الصحافة " تلك لهذا الشارع القصير نظرا لوجود عمارتان كانتا بها ادارات بعض المجلات والجرائد حينها ، والعمارتان لا تزال موجودتين وهما
• العمارة رقم 2 ناصية شارع التحرير ، حيث كان فيها :
1- مجلة الرقيب في سنتى 1927-1928
2- مجلة روزاليوسف بدلا من مجلة الرقيب
3- مجلة مصلر الحرة سنة 1929
4- مجلة الربيع من سنة 1930-1935
5- مجلة اخر ساعة من سنة 1932-1938
• العمارة رقم 9 بين شارع محمد محمود وشارع منشأة الفاضل حيث كان فيها ..
1- دار الهلال بين سنة 1923-1942
2- جريدة ابو الهول سنة 1923-1930
3- مجلة الاحوال في سنة 1924
4- مجلة الصباح من سنة 1926-1929
اما عن التفاعل المجتمعي والشعبي من خلال الاحداث التي شهدها الميدان وسجلت مراحل في حراك المجتمع المصري ومطالباته بحقوقه على مدى ما يقرب من القرن ونصف القرن ، فانها في مجموعها تمثل حكاية متتابعة الفصول ارتبطت بالميدان وسجلت معه وفيه تاريخ هذا المجتمع وكفاحه وفعالياته ومواقفه الشعبية قبل الرسمية او المؤسسية .ز
ونظرا لجغرافية المكان وموقعه في قلب العاصمة ارتبط بتلك التفاعلات المجتمعية واصبح مسرحا لها ولأحداثها السياسية الوطنية والمؤثرة في تاريخ المجتمع والمدينة والدولة ، فارتباط المكان والميدان بالمراكز الفاعلة في الدولة قديما وحديثا .. فهنا كانت ثكنات اللانجليز والشوارع المؤدية الى مقر المندوب السامي الانجليزي والى بيت زعيم الامة " سعد زغلول " والى مجلس الوزراء والبرلمان ووزارة الداخلية ، والى قصر عابدين مقر الملك .. ببساطة نحن في قلب مؤسسات الدولة والحكم ، كما اننا في قلب المدينة ومدخل العاصمة ..
ومن هذه الفعاليات والاحداث على سبيل الاسترشاد وليس الحصر ..
1882 يوم حزين في تاريخ الوطن
وصلت قوات جيش الاحتلال الانجليزي لقلب العاصمة في سبتمبر 1882 الى ميدان الاسماعيلية واتخذت من ثكنات قصر النيل مستقرا لها لتحط فيه رحالها بعد ان كانت الثكنات مقرا لنظارة الحربية وللجيش المصري .. وعندها شهد الميدان في ذات الشهر حين عاد الخديو توفيق الى القاهرة في حماية قوات الاحتلال ونزل في سراي الاسماعيلية كان موكبا مخزيا وكانت لحظة تاريخية تجري احداثها على ارض الميدان ، وكانت الاعلان عن رمزية كفاح المصريين الوطنيين ضد الاحتلال ترسخت في وعي وذاكرة المجتمع في صمت صراع المصريين مع المحتل والظلم والتبعية المؤسفة للحاكم الغازي المحتل ..
1935 – انتفاضة الطلبة في الميدان
كانت انتفاضة الطلبة سنة 1935 احد المشاهد التاريخية التي عرفها الميدان والتي جاءت كرد فعل لتصريح وزير خارجية انجلترا وبعد تعطيل الملك فؤاد للدستور ورفض العودة لدستور 1923 ، وكان رد فعل الطلبة اهم القوى المؤثرة في الملعب السياسي وقرر الطلبة الاضراب العام في نوفمبر 1935 وخرجوا من اسوار الجامعة متجهين لبيت الامة واستمر اندفاع الطلبة اسبوعين ، سقط فيها شهداء .. وانتهت بنجاح المظاهرات وانتفاضة الطلبة ومن ورائهم الامة بعودة العمل بدستور 1923 وكان الميدان في هذه اللحظة حاضرا في المشهد ، بل في مقدمة المشهد ..
1946 الانتفاضة الشعبية
انطلقت المظاهرات في فبراير 1946 في يوم اتفقت عليه القوى السياسية انه يوم الجلاء بعد فشل المفاوضات بين حكومة النقراشي والانجليز ، اخذت المظاهرات السلمية في حالة توحد عاشها المجتمع المصري باعلان الاضراب العام ، واتخذت من ميادين العاصمة مسرحا للتعبير عن موقفهم وكان ميدان الخديو اسماعيل متصدرا المشهد ، ومنه اتجهت المظاهرات الى القنصلية الانجليزية ، واجهتها قوات الانجليز من ثكناتهم بالرصاص وسقط الشهداء على ارض الميدان مسجلين مطالبهم بالجلاء والحرية ، وسجل الميدان الموقف الوطني الشعبي في حقوقه المشروعة ..
1951 مظاهرة مليونية
في يوم 14 نوفمبر 1951 شهد الميدان مظاهرة مليونية كبرى زاد عددها عن المليونين خرجت من قلب مصر الى الميدان قلب المدينة .. خرجت من خلف البيوت المغلقة بهموم الوطن الى ميدان الخديو اسماعيل وكانت المظاهرة على خلفية الغاء النحاس باشا معاهدة 1936 ، وكانت انطلاقة مرحلة جديدة من الكفاح الوطني وكانت للمظاهرة مطلب اساسي هو رحيل المحتل الانجليزي عن ارض مصر ، وفي نفس الوقت احياء وتخليد ذكرى شهداء الامة على ارض الميدان .. كل الميادين ، وكانت المشاركة جماعية لكل طوائف المجتمع خرجت فيها المرأة المصرية في هذه التظاهرة الكبرى او كما اطلق عليها موكب الشهداء ..
1953 الضباط الاحرار في الميدان
مشهد اخر للميدان يظهر فيه على خلفية ثورة يوليو 1952 ، يظهر فيه الميدان في فعالية مباركة الشعب لثورة الجيش ، ثوار يوليو عرفوا طريقهم للميدان في يناير 1953 في مهرجان اطلق عليه مهرجان التحرير وفي هذه الفاعلية اعلن اللواء محمد نجيب الذي كان يتصدر شرفيا حركة الضباط الاحرار بيانا في الميدان بقيام هيئة التحرير وهي تنظيم شعبي ينطوي تحته المصريون كبديل للاحزاب السياسية المتناحرة على السلطة والتي صدر قرار بحلها .. حالة من التوهج الشعبي والوطني استضافتها ارض الميدان الذي اعلن ليكون ميدانا للتحرير فعلا وتسمية .. بعد ان حمل الميدان في ذاكرته انتفاضات ومظاهرات الامة المصرية خلال عقود طلبا للحرية .
شهد وشارك في هذه الفاعلية ما يزيد عن المليون مصري مؤيدين ومعلنين بداية مرحلة جديدة للامة والوطن ..
2011 انتفاضة الحراك الثوري للتغيير
حكاية بدأت 25 يناير 2011 ومازلت احداثها جارية على ارض الميدان وفي قلب الوطن .. سيأتي زمان روايتها بعد ان تتضح صورها الحق والحقيقة ..
هنا كانت بداية .. وهنا نبحث عن نهاية لنبدأ من جديد ..
هذه رحلة من قصاصات الزمان وقفنا فيها عند محطات في تاريخ المكان من حكايات الميدان .. بدأت هنا والرواية فصولها مستمرة رسمت الخريطة الوطنية والثقافية والزمانية للميدان والعمارة والانسان ..
هي مجرد بعض من كل ..
قصاصات من ارشيف مكتبة مركز طارق والي العمارة والتراث .. تحكي لمن لايعرف وترشد من لا يعي .. صادقة بقدر مصداقيتها ..
Published on August 23, 2015 01:34
القـــاهرة ... موروث متتابــــــع
إن ذروة ما يقدمه الانسان من ذاته تشكيل بيئة من إبداعه تحاور الطبيعية ، وإدراك شفرة تلك البيئة يعبر عنه بالشخصية أو الهوية .. وهي أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتنويعات وأحداث ، بل تتعدى كل هذا المجموع أو محصلته لتتسع لتراكم ابداعات الانسان المستوطن لمكان بعينه تتابعاُ أو تعاقباُ ، استمراراُ أو تقاطعاُ ، اتصالاُ أو انفصالاُ . وهو ما يمكن أن نتعارف عليه بالموروث المتتابع للعمران ، وإذا كنا نريد إدراك تلك الهوية فإننا نعتصر روح الجغرافيا والتاريخ معاً بكل تنويعاتهما وتشعباتهما حتى نستقطرهما في أدق مقولة مقبولة ومعقولة لتكون منقولة ومتوارثة
والحديث هنا عن القاهرة وعمرانها ، فكثيرا ما نتعرض لها بالدراسة أو التحليل ، بالنقد أو التعظيم ..
نتحدث عن القاهرة .. نعيشها ..
نتحرك فيها ومعها ..
ولكن هل ندركها أو نعرفها ..
هل يمكن أن نحدد ماهيتها وحدودها ..
هل نعرف لها معالم ترسم في ذاكرتنا جميعا صورة واحدة متفق عليها ..
أية قـــاهرة نقصد ... ؟؟؟
قاهــرة الزمان والتاريخ .. أم قاهـرة المكان والجغرافيا .. أم قاهـرة الإنسان وثقافته المتغيرة ..
من .. المعاصرة أو الحداثة أو مابعدها ..
إلى .. القديم في التاريخ الوسيط ومتغيراته المتتالية ..
إلى .. الأقدم في التاريخ بحلفاته المتعاقبة ..
القاهــرة المخططة ضمن سلطة دولة مركزية ..
أم القاهــرة العشوائية الفوضوية أو التلقائية في غياب الدولة ..
أم هي المتوازنة الجامعة في تعادلية بين المؤسسات المجتمعية ومؤسسات الدولة نفسها ..
قاهــرة الخاصة من قلة مسيطرة أم قاهــرة العامة من أكثرية مغلوب على أمرها ..
أم قاهــرة الحراك الاجتماعي وبالتالي العمراني لطبقات المجتمع في لحظة محددة أو على متوالية زمانية متتابعة ..
قاهــرة السياسة والدولة المركزية .. أم قاهــرة التجارة والاقتصاد وانفتاحه أو انفلاته ..
قاهــرة الفرد سواء كان مينا مؤسس أول دولة موحدة
عمرو بن العاص والفتح العربي
أو صلاح الدين الأيوبي وعودة الروح ومواجهة الآخر
أو الظاهر بيبرس وصد الهمجية وحماية الخلافة العربية
أو السلطان التركي سليم الأول الخليفة العثماني
أو علي بك الكبير وتطلعه إلى الاستقلال بولاية مصر
أو نابليون بونابرت الغازي الفرنسي الطامع
أو محمد علي باشا الوالي والنزعة التوسعية
أو اسماعيل باشا وحلم التغريب الأوروبي
أو جمال عبد الناصر والحلم القومي العربي
قاهرة هؤلاء الأفراد .. أم قاهــرة المجموع أوالمجتمع الحاضر الغائب في حياة المدينة وذاكرتها ..
قاهــرة النخبة .. أم قاهــرة العامة وأستسلامهم لارادة الفاعل وتحولهم إلى المفعول به ..
قاهــرة مصـرالمنغلقة على نفسها في خناق عمراني وحضاري ..
أم قاهــرة الأقليم ومسئوليتها عن أرتقاء وصحوة الشرق وصد هجمات الطامعين أوالطامحين أوالمحتلين من الشرق البعيد أو الغرب القريب ، أو من الداخل المسيطر والمستبد ..
أم قاهــرة العالم وقدرتها على المشاركة الفاعلة في حضارة الانسان أو غيابها الكامل عن الزمان والعالم والحضارة ..
قاهــرة التنوير والحرية أم قاهرة السكون والإستكانة ..
أية قاهـــرة نرصدها أو نقصدها أو نعيشها أو نحلم لها وبها ...
إن عمران القاهرة من قبيل المصادفة أو بحكم الوجود كما نفهمه ونقصده هو كل ذلك ، وهو موروث المجتمع المصري وليس مجرد المنقول فيه أو معه .. لذا نسأل هل القاهرة التي نبحث عنها هي مدينة أو مجموعة مدائن ..
إنها كما نراها في قراءتنا الذاتية بطبيعتها وعبقريتها وشخصيتها هي مدينة واحدة .. بحلقـات .. متقاطعة أو معزولة عن بعضها ..
متداخلة أو متجاورة مع بعضها ..
متوازنة أو متصارعة ضد بعضها ..
ولكنها دون شك كانت دوما .. ومازالت حلقات موجودة في الزمان وذات المكان .. ولا يمكن فهم تلك المدينة وعمرانها بدون فك طلاسم تلك الحلقات وهو مفتاح شخصية القاهـرة .. ومن البديهي أن دراسة عمران المكان لا يقتصر على مرحلة تاريخية معينة وإنما يترامى بعمق التجربة الحضارية نفسها .. لأنه بالدور التاريخي يمكن التعرف على الفاعلية الإيجابية للانسان وبيئته .. فإذا كان التاريخ ظل الانسان على الارض فإن العمران ظل الانسان على المكان في الزمان ، بل أن معظم التاريخ إن لم يكن حركة عمران ، فإن بعضه على الأقل عمراناً : ظاهره حدث .. وجوهره حادث .. فاعل أو مفعول .
إن هذا المنهج يعني ببساطة الانتقال من مرحلة المعرفة إلى حالة الفكر .. ومن الروايات المنقولة إلى الأفكار المعقولة ، في رحلة من إحصاء الحقائق إلى ذات الحقيقة نفسها ، من مشاهدة الحدث وتقريره إلى الكشف عن الحادث وتأصيله .. من الادراك إلى الابداع .. ويمكننا ذلك بالقراءة المتأنية لتلك الوقفات بموضوعية ومنهجية علمية وتحليلية ، من خلال ..
كتابات الرحالة والمؤرخين ..
خرائط الجغرفيين ..
رؤى المستشرقين الفنانين والمصورين ..
كتابات الأدباء أوالدراسات لأصحاب الفكر والفن والعلم الوطنيين ..
ونتتبع هنا بعض ملامح هذه المنهجية ـ ولو بشكل محدود ـ لتبيان إمكانية رسم صورة حقيقية للقاهرة عند إكتمال كافة جوانبها والمتوافقة مع العقل الجمعي للمجتمع بكل روافده ، تلك المنهجية ببعديها الجغرافي والتاريخي للقاهرة وموروثها المتتابع ..
البعد الجغرافي .. وقاهــرة المــــــكان
أما البعد الجغرافي للقاهرة نتعرف عليه ضمن عوامل كثيرة فهي قاهـرة التوازن بين النهر والوادي في مواجهة الجبل والصحراء شرق وغرب النهر ..
القاهـرة كيان عمراني موجود ومتنامي في حوار بين الجبل والنهر ..
الجبل .. المقطم ثابت في الشرق
والنهر .. النيل متغير في الغرب
والقـاهرة عمراناً متتابع بين الثابت والمتغير .. الراسخ والموسمي ..
حراك عمراني بقدر ما كان في إتجاه موازي للإثنين الجبل والنهر .. من الجنوب إلى الشمال ، كان أيضاَ في توجه متتابع من الثابت إلى والمتغير .. من الشرق إلى الغرب ..
وتبقى القاهرة عاصمة الدولة المركزية .. سواء بدورها القطري المحدود ، أو القومي العربي المتسع ، أو الإنساني الممتد ، تبقى القاهرة موجودة عند تلك النقطة المفصلية في نهاية الوادي الضيق المحدود القادم من الجنوب ، وبداية الدلتا المتسعة في إنفتاح نحو الشرق والشمال ..
قاهــرة البداية أو النهاية أو بداية النهاية أو نهاية البداية .. نهاية وادي المنبع وبداية دلتا المصب في انفتاح من الجنوب الى الشمال ..
قاهــرة التوحد بين التطلعات إلى الشمال المتوسطي ..
والتواصل والامتداد من الجنوب الافريقي ..
والتكامل مع الشرق الأسيوي ..
البعد التاريخي .. وقاهــرة الزمــــــان
أما البعد التاريخي يعتمد على قراءة الحلقات البنائية لمورفولوجية البنية الحضارية ..
قاهـرة الحضارة المصرية الأقدم ـ في منف وعين شمس وتأسيس أول دولة وعاصمة موحدة ..
قاهـرة ما قبل الاسلام ـ في حصن بابليون وتجمعات قبط مصر داخله وحوله ..
قاهـرة الفتح الاسلامي ـ في الفسطاط ثم العسكر والقطائع في مصر الطولونية ( العباسية ) ..
قاهـرة الفاطميين ـ في حصن المعزلدين الله وقصوره الملكية ..
قاهـرة المماليك ـ وأمتدادتها ما بين القلعة دار الحكم وبين حارات طبقات المجتمع العامة ..
قاهـرة الأمس القريب ما بعد الحملة الفرنسية وقيام دولة محمد على المركزية وتطلعاته التوسعية في الشرق ..
قاهـرة الفجر اللاحق مع الحركة الليبرالية في القرن العشرين نهاية بثورة يوليو وتحديث الدولة ونهضة لم تكتمل ..
قاهـرة الغد المنتظر مع صحوة قد لاندركها نحن في عمرنا القصير .. ولكنها آتية مع جيل آخر في القرن الواحد والعشرين ..
رحلة ممتدة ومتتابعة ، وخلال هذه الرحلة هناك محطات أو وقفات أو أحداث بعينها فاصلة في دور المدينة ووجودها وحالتها سواء كانت تلك الأحداث محلية أو إقليمية أو عالمية ؛ وعلى سبيل التوضيح وليس الحصر نحدد هنا أربع محطات أو حلقات في سيناريو تتابع رحلة المدينة ، أحداث لها دورها في تشكيل مورفولوجية القاهرة وهي أحداث محورية في تاريخ مصر والمنطقة والأقليم عامة ، وبالتالي المدينة والمجتمع :
• سنة 1258 كان سقوط بغداد على يد التتار وقيام دولة المماليك مع تحول سياسي في حكم مصر وإنتهاء دور الخلافة العباسية العربية ولم يبق منها إلا الصورة الرمزية التي أحتضنتها القاهرة لصبغ حكم المماليك بشرعية مفقودة ، وتنامي دور القاهرة السياسي منفردة في المشرق العربي لتصبح عاصمة الشرق وجنوب المتوسط مع إنقسام الأمة إلى قوميات وأقاليم كان المشرق العربي إحداها وعاصمته القاهرة تحت حكم زمرة المماليك .. إنفتاح اقليمي على المشرق العربي ..
• سنة 1517 كان سقوط دولة المماليك ونهاية الخلافة العربية رسمياً ، وأنتقال الخلافة إلى الاستانة وقيام الخلافة العثمانية التركية لتحل مكان الخلافة العربية ، وتتحول مصر إلى ولاية تابعة للخلافة الجديدة وأمست القاهرة عاصمة الولاية ، حقيقة أستمرت القاهرة في حراكها العمراني ولكن تغير دورها السياسي والاقليمي .. إنحسار إلى دور محلي ضمن الخلافة التركية ..
• سنة 1798 بعد قيام الثورة الفرنسية وصعود رياح التغيير والنهضة في أوروبا ، وتنامي الصراع بين الشمال والجنوب وتنازع القوى الأوروبية على السيطرة على الولايات العثمانية ومصر في مقدمتها ، مع ضعف الخلافة ـ فكانت الأطماع الأوروبية وتنامي دور المستشرقين في الشرق بداية من القرن الثامن عشر وكانت المواجهات التصادمية مع علي بك الكبير ، ثم كانت الحملة الفرنسية ونزعاتها العسكرية والاستشراقية ، وتوالدت عندئذ النزعات الأستقلالية مع محمد علي باشا اوكانت الريادة مع النخب المصرية في القاهرة .. وحينها كان للقاهرة دوراً مغايراً تتنازعها جذورها الاقليمية وانتمائاتها العربية ، وتطلعات حكامها الأوروبية في الغالب ، وكانت الذروة مع مرحلة ولاية اسماعيل باشا ومن بعده توفيق باشا والإنتهاء بالاحتلال العسكرى الإنجليزي سنة 1882 .. تبعية حضارية للغرب الأوروبي ..
• سنة 1923 بعد تنامي الحركة الوطنية المصرية نهاية القرن التاسع عشر مع العرابيين من جهة والتنويرين أمثال الشيخ محمد عبده وآخرين ، ومع مطلع القرن العشرين كان ميلاد الحركة الوطنية المصرية وتصاعد الروح الليرالية في القاهرة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية التركية نهائياً تولدت الدول القطرية في الشرق العربي فيما يشبه الأستقلال الوطني ، وتحولت مصر من ولاية عثمانية إلى دولة قطرية لها وجودها المستقل أسمياً وإن كانت تحت نير السيطرة الأوروبية ، وكان من المفترض أن تلعب دوراً قيادياً في محيطها العربي سياسياً وفكرياً وحضارياً ، وعادت القاهرة عاصمة الدولة المصرية القطرية ، ومع تنامي التيارات القومية أصبحت القاهرة مركز ونقطة جذب متفردة بموروثها التاريخي والحضاري وقدراتها في قلب الأقليم العربي باختلاف تياراتها .. تنامي دور وطني والعودة لريادة عربية ..
هذه أربع وقفات أو حلقات سبقتها حلقات في التاريخ الوسيط والقديم وتبعتها أخرى في التاريخ المعاصر بل هناك الكثير من الأحداث البينية التي تمثل محطات محورية في تشكيل القاهرة ، ولكن كان القصد هنا هو التمثيل للمنهجبة التى نراها للتعرف على القاهــرة في إطار موروثها المتتابع الذي ينتقل بنا وبالعمران كما أشرنا بداية من مرحلة المعرفة وحالة المشاهد الصامت الى مرحلة الفكر وحالة المشارك الفاعل .. ومن الحقائق المنقولة إلى الأفكار المعقولة .. من إحصاء الحقائق الى ذات الحقيقة نفسها ، من مشاهدة الحدث وتقريره إلى الكشف عن الحادث وتأصيله وتجذيره ... من الادراك إلى الابداع ..
إذن هي منظومة المناطق التراثية .. فمن جهة أخرى وعلى مستوى تفصيلي أو محلي يمكن الكشف أو قراءة هذا الموروث المتتابع للقاهرة بذات المنهجية ، فكما يمكن تطبيقه على المدينة في إطار شمولية عمرانها ودورها ، يمكن تحقيقه على مفرداتها واجزائها التي تشكل هذا النسيج العمراني . مع مراعاة أن المنهجية في شموليتها قد ترتبط بأحداث وأبعاد تاريخية وجغرافية لها ذات الشمولية ، بينما هذه المنهجية عند تطبيقها على الجزء قد تعتمد على انساق لها محليتها القطرية أو المدينية .
ولتقريب الرؤية ـ على سبيل المثال ـ نعرج الى منطقة الأزبكية أو حارة الأزبكية أو بركة الأزبكية أو بركة بطن البقرة كما كانت تسمى في العصر الوسيط من مراحل نمو القاهرة ، أرتبطت تلك المنطقة بذات الانساق للقاهرة في شموليتها ، وتلك المنهجية ببعديها الجغرافي والتاريخي للقاهرة وموروثها المتتابع ... الجغرافي في علاقة البناء العمراني للمنطقة بالنهر ..
والتاريخي بأحداثه السياسية والاقتصادية والمجتمعية ..
وبعمق الفعل الانساني في تشكيل المجتمع وتحولاته ..
ونحاول هنا قراءة تلك المنطقة التراثية داخل ذات المنظومة ..
منطقة الأزبكيـــــة .. بركة من البرك التي تشكلت نتيجة لعلاقة موسمية سنوية بين حركة فيضان النيل وأراضي الوادي المنخفضة شرق النهر ..
• مرت البركة بتغييرات في تشكيلها وحدودها ، ولكنها ظلت حتى القرن السادس عشر جزء من النسيج الأخضر للمناطق المزروعة في الوادي الفاصل بين المدينة ومناطقها الحضرية وبين النيل بوادية وأراضيه المنخفضة .
• سنة 1517 تحديداً مع سقوط الخلافة العربية وتحول في تشكيل الدولة ودخول مصر مرحلة الولاية التابعة ، وأمست القاهرة عاصمة الولاية المنوط بها فتح مجالات للتجارة الخارجية لحساب دولة الخلافة وولايتها الأخرى ، فكانت التحولات الاقتصادية ورواج الأنساق التجارية التي دفعت بتنمية بولاق الميناء النهري شمال القاهرة وربط هذا الميناء النهري مع القلب التجاري وقصبة القاهرة مروراً بمنطقة الأزبكية بشرايين حيوية .. وتحولت الأزبكية إلى متنزه عام للمجتمع للاحتفاليات العامة والخاصة ، ومحيطها منطقة نمو طبيعي لعمران القاهرة ونقطة جذب تنامت على مدي ثلاثة القرون لسكن النخب المجتمعية والزمر السياسية من جهة بالإضافة إلى استيطان الاجانب سواء من الشرقيين أو من المستشرقين الأوربيين في نهاية القرن الثامن عشر مثل حارات الروم والفرنح وغيرها ...
• سنة 1811 وهو التاريخ الفعلي لتمكن محمد علي باشا من السيطرة على مقاليد الولاية في القاهرة ، وكان عندها بداية احتكار الدولة للمقومات الاقتصادية وخاصة الأراضي الزراعية ، والتوجه المركزي للسيطرة والتحكم في شبكات الري من خلال المشروعات التي تبنتها الدولة ، وكانت بداية التحكم نسبياً في حركة النهر وفيضانه .. وتحولت بركة الأزبكية بحدودها كاملة بعد ردمها إلى متنزه حدائقي ، وأتخذ محمد علي باشا الوالي من المنطقة الغربية للأزبكية أحد مقرات السلطة الحاكمة على التوازي مع قصور القلعة وشبرا في القاهرة .. وكان هذا بداية تحولات سياسية ومجتمعية بالمنطقة أدت إلى بداية تغيير الصورة العمرانية للمنطقة ..
• سنة 1869 خلال ولاية اسماعيل باشا وبالتزامن مع مشروعات اسماعيل العمرانية في القاهرة وحلمه الأوروبي للقاهرة وأحتفالات أفتتاح قناة السويس ، تحولت الأزبكية نفسها من متنزه مجتمعي لجميع الطبقات إلى متنزه للصفوة من النخب المجتمعية وتقلصت مساحتها وأمست مركز لثقافة تلك النخب وضمت مؤسسات جديدة مثل الأوبرا ومسرح الأزبكية ... وغيرها . وبالتدريج تقلص دور الأزبكية في حياة المدينة وأنفصلت عن عوام المجتمع وأحتفاليتهم التي عاشوها معها لثلاثة قرون سابقة ؛ ومن جهة أخرى وعلى التوازي مع تنامي وتنافس القوى الأوروبية للسيطرة على موارد مصر وأستحداث أنظمة مالية ومصرفية حديثة .. تحولت الأزبكية مع تدخل رأس المال الأحنبي فى الأقتصاد المصري إلى مركز للمؤسسات المصرفية الأجنبية وتنامت معها الأحياء السكنية للجاليات الأجنبية وأستمرت حركة التغيير مع ظهور حي الاسماعيلية والتوفيقية والناصرية .. وتزاتر أنماط العمارة الأوروبية كنسق عام للمنطقة وأنشطتها ..
وختاماً .. إن تغيير الأنساق السياسية والأقتصادية وما يرتبط بها من أحداث تاريخية وتأثيرات مجتمعية سواء على المستوى الشمولي خارجياً أو داخلياً ، أو على المستوى المحلي التفصيلي هو جزء من الموروث المتتابع للمدينة .. كما أن الوضعية الجغرافية للمدينة وكياناتها وما تحمله من ثوابت ومتغيرات هي كذلك محورا من محاور هذا الموروث . وهكذا نحن نغوص في عمق المكان ونعبر الزمان بحثا عن الدر المكنون .. صورة نرسم ملامحها من تتبع الموروث العمراني والمجتمعي للقاهرة لتكون صياغة لفهم عمران القاهرة حاضرة مصر ... بعيداً عن أي تقييم عمراني أو معماري أو حتى أخلاقي وتاريخي ، ولكنها العلاقة الجدلية التي نقصدها من منهجية هذه القراءة لعمران القاهرة في بعديها المكاني والزماني ، ولتكن محاولة عودة الروح والذاكرة .. نرجو منها عند إكتمالها وبقدر جديتها وصدقها ، أن تكون فاعلة ولها مصدقياتها ، وأن تكون جادة وجديدة ، اضافة تصبو لحالة المضاف والمضاف إليه ..
ويبقى الجوهر المكين في ذات المكان والانسان واحد متوحد ..
فالعمـــــــــران هو دائماً ....
ظل الانســـــــان
على المكـــــــان
في الزمــــــــان
والموروث المتتابع لعمران القاهرة هو محصلة هذه الجدلية ...
طـــارق والي
ديسمبر 2010
والحديث هنا عن القاهرة وعمرانها ، فكثيرا ما نتعرض لها بالدراسة أو التحليل ، بالنقد أو التعظيم ..
نتحدث عن القاهرة .. نعيشها ..
نتحرك فيها ومعها ..
ولكن هل ندركها أو نعرفها ..
هل يمكن أن نحدد ماهيتها وحدودها ..
هل نعرف لها معالم ترسم في ذاكرتنا جميعا صورة واحدة متفق عليها ..
أية قـــاهرة نقصد ... ؟؟؟
قاهــرة الزمان والتاريخ .. أم قاهـرة المكان والجغرافيا .. أم قاهـرة الإنسان وثقافته المتغيرة ..
من .. المعاصرة أو الحداثة أو مابعدها ..
إلى .. القديم في التاريخ الوسيط ومتغيراته المتتالية ..
إلى .. الأقدم في التاريخ بحلفاته المتعاقبة ..
القاهــرة المخططة ضمن سلطة دولة مركزية ..
أم القاهــرة العشوائية الفوضوية أو التلقائية في غياب الدولة ..
أم هي المتوازنة الجامعة في تعادلية بين المؤسسات المجتمعية ومؤسسات الدولة نفسها ..
قاهــرة الخاصة من قلة مسيطرة أم قاهــرة العامة من أكثرية مغلوب على أمرها ..
أم قاهــرة الحراك الاجتماعي وبالتالي العمراني لطبقات المجتمع في لحظة محددة أو على متوالية زمانية متتابعة ..
قاهــرة السياسة والدولة المركزية .. أم قاهــرة التجارة والاقتصاد وانفتاحه أو انفلاته ..
قاهــرة الفرد سواء كان مينا مؤسس أول دولة موحدة
عمرو بن العاص والفتح العربي
أو صلاح الدين الأيوبي وعودة الروح ومواجهة الآخر
أو الظاهر بيبرس وصد الهمجية وحماية الخلافة العربية
أو السلطان التركي سليم الأول الخليفة العثماني
أو علي بك الكبير وتطلعه إلى الاستقلال بولاية مصر
أو نابليون بونابرت الغازي الفرنسي الطامع
أو محمد علي باشا الوالي والنزعة التوسعية
أو اسماعيل باشا وحلم التغريب الأوروبي
أو جمال عبد الناصر والحلم القومي العربي
قاهرة هؤلاء الأفراد .. أم قاهــرة المجموع أوالمجتمع الحاضر الغائب في حياة المدينة وذاكرتها ..
قاهــرة النخبة .. أم قاهــرة العامة وأستسلامهم لارادة الفاعل وتحولهم إلى المفعول به ..
قاهــرة مصـرالمنغلقة على نفسها في خناق عمراني وحضاري ..
أم قاهــرة الأقليم ومسئوليتها عن أرتقاء وصحوة الشرق وصد هجمات الطامعين أوالطامحين أوالمحتلين من الشرق البعيد أو الغرب القريب ، أو من الداخل المسيطر والمستبد ..
أم قاهــرة العالم وقدرتها على المشاركة الفاعلة في حضارة الانسان أو غيابها الكامل عن الزمان والعالم والحضارة ..
قاهــرة التنوير والحرية أم قاهرة السكون والإستكانة ..
أية قاهـــرة نرصدها أو نقصدها أو نعيشها أو نحلم لها وبها ...
إن عمران القاهرة من قبيل المصادفة أو بحكم الوجود كما نفهمه ونقصده هو كل ذلك ، وهو موروث المجتمع المصري وليس مجرد المنقول فيه أو معه .. لذا نسأل هل القاهرة التي نبحث عنها هي مدينة أو مجموعة مدائن ..
إنها كما نراها في قراءتنا الذاتية بطبيعتها وعبقريتها وشخصيتها هي مدينة واحدة .. بحلقـات .. متقاطعة أو معزولة عن بعضها ..
متداخلة أو متجاورة مع بعضها ..
متوازنة أو متصارعة ضد بعضها ..
ولكنها دون شك كانت دوما .. ومازالت حلقات موجودة في الزمان وذات المكان .. ولا يمكن فهم تلك المدينة وعمرانها بدون فك طلاسم تلك الحلقات وهو مفتاح شخصية القاهـرة .. ومن البديهي أن دراسة عمران المكان لا يقتصر على مرحلة تاريخية معينة وإنما يترامى بعمق التجربة الحضارية نفسها .. لأنه بالدور التاريخي يمكن التعرف على الفاعلية الإيجابية للانسان وبيئته .. فإذا كان التاريخ ظل الانسان على الارض فإن العمران ظل الانسان على المكان في الزمان ، بل أن معظم التاريخ إن لم يكن حركة عمران ، فإن بعضه على الأقل عمراناً : ظاهره حدث .. وجوهره حادث .. فاعل أو مفعول .
إن هذا المنهج يعني ببساطة الانتقال من مرحلة المعرفة إلى حالة الفكر .. ومن الروايات المنقولة إلى الأفكار المعقولة ، في رحلة من إحصاء الحقائق إلى ذات الحقيقة نفسها ، من مشاهدة الحدث وتقريره إلى الكشف عن الحادث وتأصيله .. من الادراك إلى الابداع .. ويمكننا ذلك بالقراءة المتأنية لتلك الوقفات بموضوعية ومنهجية علمية وتحليلية ، من خلال ..
كتابات الرحالة والمؤرخين ..
خرائط الجغرفيين ..
رؤى المستشرقين الفنانين والمصورين ..
كتابات الأدباء أوالدراسات لأصحاب الفكر والفن والعلم الوطنيين ..
ونتتبع هنا بعض ملامح هذه المنهجية ـ ولو بشكل محدود ـ لتبيان إمكانية رسم صورة حقيقية للقاهرة عند إكتمال كافة جوانبها والمتوافقة مع العقل الجمعي للمجتمع بكل روافده ، تلك المنهجية ببعديها الجغرافي والتاريخي للقاهرة وموروثها المتتابع ..
البعد الجغرافي .. وقاهــرة المــــــكان
أما البعد الجغرافي للقاهرة نتعرف عليه ضمن عوامل كثيرة فهي قاهـرة التوازن بين النهر والوادي في مواجهة الجبل والصحراء شرق وغرب النهر ..
القاهـرة كيان عمراني موجود ومتنامي في حوار بين الجبل والنهر ..
الجبل .. المقطم ثابت في الشرق
والنهر .. النيل متغير في الغرب
والقـاهرة عمراناً متتابع بين الثابت والمتغير .. الراسخ والموسمي ..
حراك عمراني بقدر ما كان في إتجاه موازي للإثنين الجبل والنهر .. من الجنوب إلى الشمال ، كان أيضاَ في توجه متتابع من الثابت إلى والمتغير .. من الشرق إلى الغرب ..
وتبقى القاهرة عاصمة الدولة المركزية .. سواء بدورها القطري المحدود ، أو القومي العربي المتسع ، أو الإنساني الممتد ، تبقى القاهرة موجودة عند تلك النقطة المفصلية في نهاية الوادي الضيق المحدود القادم من الجنوب ، وبداية الدلتا المتسعة في إنفتاح نحو الشرق والشمال ..
قاهــرة البداية أو النهاية أو بداية النهاية أو نهاية البداية .. نهاية وادي المنبع وبداية دلتا المصب في انفتاح من الجنوب الى الشمال ..
قاهــرة التوحد بين التطلعات إلى الشمال المتوسطي ..
والتواصل والامتداد من الجنوب الافريقي ..
والتكامل مع الشرق الأسيوي ..
البعد التاريخي .. وقاهــرة الزمــــــان
أما البعد التاريخي يعتمد على قراءة الحلقات البنائية لمورفولوجية البنية الحضارية ..
قاهـرة الحضارة المصرية الأقدم ـ في منف وعين شمس وتأسيس أول دولة وعاصمة موحدة ..
قاهـرة ما قبل الاسلام ـ في حصن بابليون وتجمعات قبط مصر داخله وحوله ..
قاهـرة الفتح الاسلامي ـ في الفسطاط ثم العسكر والقطائع في مصر الطولونية ( العباسية ) ..
قاهـرة الفاطميين ـ في حصن المعزلدين الله وقصوره الملكية ..
قاهـرة المماليك ـ وأمتدادتها ما بين القلعة دار الحكم وبين حارات طبقات المجتمع العامة ..
قاهـرة الأمس القريب ما بعد الحملة الفرنسية وقيام دولة محمد على المركزية وتطلعاته التوسعية في الشرق ..
قاهـرة الفجر اللاحق مع الحركة الليبرالية في القرن العشرين نهاية بثورة يوليو وتحديث الدولة ونهضة لم تكتمل ..
قاهـرة الغد المنتظر مع صحوة قد لاندركها نحن في عمرنا القصير .. ولكنها آتية مع جيل آخر في القرن الواحد والعشرين ..
رحلة ممتدة ومتتابعة ، وخلال هذه الرحلة هناك محطات أو وقفات أو أحداث بعينها فاصلة في دور المدينة ووجودها وحالتها سواء كانت تلك الأحداث محلية أو إقليمية أو عالمية ؛ وعلى سبيل التوضيح وليس الحصر نحدد هنا أربع محطات أو حلقات في سيناريو تتابع رحلة المدينة ، أحداث لها دورها في تشكيل مورفولوجية القاهرة وهي أحداث محورية في تاريخ مصر والمنطقة والأقليم عامة ، وبالتالي المدينة والمجتمع :
• سنة 1258 كان سقوط بغداد على يد التتار وقيام دولة المماليك مع تحول سياسي في حكم مصر وإنتهاء دور الخلافة العباسية العربية ولم يبق منها إلا الصورة الرمزية التي أحتضنتها القاهرة لصبغ حكم المماليك بشرعية مفقودة ، وتنامي دور القاهرة السياسي منفردة في المشرق العربي لتصبح عاصمة الشرق وجنوب المتوسط مع إنقسام الأمة إلى قوميات وأقاليم كان المشرق العربي إحداها وعاصمته القاهرة تحت حكم زمرة المماليك .. إنفتاح اقليمي على المشرق العربي ..
• سنة 1517 كان سقوط دولة المماليك ونهاية الخلافة العربية رسمياً ، وأنتقال الخلافة إلى الاستانة وقيام الخلافة العثمانية التركية لتحل مكان الخلافة العربية ، وتتحول مصر إلى ولاية تابعة للخلافة الجديدة وأمست القاهرة عاصمة الولاية ، حقيقة أستمرت القاهرة في حراكها العمراني ولكن تغير دورها السياسي والاقليمي .. إنحسار إلى دور محلي ضمن الخلافة التركية ..
• سنة 1798 بعد قيام الثورة الفرنسية وصعود رياح التغيير والنهضة في أوروبا ، وتنامي الصراع بين الشمال والجنوب وتنازع القوى الأوروبية على السيطرة على الولايات العثمانية ومصر في مقدمتها ، مع ضعف الخلافة ـ فكانت الأطماع الأوروبية وتنامي دور المستشرقين في الشرق بداية من القرن الثامن عشر وكانت المواجهات التصادمية مع علي بك الكبير ، ثم كانت الحملة الفرنسية ونزعاتها العسكرية والاستشراقية ، وتوالدت عندئذ النزعات الأستقلالية مع محمد علي باشا اوكانت الريادة مع النخب المصرية في القاهرة .. وحينها كان للقاهرة دوراً مغايراً تتنازعها جذورها الاقليمية وانتمائاتها العربية ، وتطلعات حكامها الأوروبية في الغالب ، وكانت الذروة مع مرحلة ولاية اسماعيل باشا ومن بعده توفيق باشا والإنتهاء بالاحتلال العسكرى الإنجليزي سنة 1882 .. تبعية حضارية للغرب الأوروبي ..
• سنة 1923 بعد تنامي الحركة الوطنية المصرية نهاية القرن التاسع عشر مع العرابيين من جهة والتنويرين أمثال الشيخ محمد عبده وآخرين ، ومع مطلع القرن العشرين كان ميلاد الحركة الوطنية المصرية وتصاعد الروح الليرالية في القاهرة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة العثمانية التركية نهائياً تولدت الدول القطرية في الشرق العربي فيما يشبه الأستقلال الوطني ، وتحولت مصر من ولاية عثمانية إلى دولة قطرية لها وجودها المستقل أسمياً وإن كانت تحت نير السيطرة الأوروبية ، وكان من المفترض أن تلعب دوراً قيادياً في محيطها العربي سياسياً وفكرياً وحضارياً ، وعادت القاهرة عاصمة الدولة المصرية القطرية ، ومع تنامي التيارات القومية أصبحت القاهرة مركز ونقطة جذب متفردة بموروثها التاريخي والحضاري وقدراتها في قلب الأقليم العربي باختلاف تياراتها .. تنامي دور وطني والعودة لريادة عربية ..
هذه أربع وقفات أو حلقات سبقتها حلقات في التاريخ الوسيط والقديم وتبعتها أخرى في التاريخ المعاصر بل هناك الكثير من الأحداث البينية التي تمثل محطات محورية في تشكيل القاهرة ، ولكن كان القصد هنا هو التمثيل للمنهجبة التى نراها للتعرف على القاهــرة في إطار موروثها المتتابع الذي ينتقل بنا وبالعمران كما أشرنا بداية من مرحلة المعرفة وحالة المشاهد الصامت الى مرحلة الفكر وحالة المشارك الفاعل .. ومن الحقائق المنقولة إلى الأفكار المعقولة .. من إحصاء الحقائق الى ذات الحقيقة نفسها ، من مشاهدة الحدث وتقريره إلى الكشف عن الحادث وتأصيله وتجذيره ... من الادراك إلى الابداع ..
إذن هي منظومة المناطق التراثية .. فمن جهة أخرى وعلى مستوى تفصيلي أو محلي يمكن الكشف أو قراءة هذا الموروث المتتابع للقاهرة بذات المنهجية ، فكما يمكن تطبيقه على المدينة في إطار شمولية عمرانها ودورها ، يمكن تحقيقه على مفرداتها واجزائها التي تشكل هذا النسيج العمراني . مع مراعاة أن المنهجية في شموليتها قد ترتبط بأحداث وأبعاد تاريخية وجغرافية لها ذات الشمولية ، بينما هذه المنهجية عند تطبيقها على الجزء قد تعتمد على انساق لها محليتها القطرية أو المدينية .
ولتقريب الرؤية ـ على سبيل المثال ـ نعرج الى منطقة الأزبكية أو حارة الأزبكية أو بركة الأزبكية أو بركة بطن البقرة كما كانت تسمى في العصر الوسيط من مراحل نمو القاهرة ، أرتبطت تلك المنطقة بذات الانساق للقاهرة في شموليتها ، وتلك المنهجية ببعديها الجغرافي والتاريخي للقاهرة وموروثها المتتابع ... الجغرافي في علاقة البناء العمراني للمنطقة بالنهر ..
والتاريخي بأحداثه السياسية والاقتصادية والمجتمعية ..
وبعمق الفعل الانساني في تشكيل المجتمع وتحولاته ..
ونحاول هنا قراءة تلك المنطقة التراثية داخل ذات المنظومة ..
منطقة الأزبكيـــــة .. بركة من البرك التي تشكلت نتيجة لعلاقة موسمية سنوية بين حركة فيضان النيل وأراضي الوادي المنخفضة شرق النهر ..
• مرت البركة بتغييرات في تشكيلها وحدودها ، ولكنها ظلت حتى القرن السادس عشر جزء من النسيج الأخضر للمناطق المزروعة في الوادي الفاصل بين المدينة ومناطقها الحضرية وبين النيل بوادية وأراضيه المنخفضة .
• سنة 1517 تحديداً مع سقوط الخلافة العربية وتحول في تشكيل الدولة ودخول مصر مرحلة الولاية التابعة ، وأمست القاهرة عاصمة الولاية المنوط بها فتح مجالات للتجارة الخارجية لحساب دولة الخلافة وولايتها الأخرى ، فكانت التحولات الاقتصادية ورواج الأنساق التجارية التي دفعت بتنمية بولاق الميناء النهري شمال القاهرة وربط هذا الميناء النهري مع القلب التجاري وقصبة القاهرة مروراً بمنطقة الأزبكية بشرايين حيوية .. وتحولت الأزبكية إلى متنزه عام للمجتمع للاحتفاليات العامة والخاصة ، ومحيطها منطقة نمو طبيعي لعمران القاهرة ونقطة جذب تنامت على مدي ثلاثة القرون لسكن النخب المجتمعية والزمر السياسية من جهة بالإضافة إلى استيطان الاجانب سواء من الشرقيين أو من المستشرقين الأوربيين في نهاية القرن الثامن عشر مثل حارات الروم والفرنح وغيرها ...
• سنة 1811 وهو التاريخ الفعلي لتمكن محمد علي باشا من السيطرة على مقاليد الولاية في القاهرة ، وكان عندها بداية احتكار الدولة للمقومات الاقتصادية وخاصة الأراضي الزراعية ، والتوجه المركزي للسيطرة والتحكم في شبكات الري من خلال المشروعات التي تبنتها الدولة ، وكانت بداية التحكم نسبياً في حركة النهر وفيضانه .. وتحولت بركة الأزبكية بحدودها كاملة بعد ردمها إلى متنزه حدائقي ، وأتخذ محمد علي باشا الوالي من المنطقة الغربية للأزبكية أحد مقرات السلطة الحاكمة على التوازي مع قصور القلعة وشبرا في القاهرة .. وكان هذا بداية تحولات سياسية ومجتمعية بالمنطقة أدت إلى بداية تغيير الصورة العمرانية للمنطقة ..
• سنة 1869 خلال ولاية اسماعيل باشا وبالتزامن مع مشروعات اسماعيل العمرانية في القاهرة وحلمه الأوروبي للقاهرة وأحتفالات أفتتاح قناة السويس ، تحولت الأزبكية نفسها من متنزه مجتمعي لجميع الطبقات إلى متنزه للصفوة من النخب المجتمعية وتقلصت مساحتها وأمست مركز لثقافة تلك النخب وضمت مؤسسات جديدة مثل الأوبرا ومسرح الأزبكية ... وغيرها . وبالتدريج تقلص دور الأزبكية في حياة المدينة وأنفصلت عن عوام المجتمع وأحتفاليتهم التي عاشوها معها لثلاثة قرون سابقة ؛ ومن جهة أخرى وعلى التوازي مع تنامي وتنافس القوى الأوروبية للسيطرة على موارد مصر وأستحداث أنظمة مالية ومصرفية حديثة .. تحولت الأزبكية مع تدخل رأس المال الأحنبي فى الأقتصاد المصري إلى مركز للمؤسسات المصرفية الأجنبية وتنامت معها الأحياء السكنية للجاليات الأجنبية وأستمرت حركة التغيير مع ظهور حي الاسماعيلية والتوفيقية والناصرية .. وتزاتر أنماط العمارة الأوروبية كنسق عام للمنطقة وأنشطتها ..
وختاماً .. إن تغيير الأنساق السياسية والأقتصادية وما يرتبط بها من أحداث تاريخية وتأثيرات مجتمعية سواء على المستوى الشمولي خارجياً أو داخلياً ، أو على المستوى المحلي التفصيلي هو جزء من الموروث المتتابع للمدينة .. كما أن الوضعية الجغرافية للمدينة وكياناتها وما تحمله من ثوابت ومتغيرات هي كذلك محورا من محاور هذا الموروث . وهكذا نحن نغوص في عمق المكان ونعبر الزمان بحثا عن الدر المكنون .. صورة نرسم ملامحها من تتبع الموروث العمراني والمجتمعي للقاهرة لتكون صياغة لفهم عمران القاهرة حاضرة مصر ... بعيداً عن أي تقييم عمراني أو معماري أو حتى أخلاقي وتاريخي ، ولكنها العلاقة الجدلية التي نقصدها من منهجية هذه القراءة لعمران القاهرة في بعديها المكاني والزماني ، ولتكن محاولة عودة الروح والذاكرة .. نرجو منها عند إكتمالها وبقدر جديتها وصدقها ، أن تكون فاعلة ولها مصدقياتها ، وأن تكون جادة وجديدة ، اضافة تصبو لحالة المضاف والمضاف إليه ..
ويبقى الجوهر المكين في ذات المكان والانسان واحد متوحد ..
فالعمـــــــــران هو دائماً ....
ظل الانســـــــان
على المكـــــــان
في الزمــــــــان
والموروث المتتابع لعمران القاهرة هو محصلة هذه الجدلية ...
طـــارق والي
ديسمبر 2010
Published on August 23, 2015 01:32
¬¬¬جدليـــــــة الانســـــان والتراث ..
إن ذروة ما يقدمه الإنسان من ذاته هو تشكيل بيئة من إبداعه ، تحاور البيئة الطبيعية وتحترم الإبداع المطلق للخالق ، وتسبح معها وبها له المبدع المصور .. وقمة معراج هذا التسبيح المتصاعد هو فهم الجدلية بين إبداعات الإنسان المخلوق من روح الخالق وخليفته في الأرض ، وبين تلك البيئة الطبيعية المخلوقة المسخرة للإنسان بإرادة الخالق .. سبحانه .
والبيئة الطبيعية التي هي المكان بجغرافيته وتاريخه هي قلب العمارة والعمران ومنبتهما الأبدي ومنتهاهما الأزلي .. وإدراك شفرة تلك البيئة التي يعبر عنها بالشخصية سواء الطبيعية أو العمرانية هو العمود الفقري للطبيعة أو العمران ذاته ..
هي أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتنويعات وأحداث تاريخية وإبداعات ..
تتعدى كل هذا المجموع أو محصلته ..
تتسع لتراكم وتتابع إبداعات الإنسان المستوطن لمكان بعينه .. تتابعــــــاً أو تعاقباً ..
أستمراراً أو تقاطعاً ..
أتصــالاً أو أنفصالاَ ..
ويبقى أن يكتشف المعماري والعمراني ما يعطي للمكان تفرده وتميزه عن سائر الأمكنة ، حتى تتوالد لدينا القدرة على النفاذ إلى روح المكان والإنسان والكشف عن تلك الشخصية المتفردة من خلال قراءة موروثها الحضاري ..
هنـــا .. نستكشف عبقرية المكان والإنسان الذاتية معاً .. تفاعلاً وتجاوباً ..
ومن هذه العبقرية تخرج عمارة وعمران المكان هي إبداعات الإنسان كما نفهمها ونصبو إليها ، وعندها كانت دوماً جدلية أخرى بين الثوابت الجغرافية للمكان والمتغيرات التاريخية وأحداثه ..
فالعمارة والعمران أسلوب حياة الانسان والمجتمع ، ظل هذا الانسان في الزمان على المكان ..
ومحتوى هذه الممارسة المهنية والحياتية وقلبها دائماً هو ذلك المطلب المجتمعي والإنساني وهو حصيلة وضع إجتماعي معين وليس مجرد تجريد خيالي ، وهو يتكون من مكونات متداخله أحياناً ..
ومتعارضة أحياناً أخرى ..
ولكنها دائماً متلازمة ، سواء كانت تلك هي الوظائف النفعية أو تلك الوجدانية أو هي التقنيات العلمية ...
تتشابك جميع تلك المكونات وتتفاعل لتبلور المطلب المجتمعي العام في لحظة تطورية معينة ، في اطار محددات ثقافية تتسع لقبول المتغيرات صعوداً أو هبوطاً في السلم الحضاري العمراني والمعماري ، متجسدة في النهاية بالوجود المادي لمبنى أو مدينة .
وتبقى الجدلية ما بين هذا الوجود المادي المتوارث مع تتابع الاجيال والأزمان وبين ذلك المطلب المجتمعي الأصيل أو بين المستحدث مع متغيرات العصر المتمثل لفكرة غير جامدة تحمل بداخلها ديناميكية التحول من جهة ؛ ومن جهة أخرى تستمر الجدلية بين هذا الوجود نفسه وبين التقنية المعاصرة له بعناصرها الفكرية والمادية والذاتية الخاصة .
وهكذا فالعمارة والعمران في معاصرتهما وفي تشكيلهما لتراث المجتمع وموروثاته الحضارية المتطورة والمتنوعة تخضع لهذه العلاقات الجدلية بما تحمله من تناقض وتفاعل ، وأيضاً من تحول يرتبط بالمتغيرات المجتمعية للانسان ذاته . فالتراث المعماري والعمراني لمجتمع معين ، هو عبارة عن تاريخ تطور هذه العلاقات الجدلية ما بين المطلب المجتمعي المرتبط بالوضع الاجتماعي لهذا المجتمع والذي لا يستقر في حالة إستكانة بل هو في حالة ديناميكية مستمرة التغيير ؛ وبين المرحلة التقنية للمرحلة التاريخية المعينة التي كانت متعايشة ومتزامنة ومعاصرة هذا المطلب .
فالمطالب المجتمعية هي مسألة عامة ، إلا أن كل من ترجمتها وتحويلها من فكر مجرد إلى وجود مادي ينطويان على عملية متعاقبة المراحل محورها الانسان الفرد بكل ما يحمله من تفاعلات وقدرات ابداعية ذاتية ، وهو ما يعطي للوجود المادي المتمثل في التشكيل المعماري أو العمراني خاصيته وتميزه من فردية مبدعه ، فالمسألة تصبح إذن في مصبها مرتبطة بذاتية الانسان ..
كما أنها معتمدة على جماعية المطلب ..
هكذا فإن استقراء التراث والذات الانسانية معاً يعتمد على القدرة على أستقبال الرسالة بعقلانية تحترم وجدانها ؛ وإذ كنا نريد أن نقتنص روح هذا التراث والانسان ، فالمطلوب دراسة تلك الروح وفك شفرتها ولكنه ليس تحليل يهدر الروح والحياة أو مجرد فحص لمومياء محنطة أو جثة فارقتها الحياة ..
إننا كمعماريين وعمرانيين نتطلع إلى أن نعتصر روح المكان والمجتمع ، نستقطر الجغرافيا والتاريخ معاً بكل تنويعاتهما وتشعباتهما ، حتى نستقطر هذه الشفرة في أدق مقولة مرسلة مقبولة ومعقولة ، لتستحق أن تكون منقولة ومتوارثة ..
تضمن الحياة ولكنها لا تتجمد عندها ..
تحمل ديناميكية التغيير والأجتهاد والإستيعاب والفهم والتعقل ..
هنا يتحتم علينا فهم تلك العلاقات الجدلية بين الانسان بذاتيته وتراثه بعموميته وجماعيته ، حتى يمكننا التفاعل مع الموروث وابداع الجديد لنورثه ..
والبيئة الطبيعية التي هي المكان بجغرافيته وتاريخه هي قلب العمارة والعمران ومنبتهما الأبدي ومنتهاهما الأزلي .. وإدراك شفرة تلك البيئة التي يعبر عنها بالشخصية سواء الطبيعية أو العمرانية هو العمود الفقري للطبيعة أو العمران ذاته ..
هي أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتنويعات وأحداث تاريخية وإبداعات ..
تتعدى كل هذا المجموع أو محصلته ..
تتسع لتراكم وتتابع إبداعات الإنسان المستوطن لمكان بعينه .. تتابعــــــاً أو تعاقباً ..
أستمراراً أو تقاطعاً ..
أتصــالاً أو أنفصالاَ ..
ويبقى أن يكتشف المعماري والعمراني ما يعطي للمكان تفرده وتميزه عن سائر الأمكنة ، حتى تتوالد لدينا القدرة على النفاذ إلى روح المكان والإنسان والكشف عن تلك الشخصية المتفردة من خلال قراءة موروثها الحضاري ..
هنـــا .. نستكشف عبقرية المكان والإنسان الذاتية معاً .. تفاعلاً وتجاوباً ..
ومن هذه العبقرية تخرج عمارة وعمران المكان هي إبداعات الإنسان كما نفهمها ونصبو إليها ، وعندها كانت دوماً جدلية أخرى بين الثوابت الجغرافية للمكان والمتغيرات التاريخية وأحداثه ..
فالعمارة والعمران أسلوب حياة الانسان والمجتمع ، ظل هذا الانسان في الزمان على المكان ..
ومحتوى هذه الممارسة المهنية والحياتية وقلبها دائماً هو ذلك المطلب المجتمعي والإنساني وهو حصيلة وضع إجتماعي معين وليس مجرد تجريد خيالي ، وهو يتكون من مكونات متداخله أحياناً ..
ومتعارضة أحياناً أخرى ..
ولكنها دائماً متلازمة ، سواء كانت تلك هي الوظائف النفعية أو تلك الوجدانية أو هي التقنيات العلمية ...
تتشابك جميع تلك المكونات وتتفاعل لتبلور المطلب المجتمعي العام في لحظة تطورية معينة ، في اطار محددات ثقافية تتسع لقبول المتغيرات صعوداً أو هبوطاً في السلم الحضاري العمراني والمعماري ، متجسدة في النهاية بالوجود المادي لمبنى أو مدينة .
وتبقى الجدلية ما بين هذا الوجود المادي المتوارث مع تتابع الاجيال والأزمان وبين ذلك المطلب المجتمعي الأصيل أو بين المستحدث مع متغيرات العصر المتمثل لفكرة غير جامدة تحمل بداخلها ديناميكية التحول من جهة ؛ ومن جهة أخرى تستمر الجدلية بين هذا الوجود نفسه وبين التقنية المعاصرة له بعناصرها الفكرية والمادية والذاتية الخاصة .
وهكذا فالعمارة والعمران في معاصرتهما وفي تشكيلهما لتراث المجتمع وموروثاته الحضارية المتطورة والمتنوعة تخضع لهذه العلاقات الجدلية بما تحمله من تناقض وتفاعل ، وأيضاً من تحول يرتبط بالمتغيرات المجتمعية للانسان ذاته . فالتراث المعماري والعمراني لمجتمع معين ، هو عبارة عن تاريخ تطور هذه العلاقات الجدلية ما بين المطلب المجتمعي المرتبط بالوضع الاجتماعي لهذا المجتمع والذي لا يستقر في حالة إستكانة بل هو في حالة ديناميكية مستمرة التغيير ؛ وبين المرحلة التقنية للمرحلة التاريخية المعينة التي كانت متعايشة ومتزامنة ومعاصرة هذا المطلب .
فالمطالب المجتمعية هي مسألة عامة ، إلا أن كل من ترجمتها وتحويلها من فكر مجرد إلى وجود مادي ينطويان على عملية متعاقبة المراحل محورها الانسان الفرد بكل ما يحمله من تفاعلات وقدرات ابداعية ذاتية ، وهو ما يعطي للوجود المادي المتمثل في التشكيل المعماري أو العمراني خاصيته وتميزه من فردية مبدعه ، فالمسألة تصبح إذن في مصبها مرتبطة بذاتية الانسان ..
كما أنها معتمدة على جماعية المطلب ..
هكذا فإن استقراء التراث والذات الانسانية معاً يعتمد على القدرة على أستقبال الرسالة بعقلانية تحترم وجدانها ؛ وإذ كنا نريد أن نقتنص روح هذا التراث والانسان ، فالمطلوب دراسة تلك الروح وفك شفرتها ولكنه ليس تحليل يهدر الروح والحياة أو مجرد فحص لمومياء محنطة أو جثة فارقتها الحياة ..
إننا كمعماريين وعمرانيين نتطلع إلى أن نعتصر روح المكان والمجتمع ، نستقطر الجغرافيا والتاريخ معاً بكل تنويعاتهما وتشعباتهما ، حتى نستقطر هذه الشفرة في أدق مقولة مرسلة مقبولة ومعقولة ، لتستحق أن تكون منقولة ومتوارثة ..
تضمن الحياة ولكنها لا تتجمد عندها ..
تحمل ديناميكية التغيير والأجتهاد والإستيعاب والفهم والتعقل ..
هنا يتحتم علينا فهم تلك العلاقات الجدلية بين الانسان بذاتيته وتراثه بعموميته وجماعيته ، حتى يمكننا التفاعل مع الموروث وابداع الجديد لنورثه ..
Published on August 23, 2015 01:31
March 20, 2013
رؤية نحو تنمية المجتمعات العمرانية القائمة
تقديم عـــــام ..
تهدف هذه الرؤية إلى تنمية المجتمعات العمرانية القائمة وخاصة الحضرية منها ، وذلك من خلال وضع منظومة تعتمد على إستقراء إشكاليات العمران وما تعانيه هذه المجتمعات من ظواهر للتدهور والمشاكل ، حتى يمكن بلورة برامج لتنمية أي منها ، والتي يتم تحديدها وفقاً لمعايير تقييم وأولويات التنمية الشاملة للمدينة ، وبما يتوافق وظروف منطقة الدراسة وبنيتها المجتمعية والعمرانية ؛ وفي إطار شمولية مفهوم التنمية ذاتها ، والذي نحدده هنا في محاورأساسية متكاملة مع بعضها البعض ومع ما يتفرع عنها ، حيث إنه لا يمكن الفصل بينها ، وهي ..
العدالـــــة .. حق المواطنين في الحياة الكريمة وحصولهم على الخدمات والمتطلبات المعيشية والموارد الحياتية بالكيفية والنوعية المعيارية والموائمة بما يحقق تلك الحياة الكريمة ، وفي إطار أولويات المجتمع ككل حسب المعايير الأساسية للتقييم المتوافق عليها لضمان كفاءة ومساواة توزيع تلك الخدمات والمتطلبات والموارد بين المجتمعات والمناطق العمرانية المشكلة للكيان الحضري للمدينة ، وداخل أي منها على مجموع المواطنين من السكان ، لضمان جودة الحياة من كافة الجوانب ونحدد منها ..
تطوير البيئة العمرانية .. تشمل البنية الأساسية وشبكات الحركة والنظافة ... الخ .
تطوير وصيانة وإعادة تأهيل الكتلة المبنية والفراغات العمرانية ..
تنمية الخدمات العمرانية والمجتمعية ..
تحسين الظروف والحالات الإجتماعية والأوضاع المعيشية ..
تنمية الأمكانات الأقتصادية والموارد للمجتمع ..
المشاركة .. مساهمة المواطنين في كافة خطط ومراحل عملية تنمية وتطوير مناطقهم ومجتمعاتهم العمرانية ، بجهودهم الذاتية الفردية والجماعية بالتعاون مع المؤسسات المعنية بمسئوليات التنمية والتطوير ، لخلق حالة من التوازن بين الدولة والمجتمع ، مما يتطلب صياغة أطر محلية مجتمعية مؤسسية لتلك المشاركة ، وتتضمن هذه المشاركة عدة جوانب منها ..
ترسيخ المشاركة المجتمعية وتنظيم وإدارة تلك المشاركة .
إتساع قاعدة المشاركة وتعميق مضمون المشاركة الفعالة والإيجابية .
تطوير الإدارة المحلية وكفاءة الآليات المنظمة للمشاركة .
الأستدامة .. إيجاد القدرات الذاتية للمجتمع مع أمكانية تطورها لمعاصرة المتغيرات لتحقيق الموائمة المستمرة ، وهو يتطلب من المنتفعين الفاعلية والمساهمة والإيجابية في تنفيذ البرامج والمشروعات التنموية . وتعتمد الأستدامة على الأساليب الممنهجة للتمويل ، ومنها مساندة الدولة والمنظمات غير الحكومية والجمعيات المجتمعية الأهلية والإئتمانية والتعاونيات وما شابهها ؛ بالإضافة إلى الأشكال غير المباشرة لحشد الموارد ، عن طريق المشاركة بالأرض وتحول المستأجرين إلى مشاركين في الملكية وتنمية تلك الأملاك وغيرها من الأنساق التي تمكن المجتمع من المساهمة في توفير التمويل والموارد حالياً ومستقبلاً ..
ونحدد ملامح هذه الرؤيــــة " نحو تنمية المجتمعات العمرانية القائمة " من خلال ..
المفاهيم الفلسفية للتنمية ..
مفهوم فلسفة العدالـــــة ..
يتركز مفهوم فلسفة العدالة في حق كافة المواطنين في الحياة الكريمة ، وحصولهم على الخدمات والأحتياجات الأساسية وتوافرها في إطار بيئة ملائمة ، ووجوب قيام المؤسسات المعنية في الدولة على تحسين نوعيتها وضمان كفاءة توزيعها بما يتناسب ومتطلبات وظروف كل المجتمعات المشكلة لكيان المدينة ، ولتحقيق ذلك يتحتم إدماج النواحي الإجتماعية في المنظومة التنموية حتى تتوفر العدالة والمساواة بين كل الفئات حالياً ومستقبلاً ، لتحقيق مبادئ أساسية هي ..
تشكيل وتفعيل القدرة الذاتية لأفراد المجتمع في عمليات التنمية العمرانية وتنفيذ مشروعاتها .
زيادة سلطة فئات المجتمع بمختلف مستوياتها للسيطرة على الموارد والقرارات المؤثرة على حياتهم ووضع التشريعات لتفعيل تلك السلطات المجتمعية .
ضمان العدالة المجتمعية والمساواة في توزيع الفوائد الناتجة عن أعمال التنمية ، وحصول الجماعات الأضعف على المنافع المتوقعة منها ، وهذا مشروط بفاعلية المشاركة المجتمعية.
مفهوم فلسفة المشـاركة ..
يتمحور مفهوم المشاركة حول إسهام المواطنين من أفراد المجتمع بجهودهم الذاتية بشكل فعال فردي أو جماعي في عملية التنمية مع كافة المؤسسات الرسمية ، لإيجاد نوع من التوازن بين مؤسسات الدولة المنوطة بأعمال العمران وبين المؤسسات المجتمعية ، ولا يجب أن ينازع أحد حق المواطن في تحديد الأحتياجات ورسم السياسات والمساهمة في تنفيذها ومتابعتها وتقييمها ، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال مجتمع المشاركين أنفسهم وفعاليتهم . وتزداد أهمية هذا عند المعاناة من إشكالية العدالة بمختلف أشكالها وما يتبعه من تدهور عمراني بغض النظر عن المستويات الإجتماعية والأقتصادية لتلك المجتمعات ، ومن المؤكد أن المشاركة المجتمعية تقوي الإنتماء والحرص على المال والأملاك العامة مما يحقق الأهداف المرجوة حالياً ، والأستدامة مستقبلياً .
مفهوم فلسفة الأستدامة ..
يعتمد مفهوم الإستدامة على إيجاد القدرات الذاتية للمجتمع مع أمكانية تطورها ومعاصرتها لأية متغيرات مستقبلية بما يحقق الموائمة المستمرة ، وهو يتطلب من المنتفعين فاعلية المساهمة الإيجابية والمستمرة أثناء تنفيذ البرامج والمشروعات التنموية ومراحل تشغيلها ، بالإضافة لدور المؤسسات الرسمية بالدولة المعنية بهذا المجال . ومن المشاكل الرئيسية التي تواجه أعمال التنمية في إطار فلسفة الأستدامة والمشاركة هو التحديد المسبق لألتزامات الإنفاق وجداول تنفيذ البرامج والمشروعات وهو ما يمثل عبء على المجتمع يتطلب وضع منهجية وآليات غير تقليدية للتمويل . ويصبح من الأفضل أن تكون المشاركة في مشروعات تنمية محددة ومتوسطة الحجم أو صغيرة ، مع تحقيق مرونة تتجاوب مع النمو التدريجي لقدرة المجتمع ، وخاصة في منهجية التمويل المعتمدة لسياسات الإقراض ، ليكون التمويل بضمان الجماعة والسداد بالمشاركة الجماعية أو التعاونية .
منهجيات التنميــــــة ..
منهجية العدالـــــة ..
تتحقق العدالة من خلال منظومة متكاملة ومتداخلة ترسم منهجية عامة لتوفير متطلبات الحياة الكريمة والخدمات لجميع المواطنين بالكيفية والنوعية المعيارية المناسبة والمتوائمة مع إمكاناتهم ، وفي إطار من المساواة ، وتتطلب تلك المنهجية وضع الأسس لتقييم أوضاع المجتمعات العمرانية وما تعانيه من قصور وما تحتاجه من متطلبات ، ووضعها في سلم أولولويات يحقق العدالة للمجتمع ككل ، وعموماً تتحدد هذه المنهجية ، وتبعاً لمعايير التقييم ، في ثلاث محاور ..
التدخلات العمرانية السكنية والمجتمعية .. تلبية المتطلبات الآنية والمستقبلية وتحقيق معايير الملائمة لحياة كريمة وآمنة حسب الأوضاع العقارية والأمكانات القيمية وبمشاركة مجتمعية .
الخدمات المجتمعية الحياتية والمعيشية .. تنمية كافة الخدمات الأساسية بالأستغلال الأمثل للأراضي المتاحة وظروف المنطقة وتطوير شبكات الحركة والمواصلات والأتصالات .
الأمكانات الأقتصادية .. تنمية الخدمات التجارية الحياتية والمعيشية وتطوير العناصر الانتاجية الخدمية وتوفير التمويل للمشروعات التنموية ، وتطوير المهارات من خلال برامج التدريب .
منهجية المشـــاركة ..
تتم المشاركة المجتمعية بشكل فردي أو جماعي ، وتتبلور الجماعية خلال كيان مؤسسي يمثل مجموع أفراد المجتمع ، تكون له شرعيته المجتمعية ووضعيته القانونية تعطيه الصلاحية في هذه الشراكة ، ويكتسب أهميته لدوره في مساعدة المواطنين بأختلاف طبقاتهم وفئاتهم للقيام بأدوارهم ، ولحماية حقوقهم ومصالحهم وتمثيلهم مع الجهات المعنية بالتنمية والتطوير والتمويل . ويعتمد تشكيل ذلك الكيان على إسقراء البنية العمرانية والإجتماعية للمجتمع والمنطقة وبنيتها المورفولوجية من وحدات متآلفة مجتمعياً ، وأختيار مندوبين لكل وحدة ليشكلوا تمثيلاً توافقياً أمثل للمجتمع ؛ وتتحقق منهجية المشاركة بتحديد الجهات المشاركة والمتعاونة في عمليات التنمية ، وهي ..
القطاعات الحكومية .. المسئولة عن المرافق والخدمات العامة وإدارة العمران وتنظيمه .
القطاع الخاص .. المشارك في مشروعات تنموية في إطار الرؤية المتوافق عليها للتنمية .
المنظمات غير الحكومية .. الجميعات العاملة بمجال التنمية والقائمة بالجهود الذاتية للمواطنين.
المؤسسات الأهلية .. متمثلة في السكان ومن يمثلهم للمساهمة فيما يتعلق بحقوق المواطنين .
منهجية الأستدامة والتمويل ..
تعتمد الأستدامة والتمويل على الأساليب الممنهجة من أجل جذب الموارد ، ويرتبط نجاحها بمدى شعور المواطنين بالتحسن الفعلي في معيشتهم . ومن المنهجيات الحيوية لتمويل عملية التنمية خاصة للأسر الأكثر فقراً مساندة الدولة والمنظمات غير الحكومية والجمعيات المجتمعية الإئتمانية والتعاونيات وما شابهها ، وتقديم القروض الصغيرة لتلك الشرائح المجتمعية بطريقة بسيطة في التطبيق وبإجراءات سداد مرنة ؛ وفي نفس الوقت تعمل المؤسسات المجتمعية والتعاونيات كضامن للأفراد في القروض التي يحصلون عليها ؛ وتركز منهجية التمويل عموماً على هذه التعاونيات بمساندة من الدولة وصناديق التمويل لأستمرار الحصول على التمويل والموارد المطلوبة .
آليـــــات التنميــــــة ..
آليــات العدالـــــة ..
يتطلب تحقيق العدالة وضع الخطط التفصيلية وتحديد المشروعات المطلوبة لتنفيذ البرامج والسياسات المعتمدة للتنمية بهدف توفير متطلبات الحياة الكريمة والخدمات لجميع أفراد المجتمع بالكيفية المنشودة ، بالإضافة إلى صياغة وتوفير مصادر التمويل لتلك المشروعات في إطار خطة زمنية واضحة ومحددة . ويجب أن تتسق تلك الخطط والبرامج بالمحاور المشكلة لهذه الرؤية ومن خلال المشاركة المجتمعية الفعالة ، وتتحدد ملامح هذه الآليات فيما يلي ..
أختيار منطقة الدراسة ومجتمعها العمراني حسب أولويات التقييم االعامة .
أعداد الدراسات العمرانية والمجتمعية للوضع الراهن لمنطقة الدراسة مع المشاركة المجتمعية .
تحليل عناصر الدراسات مقارنة تحليلية مجمعة وتحديد القيم النسبية لتحقيق متطلبات المجتمع .
اعداد خطط وبرامج التنمية الشاملة والتفصيلية وآليات ومستندات تنفيذ مشروعات التطوير .
تحديد أولويات التنفيذ وتقدير المتطلبات المالية وتوفيرمصادر التمويل تبعاً وامكانات المجتمع .
آليــات المشاركة ..
تغطي آليات المشاركة مجموعات مختلفة من المجتمع لضمان أن تصبح مشاركة مجتمعية وليست مشاركة بعض أصحاب المصالح أوالمجموعات المهيمنة والمهتمة بمشروعات التنمية ، ومن خلال تلك المشاركة المجتمعية في عملية التنمية نحقق الأهداف المرجوة . وتبقى آليات المشاركة على مستويين الفردي المباشر والجماعي الممثل للبنى المجتمعية ويمكن تتبع العديد من الآليات وتطبيقها طبقاً لطبيعة المشاركة ومستوياتها وفاعليتها ومتطلباتها ، ومنها على سبيل الأسترشاد ..
الزيارات الميدانية والمسح الأجتماعي والسكاني والعمراني .. لأستطلاع الرأي الفردي المباشر حول أحتياجات ومتطلبات أفراد المجتمع بكل تركيباته وطبقاته .
اللقاءات العامة في المنطقة محل التنمية والتطوير .. لتبادل الرؤى والأفكار الأساسية مع أفراد المجتمع قبل وضع المقترحات التصميمية للمشروعات.
الأجتماعات المتخصصة بشئون العمران .. للمشاركة في عمليات التنمية وصنع القرارت ، سواء أجتماعات عامة أو نوعية للوصول لرؤية توافقية بين المتخصصين وبين أفراد المجتمع.
برامج تدريب مجموعات من المجتمع .. في المجالات المرتبطة بمشروعات التنمية ومتطلباتها التنفيذية ومتابعة تشغيلها وإدارتها ضماناً لأستدامة التنمية بآليات ذاتية فاعلة في المجتمع .
آليــات الأستدامة والتمويل ..
يمكن تحقيق الأستدامة من خلال أيجاد آليات للتمويل بشكل مباشر أوغير مباشر بالإضافة إلى ما يمكن أن تقدمه الدولة ضمن ميزانياتها وخططها لتلك المشروعات وهو حق أصيل للمجتمع ، ونقصد بالآليات المباشرة توفير التمويل اللازم لخطط ومشروعات التنمية التي تحددها الدراسات العمرانية والمجتمعية وسلم الأولويات ، وذلك عن طريق القنوات الأساسية التالية ..
هيئات التمويل الدولية المشروعة .. والتي لها صناديق خاصة لتمويل مشروعات التنمية.
هيئات التمويل المحلية .. العاملة في برامج التنمية سواء الرسمية أو المجتمعية والأهلية .
التمويل الذاتي .. وهو أشتراك أبناء المنطقة القادرين في التمويل ولو بشكل رمزي .
توفير امكانية الأقتراض .. لتنفيذ المشروعات التنموية المتناهية الصغر لمحدودي الدخل .
ونحدد الآليات غير المباشرة للأستدامة وحشد الموارد ، على سبيل الأسترشاد وليس الحصر في ..
المشاركة في الأرض .. الأرض أحد أهم موارد برامج التنمية العمرانية والمجتمعية ، حيث أن السوق لا يسمح لذوي الدخل المحدود والفقراء والطبقات المتوسطة من الحصول عليها ؛ لذا تعتبر هذه أحدى آليات توفير الموارد من خلال المشاركة بين المالك والمقيم المنتفع .
تطوير الملكية العامة للأراضي .. قيام الجمعيات الأهلية الممثلة للمجتمع بإستلام تلك الأراضي بسعر مدعم وتطويرها لفائدة محدودي الدخل ضمن مشروعات تنمية المنطقة .
تطوير القطاع الخاص للأراضي .. ضمن الإطار العام للتنمية والحفاظ على النسيج الأجتماعي فتوسع مشاركة القطاع الخاص الأستثماري له تأثيره السلبي والدفع للفئات الأضعف للهجرة .
مراجعة وإصدار القوانين .. المؤثرة على العلاقات البنيوية العمرانية ومنها قوانين التأجير والبيع وأعمال الهدم والصيانة والترميم ، والتخطيط العمراني وتراخيص البناء .. وغيرها .
الخلاصــــــــة ..
يتطلب تحقيق هذه الرؤية تبني سياسات ووضع خطط عمل تفصيلية وبرامج تمويل تكمل بعضها البعض لتصبح أساساً للقيام بالمشروعات التنموية في المجتمعات العمرانية القائمة في مناطق محددة تعاني من مشاكل أو قصور ، ويتم أختيارها وتحديدها وفقاً لمعايير تقييم وأولويات التنمية الشاملة للمدينة من جهة ، وبما يتوافق والظروف المحلية لمنطقة الدراسة وبنيتها المجتمعية والعمرانية من جهة أخرى ، تحقيقاً للمحاور الأساسية لهذه الرؤية . وتتسم تلك الخطط والبرامج بأهداف محددة وبرامج زمنية للتنفيذ ، ومن خلال مشاركة مجتمعية فعالة ، وتتحدد الملامح الهيكلية فيما يلي ..
أعتماد الأستراتيجية العامة ووضع سياسات التنمية والمشاركة المجتمعية .
أختيار المنطقة حسب أولويات التقييم والتعريف بمنطقة الدراسة ومورفولوجيتها وقيمتها.
القيام بأعداد الدراسات العمرانية والمجتمعية للوضع الراهن في المنطقة ، وتشمل ..
الدراسات العمرانية العامة لمنطقة الدراسة المباشرة والمجال العمراني الأشمل لها .
تقييم الاوضاع السكنية الراهنة وكيفية تحقيق المسكن الملائم مع مشاركة السكان لتوضيح رأيهم واحتياجاتهم ومشاكلهم .
حصر أعداد ونوعية الخدمات المتوفرة على مستوى حدود التطوير ومستوى المنطقة الاشمل وتحديد كفاءتها ومدي ملائمة الوضع الراهن لاحتياجات المجتمع وخدمته .
تقييم الأوضاع والموارد والبنية الاقتصادية والانتاجية على مستوى حدود التطوير ومستوى المنطقة الاشمل وتحديد كفاءتها ومدي ملائمة الوضع الراهن لاحتياجات المجتمع وخدمته .
القيام بمقارنة تحليلية مجمعة لعناصر الدراسات لتحديد القيم النسبية لتحقيق المتطلبات المعيشية.
اعداد خطط التنمية الشاملة والتفصيلية وآليات التنفيذ ، وأعداد البرامج والمستندات التنفيذية .
تقدير المتطلبات المالية والتكلفة التقديرية للمشروعات وتوفيرها ، ووضع الخطة الزمنية للتدفق المالي لتنفيذ الخطط المعتمدة ، وتقييم الجدوى الاقتصادية لبرامج وخطط ومشروعات التطوير.
تهدف هذه الرؤية إلى تنمية المجتمعات العمرانية القائمة وخاصة الحضرية منها ، وذلك من خلال وضع منظومة تعتمد على إستقراء إشكاليات العمران وما تعانيه هذه المجتمعات من ظواهر للتدهور والمشاكل ، حتى يمكن بلورة برامج لتنمية أي منها ، والتي يتم تحديدها وفقاً لمعايير تقييم وأولويات التنمية الشاملة للمدينة ، وبما يتوافق وظروف منطقة الدراسة وبنيتها المجتمعية والعمرانية ؛ وفي إطار شمولية مفهوم التنمية ذاتها ، والذي نحدده هنا في محاورأساسية متكاملة مع بعضها البعض ومع ما يتفرع عنها ، حيث إنه لا يمكن الفصل بينها ، وهي ..
العدالـــــة .. حق المواطنين في الحياة الكريمة وحصولهم على الخدمات والمتطلبات المعيشية والموارد الحياتية بالكيفية والنوعية المعيارية والموائمة بما يحقق تلك الحياة الكريمة ، وفي إطار أولويات المجتمع ككل حسب المعايير الأساسية للتقييم المتوافق عليها لضمان كفاءة ومساواة توزيع تلك الخدمات والمتطلبات والموارد بين المجتمعات والمناطق العمرانية المشكلة للكيان الحضري للمدينة ، وداخل أي منها على مجموع المواطنين من السكان ، لضمان جودة الحياة من كافة الجوانب ونحدد منها ..
تطوير البيئة العمرانية .. تشمل البنية الأساسية وشبكات الحركة والنظافة ... الخ .
تطوير وصيانة وإعادة تأهيل الكتلة المبنية والفراغات العمرانية ..
تنمية الخدمات العمرانية والمجتمعية ..
تحسين الظروف والحالات الإجتماعية والأوضاع المعيشية ..
تنمية الأمكانات الأقتصادية والموارد للمجتمع ..
المشاركة .. مساهمة المواطنين في كافة خطط ومراحل عملية تنمية وتطوير مناطقهم ومجتمعاتهم العمرانية ، بجهودهم الذاتية الفردية والجماعية بالتعاون مع المؤسسات المعنية بمسئوليات التنمية والتطوير ، لخلق حالة من التوازن بين الدولة والمجتمع ، مما يتطلب صياغة أطر محلية مجتمعية مؤسسية لتلك المشاركة ، وتتضمن هذه المشاركة عدة جوانب منها ..
ترسيخ المشاركة المجتمعية وتنظيم وإدارة تلك المشاركة .
إتساع قاعدة المشاركة وتعميق مضمون المشاركة الفعالة والإيجابية .
تطوير الإدارة المحلية وكفاءة الآليات المنظمة للمشاركة .
الأستدامة .. إيجاد القدرات الذاتية للمجتمع مع أمكانية تطورها لمعاصرة المتغيرات لتحقيق الموائمة المستمرة ، وهو يتطلب من المنتفعين الفاعلية والمساهمة والإيجابية في تنفيذ البرامج والمشروعات التنموية . وتعتمد الأستدامة على الأساليب الممنهجة للتمويل ، ومنها مساندة الدولة والمنظمات غير الحكومية والجمعيات المجتمعية الأهلية والإئتمانية والتعاونيات وما شابهها ؛ بالإضافة إلى الأشكال غير المباشرة لحشد الموارد ، عن طريق المشاركة بالأرض وتحول المستأجرين إلى مشاركين في الملكية وتنمية تلك الأملاك وغيرها من الأنساق التي تمكن المجتمع من المساهمة في توفير التمويل والموارد حالياً ومستقبلاً ..
ونحدد ملامح هذه الرؤيــــة " نحو تنمية المجتمعات العمرانية القائمة " من خلال ..
المفاهيم الفلسفية للتنمية ..
مفهوم فلسفة العدالـــــة ..
يتركز مفهوم فلسفة العدالة في حق كافة المواطنين في الحياة الكريمة ، وحصولهم على الخدمات والأحتياجات الأساسية وتوافرها في إطار بيئة ملائمة ، ووجوب قيام المؤسسات المعنية في الدولة على تحسين نوعيتها وضمان كفاءة توزيعها بما يتناسب ومتطلبات وظروف كل المجتمعات المشكلة لكيان المدينة ، ولتحقيق ذلك يتحتم إدماج النواحي الإجتماعية في المنظومة التنموية حتى تتوفر العدالة والمساواة بين كل الفئات حالياً ومستقبلاً ، لتحقيق مبادئ أساسية هي ..
تشكيل وتفعيل القدرة الذاتية لأفراد المجتمع في عمليات التنمية العمرانية وتنفيذ مشروعاتها .
زيادة سلطة فئات المجتمع بمختلف مستوياتها للسيطرة على الموارد والقرارات المؤثرة على حياتهم ووضع التشريعات لتفعيل تلك السلطات المجتمعية .
ضمان العدالة المجتمعية والمساواة في توزيع الفوائد الناتجة عن أعمال التنمية ، وحصول الجماعات الأضعف على المنافع المتوقعة منها ، وهذا مشروط بفاعلية المشاركة المجتمعية.
مفهوم فلسفة المشـاركة ..
يتمحور مفهوم المشاركة حول إسهام المواطنين من أفراد المجتمع بجهودهم الذاتية بشكل فعال فردي أو جماعي في عملية التنمية مع كافة المؤسسات الرسمية ، لإيجاد نوع من التوازن بين مؤسسات الدولة المنوطة بأعمال العمران وبين المؤسسات المجتمعية ، ولا يجب أن ينازع أحد حق المواطن في تحديد الأحتياجات ورسم السياسات والمساهمة في تنفيذها ومتابعتها وتقييمها ، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال مجتمع المشاركين أنفسهم وفعاليتهم . وتزداد أهمية هذا عند المعاناة من إشكالية العدالة بمختلف أشكالها وما يتبعه من تدهور عمراني بغض النظر عن المستويات الإجتماعية والأقتصادية لتلك المجتمعات ، ومن المؤكد أن المشاركة المجتمعية تقوي الإنتماء والحرص على المال والأملاك العامة مما يحقق الأهداف المرجوة حالياً ، والأستدامة مستقبلياً .
مفهوم فلسفة الأستدامة ..
يعتمد مفهوم الإستدامة على إيجاد القدرات الذاتية للمجتمع مع أمكانية تطورها ومعاصرتها لأية متغيرات مستقبلية بما يحقق الموائمة المستمرة ، وهو يتطلب من المنتفعين فاعلية المساهمة الإيجابية والمستمرة أثناء تنفيذ البرامج والمشروعات التنموية ومراحل تشغيلها ، بالإضافة لدور المؤسسات الرسمية بالدولة المعنية بهذا المجال . ومن المشاكل الرئيسية التي تواجه أعمال التنمية في إطار فلسفة الأستدامة والمشاركة هو التحديد المسبق لألتزامات الإنفاق وجداول تنفيذ البرامج والمشروعات وهو ما يمثل عبء على المجتمع يتطلب وضع منهجية وآليات غير تقليدية للتمويل . ويصبح من الأفضل أن تكون المشاركة في مشروعات تنمية محددة ومتوسطة الحجم أو صغيرة ، مع تحقيق مرونة تتجاوب مع النمو التدريجي لقدرة المجتمع ، وخاصة في منهجية التمويل المعتمدة لسياسات الإقراض ، ليكون التمويل بضمان الجماعة والسداد بالمشاركة الجماعية أو التعاونية .
منهجيات التنميــــــة ..
منهجية العدالـــــة ..
تتحقق العدالة من خلال منظومة متكاملة ومتداخلة ترسم منهجية عامة لتوفير متطلبات الحياة الكريمة والخدمات لجميع المواطنين بالكيفية والنوعية المعيارية المناسبة والمتوائمة مع إمكاناتهم ، وفي إطار من المساواة ، وتتطلب تلك المنهجية وضع الأسس لتقييم أوضاع المجتمعات العمرانية وما تعانيه من قصور وما تحتاجه من متطلبات ، ووضعها في سلم أولولويات يحقق العدالة للمجتمع ككل ، وعموماً تتحدد هذه المنهجية ، وتبعاً لمعايير التقييم ، في ثلاث محاور ..
التدخلات العمرانية السكنية والمجتمعية .. تلبية المتطلبات الآنية والمستقبلية وتحقيق معايير الملائمة لحياة كريمة وآمنة حسب الأوضاع العقارية والأمكانات القيمية وبمشاركة مجتمعية .
الخدمات المجتمعية الحياتية والمعيشية .. تنمية كافة الخدمات الأساسية بالأستغلال الأمثل للأراضي المتاحة وظروف المنطقة وتطوير شبكات الحركة والمواصلات والأتصالات .
الأمكانات الأقتصادية .. تنمية الخدمات التجارية الحياتية والمعيشية وتطوير العناصر الانتاجية الخدمية وتوفير التمويل للمشروعات التنموية ، وتطوير المهارات من خلال برامج التدريب .
منهجية المشـــاركة ..
تتم المشاركة المجتمعية بشكل فردي أو جماعي ، وتتبلور الجماعية خلال كيان مؤسسي يمثل مجموع أفراد المجتمع ، تكون له شرعيته المجتمعية ووضعيته القانونية تعطيه الصلاحية في هذه الشراكة ، ويكتسب أهميته لدوره في مساعدة المواطنين بأختلاف طبقاتهم وفئاتهم للقيام بأدوارهم ، ولحماية حقوقهم ومصالحهم وتمثيلهم مع الجهات المعنية بالتنمية والتطوير والتمويل . ويعتمد تشكيل ذلك الكيان على إسقراء البنية العمرانية والإجتماعية للمجتمع والمنطقة وبنيتها المورفولوجية من وحدات متآلفة مجتمعياً ، وأختيار مندوبين لكل وحدة ليشكلوا تمثيلاً توافقياً أمثل للمجتمع ؛ وتتحقق منهجية المشاركة بتحديد الجهات المشاركة والمتعاونة في عمليات التنمية ، وهي ..
القطاعات الحكومية .. المسئولة عن المرافق والخدمات العامة وإدارة العمران وتنظيمه .
القطاع الخاص .. المشارك في مشروعات تنموية في إطار الرؤية المتوافق عليها للتنمية .
المنظمات غير الحكومية .. الجميعات العاملة بمجال التنمية والقائمة بالجهود الذاتية للمواطنين.
المؤسسات الأهلية .. متمثلة في السكان ومن يمثلهم للمساهمة فيما يتعلق بحقوق المواطنين .
منهجية الأستدامة والتمويل ..
تعتمد الأستدامة والتمويل على الأساليب الممنهجة من أجل جذب الموارد ، ويرتبط نجاحها بمدى شعور المواطنين بالتحسن الفعلي في معيشتهم . ومن المنهجيات الحيوية لتمويل عملية التنمية خاصة للأسر الأكثر فقراً مساندة الدولة والمنظمات غير الحكومية والجمعيات المجتمعية الإئتمانية والتعاونيات وما شابهها ، وتقديم القروض الصغيرة لتلك الشرائح المجتمعية بطريقة بسيطة في التطبيق وبإجراءات سداد مرنة ؛ وفي نفس الوقت تعمل المؤسسات المجتمعية والتعاونيات كضامن للأفراد في القروض التي يحصلون عليها ؛ وتركز منهجية التمويل عموماً على هذه التعاونيات بمساندة من الدولة وصناديق التمويل لأستمرار الحصول على التمويل والموارد المطلوبة .
آليـــــات التنميــــــة ..
آليــات العدالـــــة ..
يتطلب تحقيق العدالة وضع الخطط التفصيلية وتحديد المشروعات المطلوبة لتنفيذ البرامج والسياسات المعتمدة للتنمية بهدف توفير متطلبات الحياة الكريمة والخدمات لجميع أفراد المجتمع بالكيفية المنشودة ، بالإضافة إلى صياغة وتوفير مصادر التمويل لتلك المشروعات في إطار خطة زمنية واضحة ومحددة . ويجب أن تتسق تلك الخطط والبرامج بالمحاور المشكلة لهذه الرؤية ومن خلال المشاركة المجتمعية الفعالة ، وتتحدد ملامح هذه الآليات فيما يلي ..
أختيار منطقة الدراسة ومجتمعها العمراني حسب أولويات التقييم االعامة .
أعداد الدراسات العمرانية والمجتمعية للوضع الراهن لمنطقة الدراسة مع المشاركة المجتمعية .
تحليل عناصر الدراسات مقارنة تحليلية مجمعة وتحديد القيم النسبية لتحقيق متطلبات المجتمع .
اعداد خطط وبرامج التنمية الشاملة والتفصيلية وآليات ومستندات تنفيذ مشروعات التطوير .
تحديد أولويات التنفيذ وتقدير المتطلبات المالية وتوفيرمصادر التمويل تبعاً وامكانات المجتمع .
آليــات المشاركة ..
تغطي آليات المشاركة مجموعات مختلفة من المجتمع لضمان أن تصبح مشاركة مجتمعية وليست مشاركة بعض أصحاب المصالح أوالمجموعات المهيمنة والمهتمة بمشروعات التنمية ، ومن خلال تلك المشاركة المجتمعية في عملية التنمية نحقق الأهداف المرجوة . وتبقى آليات المشاركة على مستويين الفردي المباشر والجماعي الممثل للبنى المجتمعية ويمكن تتبع العديد من الآليات وتطبيقها طبقاً لطبيعة المشاركة ومستوياتها وفاعليتها ومتطلباتها ، ومنها على سبيل الأسترشاد ..
الزيارات الميدانية والمسح الأجتماعي والسكاني والعمراني .. لأستطلاع الرأي الفردي المباشر حول أحتياجات ومتطلبات أفراد المجتمع بكل تركيباته وطبقاته .
اللقاءات العامة في المنطقة محل التنمية والتطوير .. لتبادل الرؤى والأفكار الأساسية مع أفراد المجتمع قبل وضع المقترحات التصميمية للمشروعات.
الأجتماعات المتخصصة بشئون العمران .. للمشاركة في عمليات التنمية وصنع القرارت ، سواء أجتماعات عامة أو نوعية للوصول لرؤية توافقية بين المتخصصين وبين أفراد المجتمع.
برامج تدريب مجموعات من المجتمع .. في المجالات المرتبطة بمشروعات التنمية ومتطلباتها التنفيذية ومتابعة تشغيلها وإدارتها ضماناً لأستدامة التنمية بآليات ذاتية فاعلة في المجتمع .
آليــات الأستدامة والتمويل ..
يمكن تحقيق الأستدامة من خلال أيجاد آليات للتمويل بشكل مباشر أوغير مباشر بالإضافة إلى ما يمكن أن تقدمه الدولة ضمن ميزانياتها وخططها لتلك المشروعات وهو حق أصيل للمجتمع ، ونقصد بالآليات المباشرة توفير التمويل اللازم لخطط ومشروعات التنمية التي تحددها الدراسات العمرانية والمجتمعية وسلم الأولويات ، وذلك عن طريق القنوات الأساسية التالية ..
هيئات التمويل الدولية المشروعة .. والتي لها صناديق خاصة لتمويل مشروعات التنمية.
هيئات التمويل المحلية .. العاملة في برامج التنمية سواء الرسمية أو المجتمعية والأهلية .
التمويل الذاتي .. وهو أشتراك أبناء المنطقة القادرين في التمويل ولو بشكل رمزي .
توفير امكانية الأقتراض .. لتنفيذ المشروعات التنموية المتناهية الصغر لمحدودي الدخل .
ونحدد الآليات غير المباشرة للأستدامة وحشد الموارد ، على سبيل الأسترشاد وليس الحصر في ..
المشاركة في الأرض .. الأرض أحد أهم موارد برامج التنمية العمرانية والمجتمعية ، حيث أن السوق لا يسمح لذوي الدخل المحدود والفقراء والطبقات المتوسطة من الحصول عليها ؛ لذا تعتبر هذه أحدى آليات توفير الموارد من خلال المشاركة بين المالك والمقيم المنتفع .
تطوير الملكية العامة للأراضي .. قيام الجمعيات الأهلية الممثلة للمجتمع بإستلام تلك الأراضي بسعر مدعم وتطويرها لفائدة محدودي الدخل ضمن مشروعات تنمية المنطقة .
تطوير القطاع الخاص للأراضي .. ضمن الإطار العام للتنمية والحفاظ على النسيج الأجتماعي فتوسع مشاركة القطاع الخاص الأستثماري له تأثيره السلبي والدفع للفئات الأضعف للهجرة .
مراجعة وإصدار القوانين .. المؤثرة على العلاقات البنيوية العمرانية ومنها قوانين التأجير والبيع وأعمال الهدم والصيانة والترميم ، والتخطيط العمراني وتراخيص البناء .. وغيرها .
الخلاصــــــــة ..
يتطلب تحقيق هذه الرؤية تبني سياسات ووضع خطط عمل تفصيلية وبرامج تمويل تكمل بعضها البعض لتصبح أساساً للقيام بالمشروعات التنموية في المجتمعات العمرانية القائمة في مناطق محددة تعاني من مشاكل أو قصور ، ويتم أختيارها وتحديدها وفقاً لمعايير تقييم وأولويات التنمية الشاملة للمدينة من جهة ، وبما يتوافق والظروف المحلية لمنطقة الدراسة وبنيتها المجتمعية والعمرانية من جهة أخرى ، تحقيقاً للمحاور الأساسية لهذه الرؤية . وتتسم تلك الخطط والبرامج بأهداف محددة وبرامج زمنية للتنفيذ ، ومن خلال مشاركة مجتمعية فعالة ، وتتحدد الملامح الهيكلية فيما يلي ..
أعتماد الأستراتيجية العامة ووضع سياسات التنمية والمشاركة المجتمعية .
أختيار المنطقة حسب أولويات التقييم والتعريف بمنطقة الدراسة ومورفولوجيتها وقيمتها.
القيام بأعداد الدراسات العمرانية والمجتمعية للوضع الراهن في المنطقة ، وتشمل ..
الدراسات العمرانية العامة لمنطقة الدراسة المباشرة والمجال العمراني الأشمل لها .
تقييم الاوضاع السكنية الراهنة وكيفية تحقيق المسكن الملائم مع مشاركة السكان لتوضيح رأيهم واحتياجاتهم ومشاكلهم .
حصر أعداد ونوعية الخدمات المتوفرة على مستوى حدود التطوير ومستوى المنطقة الاشمل وتحديد كفاءتها ومدي ملائمة الوضع الراهن لاحتياجات المجتمع وخدمته .
تقييم الأوضاع والموارد والبنية الاقتصادية والانتاجية على مستوى حدود التطوير ومستوى المنطقة الاشمل وتحديد كفاءتها ومدي ملائمة الوضع الراهن لاحتياجات المجتمع وخدمته .
القيام بمقارنة تحليلية مجمعة لعناصر الدراسات لتحديد القيم النسبية لتحقيق المتطلبات المعيشية.
اعداد خطط التنمية الشاملة والتفصيلية وآليات التنفيذ ، وأعداد البرامج والمستندات التنفيذية .
تقدير المتطلبات المالية والتكلفة التقديرية للمشروعات وتوفيرها ، ووضع الخطة الزمنية للتدفق المالي لتنفيذ الخطط المعتمدة ، وتقييم الجدوى الاقتصادية لبرامج وخطط ومشروعات التطوير.
Published on March 20, 2013 03:55