إن ذروة ما يقدمه الإنسان من ذاته هو تشكيل بيئة من إبداعه ، تحاور البيئة الطبيعية وتحترم الإبداع المطلق للخالق ، وتسبح معها وبها له المبدع المصور .. وقمة معراج هذا التسبيح المتصاعد هو فهم الجدلية بين إبداعات الإنسان المخلوق من روح الخالق وخليفته في الأرض ، وبين تلك البيئة الطبيعية المخلوقة المسخرة للإنسان بإرادة الخالق .. سبحانه .
والبيئة الطبيعية التي هي المكان بجغرافيته وتاريخه هي قلب العمارة والعمران ومنبتهما الأبدي ومنتهاهما الأزلي .. وإدراك شفرة تلك البيئة التي يعبر عنها بالشخصية سواء الطبيعية أو العمرانية هو العمود الفقري للطبيعة أو العمران ذاته ..
هي أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتنويعات وأحداث تاريخية وإبداعات ..
تتعدى كل هذا المجموع أو محصلته ..
تتسع لتراكم وتتابع إبداعات الإنسان المستوطن لمكان بعينه .. تتابعــــــاً أو تعاقباً ..
أستمراراً أو تقاطعاً ..
أتصــالاً أو أنفصالاَ ..
ويبقى أن يكتشف المعماري والعمراني ما يعطي للمكان تفرده وتميزه عن سائر الأمكنة ، حتى تتوالد لدينا القدرة على النفاذ إلى روح المكان والإنسان والكشف عن تلك الشخصية المتفردة من خلال قراءة موروثها الحضاري ..
هنـــا .. نستكشف عبقرية المكان والإنسان الذاتية معاً .. تفاعلاً وتجاوباً ..
ومن هذه العبقرية تخرج عمارة وعمران المكان هي إبداعات الإنسان كما نفهمها ونصبو إليها ، وعندها كانت دوماً جدلية أخرى بين الثوابت الجغرافية للمكان والمتغيرات التاريخية وأحداثه ..
فالعمارة والعمران أسلوب حياة الانسان والمجتمع ، ظل هذا الانسان في الزمان على المكان ..
ومحتوى هذه الممارسة المهنية والحياتية وقلبها دائماً هو ذلك المطلب المجتمعي والإنساني وهو حصيلة وضع إجتماعي معين وليس مجرد تجريد خيالي ، وهو يتكون من مكونات متداخله أحياناً ..
ومتعارضة أحياناً أخرى ..
ولكنها دائماً متلازمة ، سواء كانت تلك هي الوظائف النفعية أو تلك الوجدانية أو هي التقنيات العلمية ...
تتشابك جميع تلك المكونات وتتفاعل لتبلور المطلب المجتمعي العام في لحظة تطورية معينة ، في اطار محددات ثقافية تتسع لقبول المتغيرات صعوداً أو هبوطاً في السلم الحضاري العمراني والمعماري ، متجسدة في النهاية بالوجود المادي لمبنى أو مدينة .
وتبقى الجدلية ما بين هذا الوجود المادي المتوارث مع تتابع الاجيال والأزمان وبين ذلك المطلب المجتمعي الأصيل أو بين المستحدث مع متغيرات العصر المتمثل لفكرة غير جامدة تحمل بداخلها ديناميكية التحول من جهة ؛ ومن جهة أخرى تستمر الجدلية بين هذا الوجود نفسه وبين التقنية المعاصرة له بعناصرها الفكرية والمادية والذاتية الخاصة .
وهكذا فالعمارة والعمران في معاصرتهما وفي تشكيلهما لتراث المجتمع وموروثاته الحضارية المتطورة والمتنوعة تخضع لهذه العلاقات الجدلية بما تحمله من تناقض وتفاعل ، وأيضاً من تحول يرتبط بالمتغيرات المجتمعية للانسان ذاته . فالتراث المعماري والعمراني لمجتمع معين ، هو عبارة عن تاريخ تطور هذه العلاقات الجدلية ما بين المطلب المجتمعي المرتبط بالوضع الاجتماعي لهذا المجتمع والذي لا يستقر في حالة إستكانة بل هو في حالة ديناميكية مستمرة التغيير ؛ وبين المرحلة التقنية للمرحلة التاريخية المعينة التي كانت متعايشة ومتزامنة ومعاصرة هذا المطلب .
فالمطالب المجتمعية هي مسألة عامة ، إلا أن كل من ترجمتها وتحويلها من فكر مجرد إلى وجود مادي ينطويان على عملية متعاقبة المراحل محورها الانسان الفرد بكل ما يحمله من تفاعلات وقدرات ابداعية ذاتية ، وهو ما يعطي للوجود المادي المتمثل في التشكيل المعماري أو العمراني خاصيته وتميزه من فردية مبدعه ، فالمسألة تصبح إذن في مصبها مرتبطة بذاتية الانسان ..
كما أنها معتمدة على جماعية المطلب ..
هكذا فإن استقراء التراث والذات الانسانية معاً يعتمد على القدرة على أستقبال الرسالة بعقلانية تحترم وجدانها ؛ وإذ كنا نريد أن نقتنص روح هذا التراث والانسان ، فالمطلوب دراسة تلك الروح وفك شفرتها ولكنه ليس تحليل يهدر الروح والحياة أو مجرد فحص لمومياء محنطة أو جثة فارقتها الحياة ..
إننا كمعماريين وعمرانيين نتطلع إلى أن نعتصر روح المكان والمجتمع ، نستقطر الجغرافيا والتاريخ معاً بكل تنويعاتهما وتشعباتهما ، حتى نستقطر هذه الشفرة في أدق مقولة مرسلة مقبولة ومعقولة ، لتستحق أن تكون منقولة ومتوارثة ..
تضمن الحياة ولكنها لا تتجمد عندها ..
تحمل ديناميكية التغيير والأجتهاد والإستيعاب والفهم والتعقل ..
هنا يتحتم علينا فهم تلك العلاقات الجدلية بين الانسان بذاتيته وتراثه بعموميته وجماعيته ، حتى يمكننا التفاعل مع الموروث وابداع الجديد لنورثه ..
Published on August 23, 2015 01:31