دوائر

فجأة حاولت أن أتخيل أقرب الأشكال الهندسية للحياة، نفس التخيل الذي دفع العلماء في سابق الأزمان أن يقولوا أن الأرض مسطحة في باءئ الأمر ثم يجادلون ويبحثون حتى وصلوا إلى أن الأرض كروية!


معظم مجريات الحياة تحدث في دوائر ابتداء من شكل الأرض، فما الكرة إلى دائرة ثلاثية الأبعاد، وما دورة الحياة إلى دائرة تبدأ بالولادة ثم الطفولة ثم المراهقة ثم أوج الشباب ثم الموت، وخلال هذه الدورة تحدث ولادة لشخص جديد. وأخيراً وليس آخراً السعادة والحزن اللتان قال الله تعالى عنهما


فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا


ماذا يحدث إن اختلت هذه الدوائر؟!


ماشهدته كان اختلال في دائرة الحزن والسعادة، فالطبيعي أننا حتى نصل إلى الحزن يحب أن نمر ببعض المراحل -جميعها أو بعضها- تبدأ بالإنكار، ثم الغضب، ثم الإكتئاب وخيراً القبول أما مايحدث إن انتقلنا فجأة من قمة السعادة إلى قمة الحزن دون مبرر وبدون أن نمر بهذه الخطوات فهذا ما يسميه الطب الحديث: الشخصية ثنائية القطبين bipolar


Image


كانت بداية مناوبتي ، حين استُدعيت لمعاينة مريضة في قسم النساء والولادة. بدت غريبة بعض الشيء فأي امرأة قد تكون في منتهى السعادة لأنها ستفقد جنينها الذي ظل ينمو في أحشائها على مر ستة أسابيع؟!!


سألتها العديد من الأسئلة فأوضحت بشدة أنها سعيدة جداً، استغربت، لم تلبث بضع دقائق حتى وقفت على السرير الخاص بها وباتت تصرخ من شدة السعادة. حينها عرفت- طبعاً- أن هناك خلل ما!


انقضت معاناتي في محاولة انزالها التي مالبثت أن تحولت إلى بكاء على حالها، وكيف أننا نريد أن نقتلها!


سألتها عن زوجها، قالت أن أهلها زجبروها على الزواج من رجل يكبرها بـما لايقل عن عشرين عاما بسبب حالتها النفسية، ثم سألتها عن الحمل فقالت: أنا لا أصلح أن أكون أما!!


انتهى الجزء من القصة الذي يمكن روايته، أما الباقي فهو منتهى المعاناة بالنسبة لنا ومجرد يوم عادي من حياتها التي تتأرجح بين الاكتئاب الشديد وبين السعادة الغير مبررة.


المصابون بالأمراض النفسية ومشاكلهم حلقة مفرغة من حيث نظرة المجتمع لهم وأماكن العلاج..الخ


ولكن ما أود قوله هو أن هذا السيدة اعترفت بمشكلتها ولو كانت “مجنونة” بالمعنى الذي يدعيه المجتمع لما عرفت شيئاً. ثم هل من المنطق أن تصبح سيدة بهذه الحالة الصحية أُما؟! لاحق لي في أن أجيب لكني أعرف تمام المعرفة أنها وقبل أن تتم معالجتها تماماً تشكل خطراً على حياتها وعلى حياة طفلها المستقبلي في الأوقات التي تصيبها حالة الاكتئاب الشديد.


أخيراً، إسلابها لجنينها كان رحمة الله التي ستحميها وطفلها المستقبلي من مرضها، والدافع الجدّي لعلاجها ، هكذا قالت هي.


لكن تبقى مشكلة المجتمع الذي يرفض أن يعترف أن الصحة النفسية ضرورية، والزوج الذي لا يمكن أن يأخذ زوجته لطبيب حتى لا يقال عنها “مجنونة” ويعتقد أنها تستطيع أن تكون أُماً لأولاده في وضعها الحالي.


Image


 •  0 comments  •  flag
Share on Twitter
Published on May 23, 2014 03:23
No comments have been added yet.